رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الشاهد».. وثيقة تاريخية ضد روايات فاسدة

منذ أيام تجتر بعض الصحف والمواقع التابعة لتنظيم «الإخوان»، أو الموالية والداعمة له، روايات التنظيم الإرهابى بشأن ما حدث فى «فض اعتصام رابعة»، بمناسبة مرور عشر سنوات على ذلك الحدث الذى فض الاشتباك بين عموم المصريين، وبين التنظيم الأخبث والأشر فى تاريخ الحركات والتنظيمات السياسية فى المنطقة كلها.. وكأنه لا رواية أخرى لما حدث، وكأن أحدًا لم يعايش الأحداث، ما سبقها وما تلاها، وما جرى خلال ساعات الرابع عشر من أغسطس ٢٠١٣.. شاهدناها جميعًا، وشاركنا جميعًا فى صنع تفاصيلها، وتكوين عناصر الصورة، كلٌ حسب إمكاناته وقدراته، وما أتيح له من جهد.

ولعله من المهم التأكيد هنا أنه لم يعد خافيًا على أحد أن طبيعة التنظيم وأهدافه وتحركاته وتشكيل هياكله وأساليب عمله لم تكن دينية فى أى وقت من الأوقات، ولم يكن استخدام قياداته للفظ «المسلمون» فى شعارهم سوى غطاء دينى يتحركون تحته، وينتشرون من خلاله فى القرى والنجوع والمدن المصرية، وغير المصرية، يجتذبون به الفقراء والمعوزين، ويستميلون به المراهقين وصغار السن ممن تحركهم حمية الشباب وطيشه أو طبيعته المتهورة المتمردة، كأى جماعة سرية تحركها أهداف غير التى تعلنها، وتسعى بكل ما أوتيت من جهد وأساليب لتحقيقها، وفرضها على كل مخالف، أو مختلف معها.

والحقيقة أننى سعدت بمتابعة ما تيسر من حلقات برنامج «الشاهد»، الذى يقدمه الدكتور محمد الباز على قناة «إكسترا نيوز»، ويتناول شهادات من عاصروا الاعتصام، وشاهدوا تفاصيله عن قرب، ومنهم من اقتربوا من قيادات التنظيم، وخبروا خبايا نفوسهم، ومنهم من اطلعوا على ما كانوا يدبرون للانتقام من كل من ساهم فى الوصول إلى لحظة الفض، ولو بالوقوف فى مظاهرة، أو الهتاف باسم مصر فى مواجهة من يهتفون باسم «المرشد».

هذا البرنامج الذى أراه وثيقة فى غاية الأهمية، لتذكير الأجيال المقبلة بما عانته مصر خلال فترة حكم التنظيم الأخبث، وما كان يمكن أن تصل إليه الأحوال فى البلاد التى علمت الدنيا محبة الحياة، وتقديس الحق، والخير والجمال.. البلاد التى احتضنت أنبياء الله، فأكرمت نزلهم، ورعت سيرتهم، وخلدت خطواتهم على أرضها.. ولعله يغلق الباب أمام هواة تزييف التاريخ وتلفيق الأحداث والترويج لروايات التنظيم الفاسدة، وذلك من خلال التوثيق الدقيق لكل صغيرة وكبيرة فى مسيرة عودة مصر للمصريين، عبر شهادات تفصيلية للشخصيات الفاعلة والمؤثرة فى تلك العودة، ومن خلال المشاهد الحية لكواليس ما جرى فى تلك الفترة العصيبة، وإن كان الشعب كله قد رأى وعاين بالصوت والصورة ما كان «أغبياء» التنظيم يبثونه فيما تيسر لهم من قنوات وفضائيات وصحف ومواقع، لكننى هنا أود التأكيد على نقطة واحدة بسيطة، أظنها فى غاية الأهمية، وهى النقطة المتعلقة بالاعتصام نفسه.. لماذا بدأ؟! وكيف كانت الدعوة إليه؟! وضد من؟!

التسلسل التاريخى للأحداث يقول إنه فى نوفمبر ٢٠١٢، وبعد خمسة أشهر فقط من توليه السلطة فى مصر، أصدر محمد مرسى إعلانًا دستوريًا استبداديًا يعزز صلاحياته كرئيس للجمهورية، ما أدى إلى توتر العلاقة بين مرسى و«تنظيمه» من ناحية، وبين عموم المصريين وجميع القوى المعارضة لحكم «الإخوان» من الناحية الأخرى، وانطلقت المظاهرات هنا وهناك وفى كل مكان فى أرض مصر، وهى المظاهرات التى قابلها مرسى وتنظيمه بغباء وصلف، وبمزيد من الإجراءات والقرارات الاستفزازية، فكان من الطبيعى أن تتصاعد حدة الخلاف التى وصلت إلى واحدة من ذراها مع إعلان تشكيل حكومة التنظيم، تلك التى تأكد معها المصريون من سوء وفساد نوايا الجماعة وما يحرك أفرادها وقياداتها من أهداف، تأكد المصريون من اتخاذها الدين كستارٍ عاشت تتخفى وراءه، وتحتمى به بهدف الوصول إلى الحكم، والانفراد به، فزادت حدة المطالبات المشروعة بالخلاص من «حكم المرشد» وجماعته التى انتشرت فى مفاصل الدولة، وخرجت المظاهرات فى ميدان التحرير وغيره من الميادين فى عموم البلاد للمطالبة بتنحى مرسى، وخروج أفراد «تنظيمه» من مشهد الحكم، والعودة بثورة مصر إلى ما قامت من أجله.. فماذا كان رد الجماعة أو التنظيم؟!.. كان ردهم هو الدعوة للاعتصام فى ميدانى «رابعة» و«النهضة»، دعمًا لرئيس «الأهل والعشيرة» وحكومته المرفوضة من الجميع، وتأكيدًا على مساندتهم لكل ما يصدر عن «مكتب الإرشاد»، ولما يتخذه من قرارات.. ولكن ضد من؟! ضد كل القوى المدنية الرافضة لحكم التنظيم، ضد المواطنين الذين أزعجهم تحول مصر إلى تابع ذليل، يخطط لمستقبله أشخاص بلا ولاءات وطنية، وبلا انتماء للأرض التى روتها دماء أهاليهم، وأقاربهم، وجيرانهم، لا يعترفون بغير «الأهل والعشيرة» ورفاق «التنظيم»، وضد كل ما أراده المصريون وحلموا به لبلادهم.

باختصار.. لم يكن اعتصاما «رابعة والنهضة» ضد قرارات حكومية يعارضونها، ولا ضد ممارسات سلطوية يرفضونها، بل ضد مطالبات شعبية عبّر عنها إخوة فى الوطن فى مظاهرات سلمية مدنية، ضد مواطنين مسالمين يرفضون الاستئثار بالسلطة، والتحرك بالبلاد باتجاه هوية التبعية والانقسام، بل إننى لن أكون مغاليًا إذا قلت إنه كان اعتصامًا ضد مصر كلها.. بجيشها وشعبها وتاريخها وأرضها ومستقبلها.

لينسى من ينسى، ويدعى الجهل من يريد، لكن الحقيقة أن مشاهد السواتر الترابية، والخرسانية، والحواجز الحربية، والخراب فى طريق «النصر»، وفى ميدان النهضة، سوف تظل عالقة بالذاكرة، كشاهد على ما كان يتم تدبيره فى الحجرات الخلفية، وفى مقر قيادة «التنظيم»، لا يمكن نسيانها، ولا محوها، ولا تجدى معها المظلوميات المتهافتة، ولا ما تردده فلول التنظيم من ادعاءات تافهة، ومشوهة، وكاذبة، ولا هدف لها سوى تزوير التاريخ، وطمس الحقائق.

تحية احترام وتقدير لكل فريق العمل فى برنامج «الشاهد»، ولكل ضيوفه، وكل كلمة تقال فيه، فتساهم فى كشف حقيقة ذلك التنظيم «الأخبث»، وما دبره أفراده ضد مصر، وضد شعبها، وتاريخها ومستقبلها، والتأكيد أن ما حدث فى الرابع عشر من أغسطس ٢٠١٣، لم يكن فضًا لاعتصام مسلح فقط، بل فضًا لاشتباك دموى مرعب ومتوقع بين عناصر التنظيم الخبيث، وبين عموم المصريين.