رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العيش فى «الغيبوبة»

ثمة قناعة لدى كثير من المصريين بأن أولاد الناجحين ليس شرطًا أن يكونوا مثل آبائهم، بل والأرجح أن يكونوا أقل نجاحًا منهم، إن لم يصبحوا فشلة بشكل كامل، وما أكثر ما تسمعهم يرددون: «سبحان من يخلق من ضهر العالم فاسد ومن ضهر الفاسد عالم». المسألة قديمة تمتد بجذورها إلى عقل شهد له التاريخ، مثل عقل صلاح الدين الأيوبى الذى آمن بتلك القناعة، وكان يردد ذات المقولة التى يرددها المصريون. يشهد على ذلك ما قاله لأخيه «العادل» وهما يقفان أمام القلعة التى شيدها «الناصر» لتكون مقرًا لحكمه.. فقد دعا «صلاح الدين» لـ«العادل» بأن يسعده الله وأولاده بهذا البناء الشامخ، ولما تعجب «العادل» من قوله، ودعا له بأن يهنأ فيها هو وأولاده وأحفاده كحكام لأهل مصر، رد صلاح الدين عليه قائلًا: أنا نجيب «ذكى» ما يأتى لى أولاد نجباء.. وأنت غير نجيب فأولادك يكونون نجباء.

هل كانت المسألة مجرد نبوءة من أب حول مصير أولاده، أم وعى بقدرات من نفضهم من ظهره وقناعة بأنهم لن يستطيعوا أن ينهضوا بعبء السلطنة من بعده؟ أيًا ما كان الأمر، فقد حدث ما توقعه صلاح الدين الأيوبى، حين مات وبويع بالسلطنة من بعده لابنه العزيز بالله عثمان. وخلافًا لأبيه صلاح الدين- كردى الأصل- وأشقائه الذين أنجبهم الأب فى الشام، كان «عثمان» من مواليد مصر المحروسة، وقد أثبتت تجرتبه صدق توقع «صلاح الدين».

جلس «عثمان» على سرير الملك وهو يبلغ من العمر ٢٧ عامًا، والملفت أنه كان أصغر إخوته، لكنه تربع على ملك مصر، لأنه كان موجودًا بها، وسبق وعهد إليه أبوه «صلاح الدين» بولاية عهدها، فى الوقت الذى جعل ابنه «الأفضل» واليًا على البلاد الشامية، وابنه «المظفر» واليًا على البلاد الحلبية، وبمجرد وفاة الأب نشب صراع مرير بين أولاد صلاح الدين، أثبت نظرته إليهم ونظريته فيهم، وتحول الإخوة الأشقاء إلى «إخوة أعداء»، وكان «عثمان»، الذى أصبح ذات يوم فوجد نفسه سلطانًا على مصر، أكثرهم طيشًا واندفاعًا، وصفه «ابن إياس» قائلًا: «كان عثمان طائش العقل مخلوعًا».

على المستوى الشعبى العام اتجه «عثمان» إلى إعادة فرض الضرائب التى أبطلها أبوه صلاح الدين الأيوبى حتى يخفف عن المصريين، بل وزاد فى شناعتها بصورة أوجعت الناس، الذين زادت ضغوط الحياة عليهم. وأمام هذا الإحساس بالضغط والوجع بدأ من يمتلكون بعض الجرأة من الناس فى الحديث عن «عثمان»، ذلك السلطان الفاسد الذى جاء من ظهر السلطان العادل «صلاح الدين»، وارتفع صوتهم بالحديث عن فساد الابن وخلاعته ومجونه وجنونه. أما النسبة الغالبة من الناس فقد لجأت إلى تغييب عقلها عن طريق الخمر والمخدرات، فى محاولة يائسة للهروب من الواقع الضاغط الذى يجثم على صدورهم.

انتشرت الحانات والخمارات داخل القاهرة فى عصر عثمان بن صلاح الدين، وراجت صناعة المشروب بصورة غير مسبوقة، وكان أكثر السلع غلاءً على مستوى الثمن فى ذلك الوقت هو «العنب»، نظرًا لدخوله فى صناعة الخمر، وبسبب كثرة من يعصره داخل البيوت ويقوم بتخميره وشربه. وانتشرت أيضًا أماكن تعاطى الحشيش فى العديد من الأنحاء، وأصبح تجار هذه السلع هم الأكثر ثراءً بين الناس، وهو أمر تنبه إليه السلطان «عثمان» فقد كان يعلم بما يحققه هؤلاء التجار من مكاسب، وشجعه ذلك على فرض ضرائب كبيرة عليهم، ويحكى «ابن إياس» أنه قرر على كل حانة أو دكان يبيع خمرًا أو حشيشًا ١٦ دينارًا ذهبًا فى اليوم الواحد.

بات الناس يميلون إلى العيش فى الغيبوبة، ولم تعد سكتهم فى ذلك مجرد شرب الخمر أو تعاطى الحشيش، بل بدأوا يقبلون بكثافة عالية على كل ما يشغلهم عن الواقع أو يلهيهم عن المأساة التى يعيشونها. وكان من أدوات اللهو حينذاك «الفرجة» على وفاء النيل، كانت المشاهدة تتم من خلال تأجير موضع لقدم داخل أحد البيوت المطلة على النيل، وكان أشهرها فى ذلك الوقت بيت «ابن المقشر». دخول البيت كان أشبه بدخول السينما أو المسرح، يتم من خلال دفع تذكرة، تمنح صاحبها مكانًا يستطيع أن يشاهد منه «فم السد» وهو يفتح بوابته لينساب منه الماء يوم وفاء النيل. فى إحدى مرات المشاهدة وقعت مأساة كبرى، حين تزاحم الناس أكثر من اللازم داخل دار «ابن المقشر» على جارى العادة، حتى لم يبق موضع لقدم إنسان، وبينما كان الناس منشغلين فى الفرجة إذا بالدار تهتز، ثم تتهاوى فوق رءوس من فيها، فماتوا أجمعين، يقول «ابن إياس» إن عدد من لقوا حتفهم فى هذه الحادثة يزيد على ٥٠٠ إنسان، من رجال ونساء وأطفال، وظل الأهالى يستخرجون جثث موتاهم من تحت الأنقاض لمدة ثلاثة أيام.

سنوات متصلة حكم فيها العزيز بالله «عثمان» نجل صلاح الدين مصر، عانى الأهالى فيها كثيرًا نتيجة الضغوط المعيشية والحوادث العجيبة التى شهدها زمانه، وشاء الله أن تنتهى المعاناة فى السنة السابعة، ومن الملفت أنها انتهت بحادثة عجيبة أدت إلى وفاة السلطان. فقد خرج إلى الفيوم ذات يوم قاصدًا الصيد، وبينما هو كذلك إذ لمح ظبيًا على مبعدة منه فنغز فرسه وساق نحوه وهو يريد الوصول إليه بأقصى سرعة، ونتيجة لذلك وقع به الحصان ودخل «سن السرج» المصنوع من الحديد فى صدره فمات من وقته.

حُمل جثمان السلطان بعد ذلك إلى القاهرة، ودفن بمقابر الإمام الشافعى.. مات الرجل الذى كانت حياته مصداقًا لتوقع توقعه أبوه، بعد أن عاش مثالًا لـ«الفاسد» الذى يمكن أن يخرج من ظهر «العالم».

كأن أمثال المصريين لا تفنى ولا تستحدث من عدم.