رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صيف زكريا محمد وفواكهه

فى الثانى من الشهر الجارى رحل الشاعر الفلسطينى الكبير زكريا محمد «٧٣ عامًا»، وهو صوت فريد لا يشبه أحدًا، وقبل رحيله بأربعة أيام كتب على صفحته بـ«فيسبوك»: «قطعت علاقتى بالصيف نهائيًا. لا أريد فواكهه جميعًا. لا أريد فواكه هذا الجحيم. حين يأتى فى العام القادم سأحمل حقيبتى وأرحل إلى بلاد الشتاء والثلوج»، زكريا ليس شاعرًا فقط، ولكنه مثقف عظيم وحالة نادرة فى الثقافة العربية، يحفر فى مناطق وعرة فى اللغة والتراث والأسطورة، وله تجارب فى الرسم والنحت، ونشر روايتين هما «العين العمياء» و«عصا الراعى»، وكتب قصصًا مدهشة للأطفال تعيد قراءة التراث الشعبى الفلسطينى من بينها «أول زهرة فى الأرض» و«مغنى المطر»، ومن كتبه فى التراث «ديانة مكة فى الجاهلية: كتابُ الميسر والقداح»، و«ديانة مكة فى الجاهلية: الحمس والطلس والحلة»، و«مضرّط الحجارة: كتابُ اللقب والأسطورة»، و«ذات النحيين: الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة»، و«نقوش عربية قبل الإسلام» و«اللغز والمفتاح: رقم دير علا ونقوش سيناء المبكّرة»، و«نخلة طىء- كشف سر الفلسطينيين القدماء»، و«عبادة إيزيس وأوزيريس فى مكة الجاهلية». نعرف أن فلسطين المحتلة عامرة بالشعراء، ولكن نجومية الشاعر الكبير محمود درويش، التى حلت ذكرى رحيله الـ١٥ الأسبوع الماضى «٩ أغسطس»، غطت على تجارب مهمة بسبب كسل النقاد، وبسبب المناخ العام الذى لا يريد أن يتذوق فاكهة جديدة من الشعر الجديد، زكريا كان صديقًا لدرويش وعمل معه فى مجلة الكرمل، وتجمعهما محبة عظيمة، رغم اختلافهما شعريًا، وأنا سمعت كلامًا جميلًا من درويش نفسه فى محبة زكريا ووليد الخازندار، زكريا كتب «أنا شعريًا لست ابنًا لمحمود درويش بكل تأكيد. وهو رحمه الله كان يعرف ذلك. وحين عرض علىّ أن أعمل معه فى (مجلة الكرمل)، قال لى ما معناه: أنا أعرف أنك تختلف معى، لكننى أحب أن أعمل مع من أختلف معهم. وهناك قصة بائسة فى فلسطين تسمّى قصة (خلافة محمود درويش). أنا خارج هذه القصة نهائيًا. وكيف يمكننى أصلًا أن أخلف درويشًا وأنا لست من صُلبِه شعريًا؟ غيرى يمكن أن يرثه، أما أنا فلا. أنا بالكاد أخلف أبى الذى ولدنى. شعرى نهض فى معاكسة شعر محمود درويش. هذه حقيقة أولية. لكن هذا لا يعنى أنه ليس لمحمود درويش فضل على شعرى. على العكس له فضل».

كان يرى أن درويش رفع سقف الشعر الفلسطينى إلى مدى بعيد، ولم يعُد مقبولًا أن تكتب شعرًا بعيدًا عن هذا المستوى، وكان يرى أن شاعر «عاشق من فلسطين» بسيطرته الشعرية دفعه إلى البحث عن طرق أخرى، لأنه سيطر على الطرق الممهَّدَة كلّها، فاضطر إلى صعود الجبال الوعرة. وبصعوده إلى الجبال الوعرة، وصل إلى ما وصل إليه، وصل إليه تحت ضغط محاولة الاختلاف عن شعر درويش، وهذا بحدّ ذاته تأثير، بل تأثير عميق. 

لزكريا تسعة دواوين لا تشبه شعر أحد من العرب أو غيرهم هى «قصائد أخيرة» و«أشغال يدوية» و«الجواد يجتاز أسكدار»، و«ضربة شمس»، و«حجر البهت»، و«كشتبان»، و«علندى»، و«زرواند». قبل رحيله بيومين نشر زكريا على صفحته ما كتبه الشاعر اللبنانى عباس بيضون عن دواوينه الثلاثة الأخيرة، وهى كتابة موفقة تليق بتجربة شاعر نوعى له تجربة عريضة فى الحياة والمعرفة والنضال، بعيدًا عن الحسابات الضيقة والمكاسب السريعة «يفاجئنا زكريا فى أعماله هذه فى كلّ شىء تقريبًا. نصّه فيها لا يُقاس على أىّ مثال نعرفه فى شعرنا. إنه بالتأكيد جرأة على الشعر، إلى الحد الذى يجعلنا فوق الشعر أو دونه. لا يهم الحُكم، فالواضح أننا أمام تجريب يصل إلى درجة الإنهاك، وربما الاستنفاد. الشعر هنا مبذول إلى درجة لا نستطيع بسهولة أن نلحقها، الشعر هكذا يتواصل، ويتمدد، ويتوالد، ويتضاعف، ويتمازج إلى حيث ينقلنا من دهشة إلى دهشة، إلى حيث تأخذنا المحاولات، طبقة على طبقة، وطبقة وراء طبقة، تأخذنا فنبقى ذاهلين فى مسارها، ولا نقدر أن نخرج من التركيب، أو المسار، أو عملية التوليد والبناء والاستطراد والتوسع. لا يسعنا أن نفارق هذه العملية، أو نعلو عليها، أو نستقل عنها، أو نقابلها بتأويل موازٍ، أو استخلاص من أى نوع. ليست ترجيعًا للغة قائمة ولا مجرّد تغريب لها». 

زكريا محمد شاعر نادر لم أسعد بمقابلته، ولكن تواصلنا كثيرًا فى محبة الشعر، ونجحت صديقتنا المشتركة المخرجة عرب لطفى فى تقريب المسافات بيننا.. وأستعير هذا المقطع من شعره، لأنه يعبر عن الحالة التى أشعر بها فى موسم الفقد الكبير الذى خطف عددًا من أحب أصدقائى فى الشهرين الأخيرين:

«ليس للزمن أحبة أيضًا. لذا فأنا مرغم على أن أكون حبيب الذين مضوا. حبيب شظاياهم».