رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يحدث الآن

جمعتني جلسة ببعض الأصدقاء ممن تعودنا الجلوس معًا للتسامر، من مستويات مختلفة، أحوالهم أقل من المتوسط، وتعليمهم يتراوح بين العالي والمتوسط، وكذلك المستوى الثقافي. وكلهم موظفون في الجهاز الإداري للدولة، وبعضهم متقاعدون، والبعض الآخر يمارس نشاطا آخر يتكسب منه بعد العمل الرسمي، الذي لا يولونه أي اهتمام. والغريب أنني لاحظت حالة من التذمر بينهم، وكانت شكواهم من الغلاء والفساد وانعدام فرص الكسب للبسطاء، وترحموا على الأيام الماضية. 

بحكم أننا في وسط الصعيد ومنطقة جافة اقتصاديا، وحولنا قرى مزدحمة إلى حد الانفجار، مما يخلق حالة من التوتر تجعل الأعصاب تنفلت. 
كانت هناك واقعة يدور حولها الحديث، وهي جريمة قتل لأسباب واهية راح ضحيتها أربعة أشخاص، وجرح أكثر من ثمانية نتيجة إطلاق نيران عشوائي على مجموعة من المصلين من بينهم أفراد كانت بينهم وبين القاتل خلافات. ولأن القاتل شاب حديث السن، ينتمي لعصبية قوية في القرية، والقتلى من عائلات متواضعة، فقد تدخلت الحكومة بعنف في محاولة منها لضبط الجناة الذين فروا إلى الجبل الشرقي الذي تعود على إيواء الخارجين عن القانون. 
الغريب أن الشرطة عندما قامت بتفتيش منازل الجناة بعد أن تركوها وهربوا اكتشفت وجود معدات وأدوات مسروقة من مشروعات قامت الدولة بتنفيذها مؤخرا في المنطقة، ووالد المجني عليهم كان يعمل خفيرا لتلك المعدات. كان الناس يتناقلون تلك الأخبار ببساطة وكأنها من مجريات الأمور العادية. ومن كثرة ما ألفوه من حوادث القتل المشابهة فقد بات الأمر طبيعيا، ونتداول فيما بيننا تلك الأخبار ببساطة متناهية وكأن شيئا لم يحدث، والغريب أن الأمور تسير بطريقة طبيعية في تلك القرية الغاضبة على أهلها رغم تمترس رجال الشرطة في المناطق المحيطة بأهالي الجناة والمجني عليهم لحمايتهم من رد فعلهم، ومحاولاتهم للثأر من مرتكب الواقعة، رغم أنه من عصبية قوية.

سألت الحاضرين عن تفسير منطقي لتلك الحوادث، فأجمعوا على أن الدولة تركت تلك القرى تنمو وتزدحم دون أن تحاول امتصاص تلك الزيادة السكانية بخلق فرص عمل لهم أو مشروعات ثقافية وإبداعية تمتص طاقة الشر لديهم لتحولها إلى حب وإنسانية.

اتهام الدولة بالتقصير أمر شائع في مصر منذ قيام ثورة يوليو، التي حاولت التدخل لصالح الفقراء، بتحطيم الأغنياء، فوزعت عليهم أراضي الأغنياء، التي ذابت بينهم ولم يعد لها وجود، وكأن شيئا لم يحدث، الأغنياء أصبحوا فقراء، ولكنهم سرعان ما نهضوا من جديد وتقربوا من رجال الحكم، وبقوا بجوارهم، ولم يحاولوا مشاركتهم فيه، ولكنهم استفادوا الكثير من المكاسب، منها شراء الأراضي الصحراوية، وشراء المصانع التي فشلت الدولة في إدارتها، وعادوا لتكوين ثرواتهم من جديد بعيدا عن صخب الحكم، وتركوا قراهم وعادوا إليها مؤخرا بالأموال، فأغدقوا على كبار العائلات كثيرة العدد بالأموال والسلاح وتعيين أولادهم وأقاربهم في مفاصل الدولة، نظير انتخابهم أعضاء في المجالس النيابية أو الاستفادة منهم في تكوين قوة ضاربة من الميليشيات البلطجية لحماية ممتلكاتهم وأملاكهم فى ربوع البلاد، والمزارع الجديدة في المناطق المستصلحة. 
هذا الوضع الجديد الذي عادت به الرأسمالية في مصر لمزاولة نشاطها، على حساب هؤلاء البسطاء الذين ارتضوا بالكفاف من هؤلاء، في غياب نشاط حقيقي للدولة لحمايتهم من أنفسهم. 

كانت فترة الانفلات الأمني في يناير 2011، وما بعدها، فرصة نادرة لتلك العائلات لاستعراض نفوذها بقوة السلاح، ومارس بعضهم السرقة وقطع الطرق والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة، ابتداء من اغتصاب بعض قطع الأراضي، إلى خطف حقائب السيدات، وسرقة إطارات السيارات وبطارياتها وأغطيتها. بل ووصل الأمر إلى بناء قصور وأبراج على ممتلكات الدولة. كل هذا حدث، وكنا نشاهده ونراه واضحا جليا، وفي وضح النهار، وتباهى بعضهم بوظائفهم ونفوذهم. 
في القرى احتمت الأقليات بالعائلات الكبرى التي فرضت نفوذها أكثر. 
وعندما حاولت الدولة استرداد هيبتها، كنا نراقب ما يحدث ونتمنى أن يتم ذلك بأقصى سرعة، وبالفعل تمكنت الدولة من فرض سطوتها، بل وقامت برد الممتلكات التي تم اغتصابها. 

وعندما حاولنا تذكير الجالسين معنا بما حدث في تلك الفترة. تجاهلوه، ولم يحاولوا تذكره. كل ما علق بأذهانهم أنهم يعيشون في الغلاء وأن مستقبل أولادهم مظلم.
دخل جلستنا صديق جديد، ليخبرنا بأن أولاده وأولاد أخيه نجحوا في الثانوية بمجموع يزيد عن التعسين في المائة، وهنا نهض أحد الجالسين وقال: الله أكبر، نريد الحلاوة. فلما أنكرها الرجل، أخبره بأنه كان يلقنهم حلول الامتحان من سماعات الأذن الحديثة، وضحكنا جميعا، وهنا قرر الرجل أن يعزمنا على وجبة غذاء في منتجع على طريق القاهرة أسيوط، عبارة عن خيمة من البوص والبناء البسيط، يقدم صاحبه وجبات من لحوم الماعز والضأن، لها طعم خرافي، مع المرقة والملوخية للسائقين على الطريق السريع. الغريب أن صاحبى ستكلفه الوجبة على الأقل ألفي جنيه، هي نصف راتبه الحكومي من وظيفته المتواضعة. سأتحدث عن دخله الإضافي الذي يمارسه فيما بعد.