رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في ذكرى رحيله الثامنة.. محطات لا تنسى لـ نور الشريف في الفن والحياة والعيش

بورتريه يجمع بين
بورتريه يجمع بين الفنان نور الشريف وزوجته / الفنانة بوسي.

قربه من رجل الشارع، لغته البسيطة، التصوير مجانًا الذي يمارسه بشغف وفرح طفولي لتكون هدايانا (أحلى صور اتصورناها في عمرنا).. كلها جوانب إنسانية عظيمة مخفاة عن جماهير ومشاهدي وعشاق فن النجم الكبير المحبوب، وستظل من أهم الأسرار التي حُجبت عن الجميع من الوسط الفني وخارجه.

بورتريه للفنان نور الشريف.

نور الشريف الذي قابلته مصادفةً في العام 1989 أمام مبنى الأهرام القديم. كنت في إجازة قصيرة من عملي كمحرر صغير يعمل بالصحافة الفنية والثقافية، كنت مشدوهًا برؤيته وجهًا لوجه، غير مصدق، بعربة فولفو نبيذية اللون توقف بعدما جريت إليه بوَلَه وكان ممسكًا بنسخة من رواية "قلب الليل" لكاتبنا العظيم أديب نوبل نجيب محفوظ، قدمت له نفسي ليقول لي في عجالة: "مكتبي هناك أهو في عمارة النهضة على رأس شارع رمسيس".

حدثته بجرأة عن ضرورة إجرائي لحوار معه فمن الممكن أن يكون هذا الحوار سببًا في تعييني بتلك الجريدة الوفدية التي كنت أعمل بها محررًا ثقافيًّا وفنيًّا، رفض نور في البدء، وتجهّمتُ وحزنتُ فقال لي: "نحاول مرة تانية، أشوفك في مكتبي"، وأشار ولوّح بيده اليسرى قبل رقم "9" عمارة النهضة بشارع رمسيس، حزنت بعد رفضه، تعلل يومها بعدم تفرغه لأنه داخل تجربة إنتاج جديدة في مغامرة فنية مع محسن زايد لإنتاج رواية "قلب الليل" المولع بها كثيرًا كنص فيه صورة سينمائية عميقة وأبعاد فلسفية متعددة الرؤى.

حصلت على تليفونه يومها، وباغتُّه بعد أسبوع بمكتبه، فقال ليك عندي لك مفاجأة طالما أنت مولع وغير حذر هكذا فيما يخص طموحاتك وأحلامك في السينما والأدب قال نور: "ايه رأيك لو عملت في المسرح؟" وقابلني بالمخرج منير راضي الذي عرّفني بسيد راضي المخرج المسرحي الكبير الراحل الذي، وفور سماعه لصوت نور عقب المهاتفة، قال له: تؤمرني.. نشغّله. 

وعملت في تجربة أولى كمساعد مخرج مع بوسي زوجة الراحل ليزورنا "محمد جابر" في يوم الافتتاح بعد حضوره يوميًّا لمراقبة العرض والتقاطه مئات الصور الفوتوغرافية..جريت إليه وقلت له: "هل تذكرني يا أستاذ"، فقال: "نعم يا حسين يا صعيدي وبورسعيدي!" وأضاف بعدما وشوش بوسي في أذنها: "بوسي بتحبك قوي وشد حيلك علشان هي مرشحاك تسافر معهم بيروت لتعرضوا دلع الهوانم هناك" ثم استدار والتقط لي خمس صور من زوايا مختلفة وصورًا أخرى عقب انتهاء العرض للمشاركين في العرض كافة حتى العمال، كان حريصًا على تقديمهم في أول الكادر. وتوالت اللقاءات في ترعة المريوطية في منزل الفنان الأوبرالي حسن كامي.وضحك نور وسعد بوجودي وكانت معه صحافية مصرة على إجراء حوار معه لمجلة الإذاعة والتليفزيون،.كانت تطارده منذ شهور ولضيق الوقت كان يعتذر أيضًا. 

في هذا اليوم سجل الحوار للصحفية الشابة القادمة من صعيد مصر خصوصًا بعد معرفته بالضرورة الملحّة لتعيينها مباشرة من خلال حوارها مع النجم الكبير.. ربت على كتفها وقال وهو يلتفت لي: "حسين دا نفسه من زمان يعمل معي حوار.. دلوقت من حقه زيك أسجل معاه". 

واقترب مني بحنو ليردد: "كلكم كده انتهازيين وكله عايز يتعين"، ضحكت، وبالفعل تعينت المحررة بعد حوارها مع نور بشهر فقط بمجلة الإذاعة والتليفزيون. فقلت له: "عارف إن حضرتك بتحب فيلم حدوتة مصرية"، فقال: "طبعا من أهم أفلام يوسف شاهين، سيرته الذاتية". قلت له: "أنا أعشق أغنية منير حدوتة مصرية". قال: "وكلام عبد الرحيم منصور". قال نور والضحكة تملأ وجهه البشوش وملامحه المرحة: "غني لي حدوتة مصرية يا حسين".. غنيتها فبكى وبكى ضياء الميرغني وتركت بوسي الأرجوحة في حديقة فيلا حسن كامي لتستمع بإنصات وتراقب دموع زوجها الذي نهض واقفًا وأشعل سيجارة في ركن منزو مظلم. سهرنا للفجر وعاد ليحدث الممثل ضياء الميرغني عن ضرورة التنوع في الشخصيات التي يقدمها وإلا سيحرق نفسه ووافقه سيد راضي الرأي. وفور انصرافنا، كانت الساعة تقترب من السادسة صباحًا ركبت مع ضياء الميرغني وفتح نور سيارته ليفاجأ بسيدة عجوز تجرُّ عربة خضار جهة ترعة المريوطية، كانت عربته تسبقنا بزوجته. 

ترك السيارة وقصد العجوز في ظل غبشة صيفية.. وتوقفت السيارات كلها على ممر عبور الترعة، نزلت أتلصص من خلفه أتابعه. لأراه منحنيًا يربت على كتف السيدة التي تشي ملامحها بتخطي الخامسة والسبعين تقريبًا. لا نعرفها ولا هو يعرفها، بعثها القدر في طريقه. ضرب يده في جيبه الخلفي وأخرج حزمة نقود.. ثم عاد للسيارة وتناول مبلغا آخر من المال من تابلونالفولفو. وضعه في يدها وضم كفيه على كف السيدة العجوز فبكت وقت أن دفعته بحب وقد طفرت الدموع من عينيها كنهر منسال ليدفع عربتها الكارو بيديه وأنا واقف مشدوه بجانبه. 

يومها أحسست بجمال الدنيا والأقدار التي ساقتنا في هذا الطريق. طلب من ضياء توصيلي لمنزلي بالعباسية. وذهبت بعد شهر تقريبًا لأجري معه حواري القديم فقال لي: "لولا رفضي لإجراء هذا الحوار من قبل ما كنت قد تركت أنت بلدك، حدثني عن بورسعيد يا عبد الرحيم" قلت: "حدثني أنت يا أستاذ". قال: "هل تعلم أنه وقت القطيعة العربية مع مصر كانت عودتي من بيروت عن طريق ميناء بورسعيد، دخلته ليلا في العام 1978 وأنا بحب البلد دي..كل الطرق مقفولة وبعد كامب ديفيد.." وصمت نور لدقائق طالت لعشر: "...لكن مش عارف أقول إيه..ياترى السادات على خطأ..ولا أحسن التصرف بتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل". 

الفنان نور الشريف وابنتيه سارة ومي.

تعددت اللقاءات بيننا. حتى زياراتي الصحفية لإجراء حوارات معه، كانت دائمًا في التاسعة صباحًا. يستيقظ مبكرًا ليقرأ الصحف كلها..وجدته ممسكًا بجريدة الأهالي حزينًا لزيارة مبارك للعاصمة البريطانية لندن في ذكرى العدوان الثلاثي على مصر وبورسعيد. علا صوته وزعق في المكتب وسمعت من يقول له: شخص لا أعرفه.

الفنان نور الشريف وزوجته بوسي.

 

سألته: يا أستاذ هذا تقديمك لفيلم الكرنك وهو ضد رأيك الذي سمعته من دقائق. فرد نور الشريف: "موقف الفنان الحق لا يمين ولا يسار ولا وسط، الفنان رسول للعدل وصاحب رسالة وداعي للحق والخير والجمال وأنا مدرك جيدًا طبيعة دور إسماعيل شيخون في الكرنك". تحدث ذلك اليوم كثيرًا نور الشريف.وكان حزينًا لعدم إقبال الجماهير على فيلمه "قلب الليل". وجاءه تليفون على الأرضي من عاطف الطيب، وذكر له الطيب رحمه الله. ما قاله المنتج مطيع والسيناريست العظيم محسن زايد: "قول لنور دا مش فيلم جماهيري من الأول أنا متأكد أنه لو صمد أسبوع في دور العرض يبقى عظيم. وادي الفيلم يعرض للأسبوع الثاني" ضحك نور فباغتُّه بسؤال عن “قلب الليل”، فقال: "كان حلم من أحلامي..جعفر الراوي كان واكل دماغي، رواية من أهم الأعمال الفلسفية للأستاذ نجيب". 

بورتريه للفنان نور الشريف.

أنتج نور بعد ذلك ومع شركة فن للإنتاج السينمائي اللبناني فيلم “ناجي العلي” مشاركة مع اللبناني وليد الحسيني لتقوم الدنيا ولا تقعد على نور وما قدّمه من إساءات للأنظمة العربية كافة. وهاجمته الصحافة وجيّش له الجيوش إبراهيم سعده رئيس تحرير جريدة الأخبار آنذاك. وعقدنا ومصر كلها بمثقفيها لقاءات تضامنية مع نور وجاءت كل الأقطاب.من أقصى اليمين لأقصى اليسار لتناصره خصوصًا أنه كان قد مُنع بشكل مريب وغير رسمي من ممارسة نشاطاته الفنية بالتليفزيون المصري، وكال بن سعدة مقالات عديدة لمهاجمته. وانتهت الموقعة بعودته للتليفزيون بعدما امتلأت نقابة الصحافيين بالآلاف من مناصري الفنان نور الشريف.

بعد ذلك بسنوات التقيته في مكتبه العام 2002 ليشكو من جحود أحد الأصدقاء، السيناريست خالد البنا وهو الذي احتضنه نور لسنوات وعيّنه مديرًا لمكتبه بشركة إنتاج (إن بي) فاتصل به خالد منذ ساعة ليخطره بتقبل أسفه وانسحابه من شركة الإنتاج السينمائي ـ كان خالد قد انتهى من كتابة السيناريو الأول وكان فيلم “جزيرة الشيطان”، فكان رد نور الشريف: عمري ما أقف أمام طموحاتك.."تعلالي وهات السيناريو.. صوره وأحضر نسختين غير الأصل المكتوب"، وقرأ السيناريو"يتصل نور بعدها بخمسة عشر يومًا بالنجم الكبير عادل إمام مبلغًا إياه بضرورة اطلاعه على هذا السيناريو الجديد.الذي كتبه "شاب قابلته عندي منذ سنوات".

وضحك عادل وقرأ السيناريو وعجبه بشكل ما مع تغيير تفاصيل ومشاهد وأجزاء كثيرة من الحوار. قدّم عادل الفيلم وعرض لأسابيع طويلة بدور السينما في مصر. وحاول بعدها خالد الاعتذار فلم يلتفت نور لأية اعتذارات غير ستة كلمات خرجت من فيه للسيناريست المغمور: "ماتنساش يا خالد إن في نجاحك أنت أو أي موهبة جديدة ستضيف الكثير والجديد للسينما". 

وفي الحفل الخاص بالعرض الخاص لفيلم الكيتكات بسينما كريم 2 وفي أثناء جلوسي في الظلمة بجانب السيناريست وحيد حامد والمخرج داود عبد السيد. سمعت من يشيع أن هناك جفوة أو خصومة بين نور الشريف ومحمود عبد العزيز.كان يوسف شاهين يهرول بعدما انطفأت الأنوار لأنه هو من كان يؤجر ويدير سينمات كريم 1،2، وأوديون.. بدأ الفيلم..سمعت نور يلزم مقعده خلفي مباشرةً.وجلس محمود عبد العزيز أمامي وانتهى نصف الفيلم.وفي مشهد موت بائع الفول، سمعت نور يبكي. في الظلام. وانتهى الفيلم على تصفيق حاد ومدوي لمدة قاربت ربع الساعة.وتضاء الأنوار ويهرول نور ليحتضن محمود ويبكيان معًا والشريف يردد: "ياااه يا محمود عمري ما أحلم أقدم الدور كده، قتلتني مرات بإيماءات عيون الشيخ حسني، يا حبيب عمري يا محمود".. والتفّت الجماهير لتحتشد حول النجمين الكبيرين وهما يبكيان، وتنفرط الضحكات مختلطة ببكائهما الحار وكلّ منهما يربت على كتف الآخر ويقبل رأسه ويردد نور الشريف: "في النهاية ضحكت عليا يا محمود وخلتني غِرت.. كنت باحلم أقدم الدور ده.. من اليوم أنت تسطر تاريخًا جديدًا لفنك وعلاقتك بالتمثيل يا شيخ حسني".

رحم الله الفنان الكبير نور الشريف، محمد جابر عبدالله ممثل الطبقات المصرية كافة في أفلام عبرت عن آلام وطموحات بل ومنغصات كل الشرائح الاجتماعية، وتحديدًا البرجوازية بمساراتها المختلفة والمغايرة عليا ومتوسطة ودنيا، أي شعبية، رحل عن تسعة وستين عامًا وبعض الأشهر بعدما عرفته الأوساط السينمائية والثقافية الفكرية الإبداعية في الوطن العربي بخروجه عن المألوف، وتحدي المخاطر ونسف كل محظور، سواءً في السينما أو المسرح أو حتى الدراما،، ويبقى الكثير والكثير من تجليات ومحاسن هذا الفتى في الفن والسينما والجمال.نور الشريف أو محمد جابر محمد عبدالله الذي قدم أكثر من 200 عمل سينمائي منهم سواق الأتوبيس والذي نال عنه أهم جائزة، أحسن ممثل، من مهرجان نيودلهي، البحث عن سيد مرزوق وزوجتى والكلب والخوف والكرنك والعار وأيام الغضب بالإضافة لعشرات المسلسلات التليفزيونية والدراما الإذاعية وكثيرا من الأعمال المسرحية والذي يمر اليوم ثمانية أعوام على رحيله بمرض السرطان.

بورتريه للفنان نور الشريف.