رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالمجيد محمود.. الشهيد هشام بركات.. ماهر فرغلى وحقيبة المستندات والوثائق السرية

«1»
أتابع بشغف شديد الحلقات الوثائقية الأخطر من برنامج «الشاهد» الذى يقدمه الإعلامى د. محمد الباز، تلك الحلقات التى توّثق، بالأسماء والأدلة والوقائع، جرائم التنظيمات التكفيرية فى مصر فى حوالى قرن من الزمان. رغم إلمامى بشكل شخصى بكثير من المعلومات الواردة على ألسنة الشهود الذين قدموا شهاداتهم حتى الآن، لكن بعض ما أورده هؤلاء الشهود هو على قدر من الأهمية والخطورة يستدعى التوقف عنده ولفت الأنظار إليه بشدة.
فمثلًا أقدر كثيرًا شهادة المحامى مختار نوح وما أورده عن حقيقة التنظيم السرى وطرق تشكيل خلاياه والذى لم يختف إطلاقًا عن التواجد، وهى شهادة من عضو سابق وبارز فى جماعة الإخوان التكفيرية وأيضًا أحد أبرز الوجوه من مجموعة المحامين الذين شاركوا فى وقائع قضايا كبرى كثيرة، ويمتلك من الأوراق الرسمية لتلك القضايا، ما يجعل شهادته يقينية بشكل كبير وليس فقط روايات شاهد عيان، فنحن أمام رجل لديه وثائق حقيقية كشفت أسرار كثير من المشاهد التى عاصرها المصريون فى السنوات الأخيرة وبدت غامضة للكثيرين.
ذكر مختار نوح مصطلحًا جديرًا بالاهتمام.. حيث رفض مسمى «اعتصام رابعة» وأسماه «خطة رابعة»، فهو لم يكن اعتصامًا له مطالب محددة أو حاول التفاوض مع الدولة المصرية. ومطلب عودة مرسى لم يكن إلا خطابًا تعبويًا يخص الأتباع والمريدين،لكن الخطة كانت إفشال أى محاولات لصرف المعتصمين والوصول لحل مصرى داخلى. كانت الخطة، وحسب تعبيره نصًا، أن تكون هناك على أرض مصر مشروعيتين متصارعتين حتى يصبح التدخل الدولى مشروعًا قانونًا ويتم تدويل «المسألة المصرية»، وفى سبيل ذلك حاول المتآمرون إنشاء مجلس نواب فى الاعتصام، ولذلك هلل المتآمرون لأنباء أو شائعات اقتراب أسطول إحدى الدول الكبرى من الشواطئ المصرية، كانوا يهللون لخيانتهم الوطنية، هذا يتفق تمامًا مع ما تم نشره من وثائق عن أوامر من شخصيات دبلوماسية غربية للجماعة من عينة «مطلوب منكم فقط أن تتشبثوا بأرض الاعتصام»، وهذا يفسر أيضًا ما سبق أن عرفناه عن إفشال كل محاولات الوساطة حتى التى قام بها نجوم العلماء مثل الشيخ محمد حسان، وكلنا يذكر تفاصيل محاولته للوساطة، وكيف كان يتم رفض أى محاولة منه، ووصل الأمر إلى الرجوع عن أى اتفاقات بعد أن يوافق عليها المجلس العسكرى وذلك بعد أن تأتى الأوامر من قادة المتآمرين.

«2»
من مفاجآت شهادة مختار نوح هو تفسير ظهور مصطلح «الاختفاء القسرى» فى وقت محدد، قال نوح إن هذا المصطلح لم يظهر أيام مبارك رغم وجود معتقلين من أعضاء الجماعات التكفيرية لم يكن ذووهم يعلمون أماكن اعتقالهم، لكن هذا المصطلح ظهر فى توقيت معين وبناء، حسب شهادة نوح، على رؤية محمد البرادعى، لأن هذا المصطلح القانونى يوجب التدخل الدولى القانونى ويسمح برفع دعاوى جنائية دولية ضد قيادات الدول، فإخفاء مجموعة دينية أو عرقية أو أشخاص من المعارضين السياسيين هو من مسوغات رفع تلك القضايا ومطاردة قيادات الدول، مصطح الاعتقال، أو المحاكمات مهما كان نوعها، لا يجيز رفع تلك القضايا، إنما «الاختفاء القسرى» فقط هو الذى يمنح هذا الحق، كانت «خطة رابعة» تقوم على تنفيذ خطوات محددة، التشبث بقطعة أرض، ثم الشروع فى تكوين مؤسسات تمنح شرعية مثل تكوين مجلس نيابى ثم الشروع فى تكوين سلطة تنفيذية، وبالموازاة يتم ترويج مصطلح «الاختفاء القسرى»، وأخيرًا يتم التدخل الدولى، هذه الخطة كانت مع قيادة التنظيم الدولى وقيادة التنظيم الخاص العليا بالتنسيق مع أجهزة دول معينة ذكرها نوح فى شهادته وأثبتتها من قبل وثائق مسربة من حساب وزارة خارجية لدولة عظمى، ولم يكن يعلم بها كثير من المتسلقين، حسب تعبير نوح، مثل صفوت حجازى، أو الهبل مثل محمد البلتاجى.

«3»
واقعة محاولة الجماعة استبعاد النائب العام الأسبق المستشار عبدالمجيد محمود، التى نتذكر تفاصيلها جميعًا، كانت أعمق من مجرد الاستيلاء على المنصب القضائى الرفيع لصالح الجماعة. كانت انتقامًا مباشرًا من عبدالمجيد محمود لتاريخه القضائى الأسبق فى القضية الأشهر «قضية سلسبيل» 1992م، التى أُدين فيها خيرت الشاطر وحسن مالك وآخرون، و«سلسبيل» هو اسم الشركة التى أنشأها الشاطر. لم تكن قضية عادية، ومنحت الأجهزة الأمنية كنزًا معلوماتيًا. كانت بداية ظهور الحاسبات الآلية فى الشركات الخاصة. وبداية تخزين المعلومات عليها بدلًا من الوثائق الورقية أو بجانبها. تم تخزين معلومات تخص التنظيم الخاص بأسمائه عبر محافظات مصر وتفاصيله على الحاسبات الآلية بمقر الشركة، وكان خيرت الشاطر يعتقد أن تلك المعلومات آمنة لأنه فقط مَن يحتفظ بـ«الباسورد» الخاص بها. تمت الاستعانة بخبير من الجامعة الأمريكية وتم فتح الهاردات وحصلت الدولة المصرية على هذا الكنز المعلوماتى. التنظيم الخاص لا ينسى ثأره والانتقام من أسس عقيدته، لهذا كانت محاولة الانتقام من الرجل.
ولنفس السبب قرروا الانتقام من الشهيد هشام بركات لأنه الذى منح الإذن القضائى بفض الاعتصامات المسلحة. لكننى أضيف هنا وأذكر بما ذكره المستشار محجوب فى شهادته فى شهر يوليو السابق عن دور المستشار بركات فى قضية الهروب من سجن وادى النطرون التى تعتبر القضية الأهم التى كشفت عن تفاصيل تورط الجماعة الإرهابية فى اقتحام السجون.

«4»
شهادة الباحث ماهر فرغلى اكتظت بالمعلومات والبيانات عن أسماء ووقائع وجرائم تنظيمات الجماعة الإسلامية والإخوان، لكننى أحب أن أتوقف عند ما ذكره فى نهاية الحلقة الثانية من شهادته. لقد أنهى شهادته بواقعة أتمنى ألا تنتهى عند مجرد ذكرها. قال، ما محتواه، إن إحدى قيادات جماعة الإخوان التى بلغت سن الشيخوخة قد تواصلت معه وطلبت لقاءه لأمر مهم. ذهب وقابل شخصية من إحدى دول الخليج الذى عرّفه بالقيادة صاحبة الاتصال. رجل مسن، بصحبة أخيه المسن، أبلغه بامتلاكه مجموعة مهمة من الوثائق والمستندات والصور وبأنه يريد نشرها فى كتاب على غرار كتب الباحث ماهر فرغلى السابقة، وبأنه اختاره للقيام بهذه المهمة. تكررت اللقاءات حتى قدم الرجل، الذى لم يذكر ماهر فرغلى اسمه، ما لديه. «ما لديه» هذا وصفه فرغلى بالآتى: وثائق ومستندات تخص التنظيم الدولى للإخوان المسلمين منذ ستينيات القرن الماضى.. مراسلات ومستندات تخص ما حدث فى سوريا.. مراسلات بين قيادات التنظيم فى عدد من الدول العربية، مثل مصر والسودان وسوريا والكويت وغيرها.. وثائق تخص من وصفه بالخبير الاقتصادى الدولى للتنظيم.. مجموعة صور نادرة تبلغ مائة وخمسين صورة لجميع أفراد التنظيم الخاص منذ قضية السيارة الجيب أربعينيات القرن الماضى.
وردًا على سؤال د. الباز: ماذا فعلت بهذا الكنز الثمين؟ رد الباحث بأنه قسّمها مجموعات وأنه بدأ فى كتاب أول لم يُنشر بعد عن التنظيم الدولى فى دول الخليج، أى أنه بعد سنوات، لم يحددها فرغلى، من حصوله على هذا الكنز الوثائقى لم يستطع نشره بعد وكل ما أنجزه هو مشروع كتاب لجزء من الوثائق، وهذا يبدو منطقيًا جدًا حين يقوم به شخص واحد.

«5»
هنا أريد التوقف طارحًا بعض التساؤلات: حين يتعرض وطن لما تعرضت له مصر من جرائم ومؤامرات دولية كانت تستهدف كيانه ووجوده، وحين يدفع ثمن التصدى لهذه المؤامرات آلاف الرجال بين شهيد ومصاب، وحين يدفع هذا الوطن هذا الثمن الباهظ من اقتصاده ويتقهقر سنوات للوراء جراء تلك الجرائم والمؤامرات، حين يحدث هذا، ويمتلك باحث ما أو شخص ما هذا الكنز من الوثائق والصور، هل يكون من حقه الاحتفاظ به كملكية خاصة تنتظر أن يقوم بنشرها فى كتب فى عملية قد تستغرق سنوات، أو حتى لا يستطيع إنجاز المهمة كاملة لأى أسباب شخصية؟!
متى تتراجع فكرة الملكية الفكرية الشخصية لصالح الملكية الوطنية لوثائق فى منتهى الخطورة وفى سنوات ذروة المواجهة بين الوطن وأعداء دمويين؟! لم يمنح الرجل المسن للباحث ماهر فرغلى تلك الوثائق كهدية شخصية أو إرث شخصى، لكنه، وحسبما ذكره فرغلى بنفسه، أراد نشرها فى كتاب ولم تسعفه سنه أو ظروفه الشخصية للقيام بهذا العمل فلجأ إلى مَن توسم فيه مقدرته على ذلك، ربما يكون مفهومًا ومتقبلًا أن يحرص باحث أثرى مثلًا أو أكاديمى على أن يحتفظ لنفسه بحق النشر لما اجتهد فى الوصول إليه، فهذا حق مشروع للباحث، وحتى فى مثل هذه الحالات يعمل العالم أو الباحث فى مجموعة عمل.

«6»
أما فى هذه الواقعة، فإننى أعتقد أن أصحاب حق الملكية هم المصريون.
أصحاب الحق فى هذه الحقيبة المكتظة بالوثائق السرية التى تكشف حقيقة وجود تنظيم دولى يتآمر على مصر طوال قرن من الزمان هم المصريون الذين دفعوا الثمن من دماء أبنائهم ومعاناتهم الاقتصادية، رجال الأمن الذين قدموا الآلاف من صفوفهم شهداء هم أصحاب هذا الحق، أمهات وآباء وأبناء وأرامل الشهداء هم أصحاب هذا الحق، الأجيال الصغيرة المهددة بالاستهداف مرة أخرى هم أصحاب هذا الحق، مصر الدولة والوطن والشعب هى صاحبة هذا الحق، وكل يوم يمر دون إتاحة هذا الحق لأصحابه هو خسارة لهم يُسأل عنها ماهر فرغلى.
قد يقول قائل: كان يمكن للباحث أن يصمت ويكتم الواقعة ويتنظر حتى يفرغ من نشرها على سنوات؟، أرد على هذا الرأى ردًا واحدًا: لو لم يقل شيئًا لكان آثمًا فى حق بلاده وفى حق نفسه ولما أصبح أحد التائبين العائدين عن حق ولكان مجرد متاجر بما يملك من معلومات، وأنا شخصيًا أنأى بالرجل وسيرته عن ذلك. كما أن صاحب هذا الرأى ربما لم يفكر فى احتمال قائم، وهو أن الأقدار ربما لا تسعف رجلًا منفردًا لإنجاز ما يريد، فتضيع فى غياهب النسيان تلك الثروة الكبرى.

«7»
لذلك فإننى أتوجه، أولًا، للباحث نفسه بأن يروض أى مشاعر شخصية، مشروعة فى حالات أخرى، بالحصول على السبق والمجد الأدبى باختصاصه متفردًا بالنشر، وأن يبادر من تلقاء نفسه بالتوجه لإحدى مؤسسات مصر الثقافية بما لديه وأن يشارك مع آخرين من الكتّاب والباحثين فيما يشبه ورشة العمل لإنجاز هذا المؤلف فى أقصر مدة زمنية ممكنة، وإتاحته لكل لمصريين أسعار رمزية، لو صدر العمل مثلًا عن هيئة الكتاب المصرية أو وزارة الثقافة.
وأتوجه، ثانيًا، لتلك الهيئات المنوط بها تشكيل الوعى المصرى بالمبادرة بالتواصل مع الباحث لإنجاز العمل بشكل مؤسسى.
قناعتى الشخصية، لو لم يفعل الباحث ذلك، ولو لم تنتبه تلك الهيئات التى توفر لها الدولة كل الإمكانات المادية للقيام بمهامها، لو لم يفعلوا ذلك الآن وليس غدًا فإننا سنكون على الطريق الخطأ فى المواجهة، قناعتى الشخصية، كمواطن، أن حق فرغلى فى امتلاك هذه الوثائق قد سقط فى نفس اللحظة التى وافق فيها الرجل على القيام بالمهمة، وكان من المفترض أن يتوجه بها مباشرة لإحدى تلك الهيئات للشروع فى إنجاز وعده، ثم سقط هذا الحق رسميًا بمجرد إعلانه لذلك فى شهادته، وكل يوم يمر دون أن يبادر لذلك بمثابة إدانة وطنية وأكاديمية للباحث، هذه قناعتى كمواطن مصرى عاصر وعرف كثيرًا من الجرائم التى ارتُكبت فى حق هذا الوطن..فليسقط كل سبق أو مجد أدبى شخصى إن ترتب عليه حجب جزء من الحقيقة فى معركة وجود وطن.