رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نساء مصر فى العصر الملكى وأشياءٌ أخرى!

صدمة للمدافعين عن الحقبة الملكية

«كتاب لطبيب إنجليزى يوثق لـ«حياة» المصريين فى الأربعينيات» 3

١٧٩٨م، ١٨٠٥م، ١٨٨٢م، ١٩١٩م، ١٩٣٦م، ١٩٥٢م.. هذه تواريخ الأحداث السياسية الكبرى التى صاغت تاريخ مصر المعاصر، بدءًا بالحملة الفرنسية ووصولًا لآخرها ثورة يوليو، والذى بقى مثارًا للجدل الدائم، والذى ينشط سنويًا فى ذكراها وهو تاريخ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م. ففى شهر يوليو كل عام ما زلنا نحيا زخم التباين الشديد فى النظر لذلك الحدث الكبير، بين أنصار يصلون بالحدث ومن قاموا به لدرجة القداسة، ومهاجمين يرجمون الحدث وأبطاله ويضعونهم كسبب أوحد لكل نقيصة أو مشهد انكسار أو تراجع- على كل الأصعدة وفى كل مجال- مرت به مصر حتى الآن!

فريقٌ حوّل الأحداث السياسية بصوابها وخطئها والقائمين بها فى درجة أقرب للعقيدة أو الأيديولوجيا ورفض رفضًا قاطعًا إدانة بعض السياسات أو القرارات التى ثبت خطأها، رغم إمكانية تلمس الأعذار لمن أخطأوا وأن ما فعلوه كان هو سقف قدراتهم العلمية وخبراتهم، ونتيجة ما تعرضوا له من ضغوط مختلفة، وأيضًا كان هو سقف قدرات المصريين آنذاك!

وفريقٌ يصر على أن يقنع المصريين بأنهم قبل ذلك الحدث كانوا يحيون أزهى عصور المدنية والتحضر، وأن الفلاح كان يصر على ممارسة الديمقراطية، وأن مصر كانت قطعة من أوروبا، وأن الحلاقين مثلًا كانوا من دولة أوروبية، والإسكافية كانوا من بلدٍ أوروبى آخر.. إلخ!

 

لم يكتب الطبيب الإنجليزى سيسيل ألبورت كتابه «ساعة عدل»، الصادر عام ١٩٤٦م أو يرصد مشاهداته التى وثقها فى كتابه هذا بعينى إنجليزى مستعمر، إنما بعينى ورؤية طبيبٍ قرأ تاريخ مصر العريق جيدًا وتعاطف مع المصريين قبل أن تطأ قدماه أرض بلادهم.. وخصص مقدمة كتابه للمرور العابر على هذا التاريخ وكأنه قد أورده فقط للتذكير بأصول من سيتحدث عنهم وعن أحوالهم باستفاضة.. لقد بدا الرجل وكأنه متعجلٌ لسرد مئات المشاهد مما رآه بنفسه، والحقائق التى استقاها من مصادرها قبل أن تفقدها ذاكرته. 

لقد أوجز رؤيته للمصريين فى مقدمة عرضه العابر لتاريخهم قائلًا عنهم: «هم سلالة حضارة أقدم بكثير من الحضارة اليونانية والرومانية والأمريكية، وللأسف رزحوا تحت نير حكم عدد كبير من المستغلين وأصبحوا عبيدًا لقرون عدة. لقد اُستغلوا بدون شفقة أو رحمة من قاهريهم الأجانب، ولم تُتح لهم أبدًا أى فرصة للفكاك، وعاشوا دائمًا تحت خط الفقر والجوع وتأثروا لأجيالٍ طويلة بكل اللعنات التى حلت بمصر.. فى عام ١٩٢٣ منحت بريطانيا مصر استقلالًا لتدير حكومة مصرية شئون البلاد بنفسها.. وبعد مرور عشرين عامًا على ذلك نجد البلاد وقد أمسكت بخناقها مجموعة من الباشوات والأثرياء الإقطاعيين عديمى الحس والشعور الذين لا يراعون مثقال ذرة الاعتبارات الإنسانية، والذين يجسدون فى ممارستهم السياسية كثيرًا من ملامح الحكم الفاشستى وما كان حدث فى روسيا قبل ثورتها.. اليوم تتحكم فى مصر طبقة انتهازية من الباشوات لا تبحث سوى عن مصالحها الشخصية، لذا درجت البلاد فى ظلام مدقع، وأصبحت حالة الفلاح فى أسوأ أحوالها تستدعى الحزن العميق والرثاء البالغ! لقد حكمت إنجلترا مصر بشكل مباشر ستين عامًا، ثم سلمت الحكم لحفنة من الطبقة العليا المصرية من الباشوات الذين أثبتوا جميعًا أنهم فاسدون وعديمو الكفاءة واستغلوا الفلاح المصرى إلى أقصى حد ممكن!».

 

مكانة المرأة فى أى مجتمع، ودورُها، ودرجة معاناتها مرآةٌ حقيقية صادقة عاكسة لما وصل إليه هذا المجتمع من درجات ترق حضارى، حقيقى أو زائف! وفى الحالة المصرية ترتفع تاريخيًا مصداقية هذه الفكرة لدرجة مذهلة، ونظرة واحدة على تاريخ هذه الأمة تكفى لإدراك أنّ مصر بلغت ذُرى السلم الحضارى حين تبوأت المرأة المصرية مكانة رفيعة. وليس المقصود بعبارة المكانة الرفيعة أن تحصل ندرةٌ من النساء- مقارنة بعددهن الإجمالى فى أى مجتمع- على قدر مذهل من العلوم شأنها شأن الرجل أو أعلى، أو أن تبلغ ندرةٌ أخرى منهن درجات وظيفية سامية، بل المقصود أن تحصل غالبية النساء فى المناطق والأحياء العادية والشعبية ونساء الفلاحين فى القرى والنجوع شمالًا وجنوبًا على حقوقهن الإنسانية كمواطنات محميات بالقانون، ولا يتم التعامل معهن «كمتاع» يبلغ فى رِخصه أحيانًا أن البقرة تكون فى درجة أثمن منه، كما ورد فى أحد أجزاء موسوعة وصف مصر، التى كتبها علماء الحملة الفرنسية! وأن يحمى القانون حقها فى الحياة وهى ما زالت فتاة فى بيت والدها فلا تُباع، وفى بيت زوجها فلا تُهان أو تُلقى هى وأطفالها إلى الشارع دون مأوى ودون مصدر دخل تحيا منه، لمجرد أن الزوج قرر أن يتزوج بأخرى أصغر منها وأن يُسكِن تلك الأخرى فى المنزل الوحيد الذى يملكه! لا يكون المجتمع متحضرًا حتى لو بلغت حفنة قليلة من نسائه أعلى درجات التعلم ونطقت ألسنتهن بالفرنسية والإنجليزية والإيطالية، بينما تدهس الغالبية الساحقة من نساء هذا المجتمع كومةٌ من المظالم، فيُمنعن من ممارسة حقوقهن الأساسية كمواطنات أو حتى يُحرمن من حقهن فى الحياة ككائنات حية!. 

أفرد الطبيب الإنجليزى سيسيل ألبورت فى كتابه «ساعة عدل» صفحاتٍ كثيرة لتوثيق أحوال نساء مصر فى السنوات التى عمل فيها فى مصر من ١٩٣٧ حتى ١٩٤٢م حين قدم استقالته من عمله- وحسب تعبيره- احتجاجًا على الحالة المزرية لمستشفى فؤاد الأول وشعوره بالعجز عن تحقيق أى تقدم أو إصلاح لحماية مرضى فلاحى ومواطنى مصر العاديين خارج طبقة الباشوات والأوروبيين واثنى عشر ألفًا من المصريين يملكون ٣٧٪ من أرض مصر الزراعية!.

 

بدأ فى تدوين شهادته فيما يخص أحوال نساء مصر بجوانب مضيئة عن الفتاة المصرية فى أكثر من موضع، منها هذه الملاحظة وإن كان لها جانب مظلم يخص الطالب المصرى! حيث يقول «من المدهش أن الطالبة المصرية تبدى اهتمامًا أكبر بدراسة وتقصى الحالات الإكلينيكية عن الطالب، فعندما أدخل جناحًا فى المستشفى التعليمى أجد الآنسات منهمكات فى فحص الحالات، مجتهدات فى اكتساب الخبرة والمعرفة العملية، بينما الشبان فى أماكنهم متوقعين أن يحضر إليهم المدرس ليسقيهم العلم! الطالب المصرى له ميزة تفوق الطالب الأوروبى وهى الذاكرة الممتازة، لكن للأسف يبدو أن مركز الذاكرة فى ذهن الطالب المصرى قد نما على حساب قدرته على تحكيم المنطق وكيفية الاستخدام العملى للمعلومة، لكن على أى حال هذا لا يدعو للدهشة، فهم كانوا يُلقمون العلم والمعرفة، لذا فقد فقدوا خاصية الإبداع والطموح والقدرة على وزن الأمور بالمنطق!».

ويقول فى موضع آخر ما هو أقرب لشهادة طبيب ومعلم بعد مقارنته بين طالبات إنجليزيات وأخريات مصريات جميعهن يدرسن الطب: «كنتُ محظوظًا فى أولى خطواتى العملية كطبيب فى مستشفى سانت مارى فى بادنجتون أن يكون ضمن طلبتى عدد من النساء. هن كن على مستوى مرتفع من الذكاء، لكنهن لم يصلن أبدًا إلى المستوى المرتفع الذى لاحظته فى البنات المصريات اللاتى التحقن بقسمى حديثًا ليتخرجن طبيبات!».

وعزز شهادته تلك بملاحظة أخرى.. «بغض النظر عن ظاهرة مستوى الذكاء، فالطبيبات عمومًا يتصفن بأنهن ذوات ضمير حى يخلصن فى العمل ويتفانين فيه أكثر من الرجال، لا سيما فيما يختص بالعمل الإكلينيكى وبالأخص فى مصر. فالطبيبات المصريات يعكفن على فحص المرضى بكل عناية فائقة ويكتبن ما توصلن إليه فى مذكرات أمامهن، نتيجة لذلك يتفوقن على الشبان فى امتحانات كلية الطب على الرغم من كراهية وخوف شباب الأطباء وآبائهم من منافسة النساء، ومهما تعرضن من تعصب أعمى ومعاملة ظالمة فإنهن مستمرات ولن ينقطعن عن تعلم مهنة الطب والتفوق فيها!».

ثم يقر بحقيقة مهمة: «إن تحرير المرأة المصرية من الطبقة المتعلمة أصبح حقيقة واقعة، فالنساء اللائى كن محبوسات فى جناح الحريم أصبحن اليوم طبيبات، خاصة فى تخصص طب الأطفال والولادة.. مع ذلك تواجه نساء مصر (المتعلمات) مهمة صعبة ليحصلن على المساواة فى ميدان العمل مع الرجال، لأنهن يواجهن نفس الصعوبات والعقبات، كالمؤامرات السياسية والتحيز والظلم والتفرقة على أسس اجتماعية أو دينية، فابنة الباشا مثلًا لها الأفضلية الأولى مقارنة بابنة رجلٍ فقير أو من عائلة رقيقة الحال مهما كان مستواها العلمى متدنيًا!».

 

منحنا المؤلف وصفًا دقيقًا عمّا كان يمكن أن تواجهه فتاة مصرية متعلمة متفوقة حين تبدأ فى محاولة الحصول على حقها المشروع أو الوظيفة التى خاضت طريقًا شاقًا حتى تفوقت من أجل الحصول عليها، خاصة لو كانت طبيبة.. سرد بشكل مطول معاناة أربع طبيبات متفوقات فى الحصول على حقهن بالتوظيف كنائبات بمستشفى قصر العينى ومستشفى فؤاد الأول: «منذ سنوات قليلة قامت أول فتاة تخرجت فى كلية الطب ورُفِضَ طلبُها لأن تُعين كنائبة فى مستشفى قصر العينى بإلقاء دواية حبر مملوءة على وجه مساعد مدير المستشفى، كان هذا عملًا خارقًا تُحسد عليه.. كنتُ يومًا جالسًا بغرفتى فى مستشفى فؤاد الأول أوائل سنة ١٩٤٢م عندما حضر إلىّ ثلاث فتيات يطلبن مساعدتى واشتكين من أنهن تخرجن حديثًا فى كلية الطب بتفوق، لكن المسئولين ينكرون عليهن حقوقهن، وأبدين تذمرًا مرًا ضد رئيس الجامعة حتى إن إحداهن قالت من يكون على إبراهيم باشا؟! ذلك الذى أخذ على عاتقه تقرير مصير الطبيبات المصريات؟! هؤلاء الفتيات اللامعات كن متفوقات ومتشوقات لتعيينهن نائبات فى المستشفى التعليمى للتدريب للحصول على دبلومات أعلى تمكنهن مثلًا من الحصول على درجة الزمالة من الكليات الملكية البريطانية.. كان السجل المشرف للأولى مدهشًا، فقد كان ترتيبها الأولى على القطر المصرى فى شهادة الابتدائية من ضمن ١٤ ألف طالب وطالبة، وكان ترتيبها الرابع فى التوجيهية أو الثانوية العامة، وكان ترتيبها فى كلية الطب الأولى وحصلت على الميدالية الذهبية التى خصصها الدكتور أوريب، علمًا بأن مستوى المعلومات المطلوب توافرها لنيل تلك الميدالية مرتفع للغاية، لدرجة أنها كانت تُحجب لسنوات عديدة، لأن أحدهم لم يتمكن من اجتياز اختباراتها.. تقدمت إلى مجلس كلية الطب بطلب لتعيين الطبيبات كنائبات أسوة بالشباب.. لكن للأسف اتخذ مجلس الجامعة قرارًا تعسفيًا ظالمًا واستبعدهن تمامًا، وقيل إن رئيس الجامعة صرح بأنه يمكن للطبيبات أن يحصلن على وظائف نائبات فى المستشفيات بعد وفاته!.. تقربتُ من وزير الصحة وطلبت أن يدبر لى لقاء مع قريبه رئيس الوزراء- النحاس باشا- فوعدنى لكنه لم يفِ بوعده، واستطعت بعد ذلك مقابلة مكرم عبيد باشا، وزير المالية، وأخبرته بأن إدارة الجامعة تضطهد الطبيبات بسبب جنسهن، فأبدى تعاطفه معى لكنه تشاجر بعد وقت قصير مع النحاس باشا وترك الحكومة! حاولت مرة أخرى مقابلة النحاس باشا، تقريبًا كل أسبوع كنت ألح على وزير الصحة فى هذا الشأن لكنه لم يفلح. فى النهاية سافرت فى إجازة وتركت خطابًا لرئيس الوزراء مع قريبه ولم أسمع عنه شيئًا سوى ما نقله إلىّ وزير الصحة، حيث أنبأنى بأن النحاس باشا لا يتعاطف مع تعيين نائبات فى المستشفيات التعليمية! من الواضح أن حزب الوفد يعترض على تعيينهن ليس لأنهن طبيبات، لكن لأنهن من صنف الحريم! فى النهاية علمت أن الطبيبتين الأولى والثانية قد عينتا فى وزارة الصحة وبذلك قُضى تمامًا على مستقبل طبيبتين متميزتين كانتا قادرتين بالفعل على نيل دبلومات التخصص بتفوق، بل كانتا قادرتين على الحصول على درجة الزمالة من لندن وتصبحان فى مستقبل أيامهما فخرًا لوطنهما!. 

 

إن كان ما سبق يخص تلك القلة النادرة من المصريات اللاتى استطعن شق الطريق الصعب ووصلن لنهايته بالتخرج بتفوق، فماذا كانت أحوال باقى المصريات اللائى يمثلن العدد الأعظم والسواد من نساء مصر؟! أشار الكاتب إلى أحوال المصريات فى أكثر من موضع فى كتابه: «نساءٌ بائسات يملأن الشوارع.. كثيرٌ من البائسات تخلص منهن أزواجهن وطردن دون أدنى إنصاف ليمتهن حياة قلقة عمادها قد يكون البغاء أو التسول أو السرقة، وكثيرٌ منهن قد يفضلن الانتحار.. عدد حالات الطلاق وصل إلى ٢٥٪ من حالات الزواج. ونتج عن ذلك وجود ٦٣ ألف طفل من أطفال الشوارع.. ليس الرجل الفقير فقط الذى يستحسن الزواج من أكثر من واحدة، فالطبقة العليا أيضًا منغمسة فى هذا الوضع، لكنهم لا يعاملون زوجاتهم بقسوة الفقراء. اضطر أحد الباشوات أن يحضر جنازة زوجته الأولى التى اقترن بها منذ أربعين عامًا، والتى كان مجرد تواجدها على قيد الحياة يمثل ذكرى خافتة فى مخيلته.. مصرى غنى بنى لزوجته الأولى الدور الأول فى مبنى شيده من أجلها، وعندما تزوج بالثانية بنى دورًا ثانيًا ونقل إليه زوجته الأولى، وفى نهاية الأمر أصبحت زوجته الأولى فى الدور الرابع.. أحد المصريين أنجب من زوجاته الأربع خمسة وستين ابنًا، سبعة وثلاثين من الذكور وثمانية وعشرين من الإناث، وحين كان يحضر إليه أحد الأبناء كان يسأله عن اسمه.. التعدى الوحشى الذى أحدثه اثنان من صغار الأطباء الذين يعملون فى مستشفى قصر العينى لاثنتين من الممرضات خير شاهد على إساءة معاملة المرأة.. أحدهما ضرب ممرضة بقبضة يده فى وجهها وقطع شفتها، والثانى رفس ممرضة فى بطنها شعرت بعدها بألم استدعى تدخلًا جراحيًا.. عندما أوقف هذا الطبيب عن العمل، قام الثمانون طبيبًا المقيمون بالمستشفى بإضراب ومظاهرة نصرة لزميلهم.. المرأة الفقيرة كالرجل الفقير فى كل معاناته.. وهى أيضًا من تلقت ركلة شديدة فى بطنها!».

 

بعيدًا عن أحوال المرأة المصرية يلفت المؤلف أنظارنا إلى حقائق أخرى عن بعض الظواهر المصرية التى وثقها فى كتابه، والتى يعتقد بعض المصريين الآن أن جذورها تعود إلى حقبة ما بعد يوليو ١٩٥٢م.. فمثلًا ظاهرة محاباة أبناء أساتذة الجامعة، خاصة فى كليات الطب على حساب بعض الطلاب النابهين ظاهرة تجسدت بشكل قوى فى بعض سنوات آخر عقدين من سنوات مبارك فى الحكم.

يتحدث المؤلف عن سيادة عميد كلية الطب: «بعد أن قدمت نفسى إليه بكل احترام وجهت نظرى واهتمامى لطلبة كلية الطب، هنا بدت لى مفاجأة سارة وغريبة فى نفس الوقت، هؤلاء الطلبة ممتازون بالفعل ومماثلون لمن كنت أدربهم فى مستشفى سانت مارى، واثنان منهم بارعان.. كل الطلبة استجابوا لى وتناغموا معى سوى طالب واحد.. هو للأسف ابن سيادة العميد.. فى نهاية الفصل الدراسى الأول دفعنى اهتمامى به أن أكتب للعميد عنه مخبرًا إياه بأن ابنه سيواجه مصاعب فى اجتياز الامتحان النهائى للتخرج إذا لم يهتم أكثر من ذلك بدراسة مبادئ العلوم الطبية.. كانت هذه هى غلطة العمر بالنسبة لى.. لم يستوعب سيادة العميد مقصدى النبيل وبدا كأنما هو رافض تمامًا لأى كلمة نقد توجه لأحدٍ من أفراد عائلته!».

وعن خطأ طرق التعلم يفاجئنا المؤلف بما يعانى منه التعليم المصرى حتى الآن قائلًا: «الصعوبة تنشأ فى محاولتك كأستاذ أن تجعل الفصل يفكر ويمنطق الأشياء، إنهم يتوقعون دائمًا أن يقوم الأستاذ باستخدام ملعقة يسقيهم بها العلم ليحصلوا على أكبر قدر من المعلومات بأقل قدر من الجهد.. على جدار معملى الطبى بجامعة فؤاد الأول قمتُ بوضع رسمين، الأول يمثل الطلبة النابهين حيث ترى مجموعة من الكتاكيت تنبش الأرض باحثة عن الطعام، بينما الأخرى تمثل الطلبة الفاشلين حيث ترى مجموعة من العصافير الجائعة وأفواهها مفتوحة عن آخرها يصرخون فى طلب الطعام! هذا هو موطن الضعف لدى الطلاب المصريين!».

وعن الواسطة أو المحسوبية قال فى موضع من كتابه: «كان الإنشاء المبتور لجامعة فؤاد الأول بالإسكندرية انعكاسًا خطيرًا ومؤسفًا على طاقم التدريس بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة. تحقيقًا لإمداد جامعة الإسكندرية بطاقم تدريس أصدرت حكومة الوفد قانونًا يتيح لها أن تنقل بعض أعضاء هيئة التدريس حتى دون موافقتهم أو العمل على إنصافهم.. فى ظل هذا القانون وفيما يختص بالأطباء أصبح ممكنًا لأى وزير أو عضو فى مجلس إدارة جامعة فؤاد الأول أن يعين طبيبًا صديقًا أو قريبًا له كأستاذ للطب فى جامعة القاهرة ببساطة متناهية، وذلك بدفع الوزير بنقل أستاذ من القاهرة للإسكندرية أو العكس وسيضطر الضحية إلى الإذعان أو أن يستقيل من منصبه! وحديثًا أنشئ كرسى طبى فى الإسكندرية لمصلحة طبيب معين هو صديق لعائلة زعيم الوفد. فى تصويتين متتاليين رفض مجلس كلية طب الإسكندرية أن يزج بهم فى أغراض سياسية. ومع ذلك فقد أنشئ هذا الكرسى تمهيدًا لنقله إلى القاهرة مشغولًا بهذا الطبيب! ثار مجلس كلية طب القاهرة وعقدنا اجتماعات وقدمنا التماسًا إلى مجلس الجامعة ووقعه ستة عشر أستاذًا وجراحًا، وكان مصير هذا الالتماس إلى دهاليز الأرشيف كما هى العادة فى مصر حتى غادرتها نهائيًا!». 

 

ما سبق لا يصلح بمفرده أن يكون الأساس لتقييم ما حدث فى مصر بعد ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، لكن عرضه ضرورة ملحة حتى لا يتم تمرير أكاذيب عبر نشر عدة مئات من الصور الفوتوغرافية المصرية التى تم التقاطها فى العقود الأولى من القرن العشرين! تلك الصور التى يحاول مروجوها أن يصوروا لنا أن المصريين كانوا يعيشون أزهى فترات تاريخهم رخاءً ومدنية وتعليمًا ورفاهية، وأن كل ما قد نصادفه من أعمال سينمائية تم إنتاجها بعد ثورة يوليو إنما كان كذبًا دعائيًا صريحًا! فهذا الكتاب يقدم جزءًا مهمًا من صورة كبرى يجب جمع شتاتها أولًا ووضعها وجهًا لوجه مع صورة المصريين المكتملة بعد سنوات من يوليو حتى يمكن لقارئ التاريخ أن يقوم بتقييم الحدث تقييمًا موضوعيًا حقيقيًا لا ساذجًا سطحيًا من قبيل أن يوم ٢٣ يوليو هو أسوأ يوم فى تاريخ مصر المعاصرة كما يردد بعض السذج!. 

رسم صورة كاملة لما سبقها هو أحد عناصر التقييم الموضوعى، لكنه ليس العنصر الأوحد، فهناك عنصر الموقف الإقليمى والدولى، هناك ما تعرض له أبطال الحدث من ضغوط وتهديدات من قوى استعمارية صريحة، وهناك أيضًا السلوك الأخلاقى والقيمى والضميرى، الذى صبغ كل واحد منهم بطابع جد مختلف عن باقى أقرانه فى مستوى قدراتهم المعرفية السياسية والاقتصادية ومدى تأهل بعضهم لأن يكون فى منظومة حكم وطن بحجم ومفردات مصر، وهناك أيضًا مستوى استجابة المصريين أنفسهم لما طرحه رجال يوليو من خطط نهضة صناعية وعلمية، وهناك ما قامت به الجماعة السرية من محاولات عرقلة وتفجير لمصر من الداخل بالتعاون مع قوى محلية قديمة وأخرى خارجية، وهناك أيضًا عدم قيام أنظمة الحكم التالية لموت عبدالناصر بعمليات تحديث للملفات المختلفة، مثل تحديث ملف التعليم مثلًا، الذى كان قد أدى النتائج المرجوة منه أثناء فترة حكم عبدالناصر، وكان يلزم إعادة النظر إليه وتحديثه وتغيير خططه وأهدافه وأولوياته ليتناسب مع تغير أوضاع مصر نفسها ديموغرافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا!.

لذلك فعرض هذا الكتاب لا يعنى إدانة أو تبرئة عصر على حساب عصر، إنما كان الهدف معلوماتى موضوعى خالص. أن نقدم وثيقة مهمة ربما تكون قد فاجأت كثيرين ببعض ما ورد بها، حتى وإن لم يكن منبع المفاجأة معلوماتى، وإنما منبعه شخصية وجنسية من نقلها ووثقها، فكلنا شاهدنا كثيرًا من الأعمال السينمائية التى وصفت بشكل دقيق بعض ما أورده هذا الرجل فى كتابه، ومعظمنا كان ينظر لتلك الأعمال بكثير من التوجس من مصداقيتها، أو على أقل تقدير فقد كان بعضنا يتهمها بالمبالغات الضرورية التى توجبها الصنعة ويوجبها توجه صناعها!.

أختم حديثى بذكر فيلم سينمائى ربما لم يتم تصنيفه ضمن قائمة أفلام يوليو، وربما أيضًا يتم تصنيفه من أفلام «سينما أكشن فريد شوقى أو سينما الترسو»، لكن قصته وكثيرًا من مشاهده الحزينة احتوت على تطابق فريد وغريب مع كثير مما أورده الطبيب الإنجليزى من تفاصيل إنسانية مؤلمة! «المارد» هو عنوان هذا الفيلم النادر الذى يعرض ربما بشكل فظ ومؤلم إنسانيًا كثيرًا مما أورده كتاب «ساعة عدل» من مشاهد تراجيديا فلاحى مصر وفقرائها!.