رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صدمة للمدافعين عن الحقبة الملكية! «1»

أحوال أبناء المحروسة بالأرقام والبيانات وأوهام ممارسة الديمقراطية!

«كتاب لطبيب إنجليزى يوثق لـ«حياة» المصريين فى الأربعينيات!»

١٧٩٨م، ١٨٠٥م، ١٨٨٢م، ١٩١٩م، ١٩٣٦م، ١٩٥٢م.. هذه تواريخ الأحداث السياسية الكبرى التى صاغت تاريخ مصر المعاصر، بدءًا بالحملة الفرنسية ووصولًا لآخرها ثورة يوليو، والذى بقى مثارًا للجدل الدائم، والذى ينشط سنويًا فى ذكراها وهو تاريخ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م. ففى شهر يوليو كل عام ما زلنا نحيا زخم التباين الشديد فى النظر لذلك الحدث الكبير، بين أنصار يصلون بالحدث ومن قاموا به لدرجة القداسة، ومهاجمين يرجمون الحدث وأبطاله ويضعونهم كسبب أوحد لكل نقيصة أو مشهد انكسار أو تراجع- على كل الأصعدة وفى كل مجال- مرت به مصر حتى الآن!

فريقٌ حوّل الأحداث السياسية بصوابها وخطئها والقائمين بها فى درجة أقرب للعقيدة أو الأيديولوجيا ورفض رفضًا قاطعًا إدانة بعض السياسات أو القرارات التى ثبت خطؤها، رغم إمكانية تلمس الأعذار لمن أخطأوا وأن ما فعلوه كان هو سقف قدراتهم العلمية وخبراتهم، ونتيجة ما تعرضوا له من ضغوط مختلفة، وأيضًا كان هو سقف قدرات المصريين آنذاك!

وفريقٌ يصر على أن يقنع المصريين بأنهم قبل ذلك الحدث كانوا يحيون أزهى عصور المدنية والتحضر، وأن الفلاح كان يصر على ممارسة الديمقراطية، وأن مصر كانت قطعة من أوروبا، وأن الحلاقين مثلًا كانوا من دولة أوروبية، والإسكافية كانوا من بلدٍ أوروبى آخر.. إلخ!

بين دروشة لا تتسق مع المنطق، وبين شيطنة ظالمة ظلت ثورة يوليو الحدث الأهم فى تاريخ مصر فى النصف الأول من القرن الماضى. بعضنا غيّر موقفه ورؤيته لذلك الحدث فى مراحل عمرية مختلفة وحسب ما تراكم لديه من معلومات، وبعضنا القليل وصل إلى درجة من الموضوعية يدرك من خلالها أن نظرية «الأبيض أو الأسود» لا مكان لها فى الحكم على بعض الأحداث الكبرى! فلا يكون الحكم على أى حدث كبير موضوعيًا دون الإحاطة بكل معلومات ومفردات الحدث ذاته، ودون وضعه فى زمنه التاريخى المحلى، والأهم دون أن يتم الرجوع به إلى خارطته الزمنية الدولية الحقيقية!

على طريقة كتاب «وصف مصر»، الذى كتبه علماء الحملة الفرنسية، والذى كشف عن أحوال المصريين فى نهاية القرن الثامن عشر، كتب الطبيب الإنجليزى «سيسيل ألبورت» كتابه الهام «ساعة عدل واحدة» ليصف أحوال مصر والمصريين فى السنوات الحرجة والحاسمة التى سبقت مباشرة الحدث الأهم، وهو حركة الضباط المصريين ٢٣يوليو ١٩٥٢م! 

فى هذا السياق الموضوعى بأن ثورة يوليو لا تخضع لنظرية أبيض أم أسود، تأتى أهمية إلقاء الضوء على هذا الكتاب الوثيقة، التى تنبع من شخصية كاتبها، الطبيب الإنجليزى الذى عاش وعمل فى مصر سنوات، ومن احتواء الكتاب على بيانات استقاها المؤلف من مصادر رسمية مصرية وإنجليزية! فنحن لسنا أمام رواية من روايات الستينيات السينمائية الموجهة والتى- حسب وجهة نظرى- أضر بعضها بثورة يوليو أكثر مما أفادها! ورغم أن معظم محتوى الكتاب انصب فى وصف أحوال القطاع الصحى فى مصر لوظيفة الكاتب، فإن الفصول المتناثرة الواصفة أحوال المصريين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تفجر مفاجآت بعضها مذهل فيما يخص بعض القضايا بعينها كما سنرى!

 

يقول الكاتب عن فلاحى مصر ما يلى: «المصريون يتكونون من طبقتين فقط، الطبقة الموسرة والطبقة السفلى التى يعضها الفقر بأنيابه ولا توجد طبقة وسطى. الفلاحون هم عماد هذا البلد، فمن بين ١٧ مليون مصرى هناك ١٢ مليونًا يعملون فى مجال الزراعة. بتكليف من القوات البريطانية كتب مستر هيلارى وايمنت كُتيبًا لوصف أحوال فلاحى مصر عام ١٩٤٣. وجاء فى تقريره نصًا: «إن الفلاح المصرى يحمل فوق كاهله كل وزن الهرم الاجتماعى. فهناك أربعة ملايين فرد من الفلاحين يعملون فى الحقول مع عائلاتهم لدعم اثنى عشر ألفًا من مالكى الأرض ومائتى ألف بيروقراطى- أى موظف- وألوف من تجار القطن والمرابين المنتشرين فى القرى بالإضافة إلى البنوك المتخصصة فى رهن الأراضى، ومصدرى القطن الكبار الذين تنبع كل أرباحهم من جهد وعرق الفلاح».

ثم يقدم لنا تفصيلًا بأعداد الفلاحين «من بين ٣ ونصف مليون فلاح هناك مليون ومائتا ألف لا يملكون أرضًا إطلاقًا. أما ملكية الأرض فتتوزع بنسبة ٣٧٪ يملكها أفراد يبلغ عددهم ١٢ ألف شخص. ثم ٣٠٪ من الأرض يملكها ١٥٠ ألف من متوسطى الحال ثم ٣٣٪ من الأرض يملكها اثنان ونصف مليون من صغار الفلاحين بمساحات صغيرة جدًا بالكاد تكفى لإشباع حاجات فرد واحد».

أما عن أحوالهم فقد أسهب الكاتب فى أكثر من موضع فى عرض مأساة فلاحى مصر ومن بين ما ذكره: «هناك طبقة كبيرة من العمال الريفيين الذين لا يملكون أى أراض زراعية، معرضة لكل أنواع المخاطر عند العمل لحساب كبار الملاك أو لحساب الحكومة فى إصلاح الطرق مثلًا أو شق القنوات. فى الصعيد تعتبر هذه الفئة من البشر تابعة للضياع الكبرى، وتعيش حياة تقارب حياة العبيد. فى يوم عمل قدره ١٢ ساعة مع استراحة قصيرة ظهرًا يقبض الرجل منهم ٣ قروش والمرأة تقبض قرشين ونصف، والطفل يقبض قرشًا أو قرشًا ونصف. بغض النظر عن قلة كميات الطعام وعدم انتظامها، فإن الفلاح يتعرض لظروف تشجع على انتشار كل أنواع الأمراض، خاصة السل وحمى التيفود. يعيش الرجل منهم وهو نصف جائع يكافح ويشقى ليدبر قوت أسرته، لكن إذا ما كان يعانى فى نفس الوقت من مجموعة منتقاة من الأمراض كالأنيميا والإسكارس والإنكلستوما، فإن مظهره العام سيبدو بائسًا يستحق الرثاء، ثم نراه بعد ذلك وقد أرغم على التوجه إلى المستشفى، هناك يُهمل شأنه ويُهدد ويُضرب كما يحدث كثيرًا، لذلك لا عجب أن يكون مصيره الموت غالبًا!

.. من النادر أن تصل النقود إلى يد الفلاح، فهو دائمًا مدينٌ للعمدة أو شيخ البلد. تتم ترجمة الدين كأيام عمل يقضيها فى خدمة هؤلاء، أو قد يفقد جاموسته أو حماره أو أدواته الزراعية أو كل ما يمتلك. مرة أو مرتين فى الشهر يأكل اللحوم. من أكثر الأمور بشاعة فى حياة الفلاح هو مصير أطفاله، فبمجرد أن يفطم الطفل الرضيع حتى يفقد الوزن تدريجيًا ثم يموت والسبب هو نقص البروتينات فى غذائه. والأطفال المفطومون يأكلون من نفس طعام الكبار. ومعدل وفيات الأطفال فى مصر هو الثانى على مستوى العالم إذ تبلغ نسبته ٢٦٪ من نسبة المواليد! وربما يكون الفلاحون المصريون من أكثر الشعوب فى العالم إرهاقًا وفقرًا!

 

ولم ينس مؤلف الكتاب فى مشاهداته أن يشير إلى الصناعة والتجارة والموظفين فقال: «الصناعة المصرية تعتبر فى طور الطفولة، ولكى تفكر الحكومة فى فرض ضرائب عليها فإن هذا سيعوق تقدمها تمامًا.. والطبقة الحاكمة المصرية تعتبر من أغنى الطبقات وأقلها تعرضًا للضرائب، حيث إن معظم ثروتها نابعة من الصناعة الأولى وهى الزراعة.. الموظف العام المصرى يشابه فى تصرفاته قناصل الرومان فى العهد القديم، هم يحاولون الحصول على كل ما تصل إليه أيديهم وما تسمح به وظائفهم، وتنفجر الفضيحة المالية بمجرد استغناء العمل عن خدماته، حيث يتضح أنه كوّن ثروة طائلة، وتتعجب كيف يتسنى لهذا الرجل الذى لا يتجاوز راتبه أربعين جنيهًا، كيف أنه اعتدى بمنتهى الفُجر على خزانة الدولة مسيئًا بذلك لأهل وطنه من الفقراء والفلاحين.. أحد أهم الوزراء فى حكومة النحاس باشا، وهو قريب له عن طريق الزواج، كان إلى عهدٍ قريب فى صفوف الطبقة الفقيرة من الشعب، أما الآن فهو يرفل فى النعيم والغنى الفاحش، هذا التصرف الأخلاقى سلوك ثابت ولا يُتوقع أن يصدر من الطبقة الحاكمة المصرية عمومًا ما يخالف ذلك.. الكتاب الأسود لمكرم باشا هو بلا شك عرضٌ مذهل يكشف ويعرى استغلال النفوذ السياسى..تجار الجملة والوسطاء وتجار الجملة المنتشرون فى المدن ينحصر كل همهم فى الابتزاز.. مستوى الأسعار يتزايد بشكل جنونى وبلغ حد الاستغلال البشع».

وعن أغنياء الحرب يقول المؤلف: «عندما قامت الحرب كان بمصر عشرون مليونيرًا، أما بنهاية عام ١٩٤٢م فقد أصبح عددهم ١٢٥ مليونيرًا. معظم هذه الثروة المضافة كان مصدره تلك الحرب ووجود قوات الحلفاء بمنطقة الشرق الأوسط.. تضاعف عدد المليونيرات ستة أضعاف، بينما زادت تكلفة المعيشة بواقع ٣٠٠٪! ولو توجهت لجنة من الخبراء الاقتصاديين لبحث مصادر الزيادة الفجائية لثروة البعض فى مصر خلال السنوات الحالية، فإنها ستواجه مصاعب وعقبات متنوعة».

 

عن وصف بعض شوارع القاهرة والمرور بها وثق الكاتب بعض الشهادات المهمة: «حى بولاق الذى يقع على بعد خطوات قليلة من حى الزمالك بقصوره الشامخة.. لقد تجولتُ فى شوارع بولاق نهارًا، حيث من الخطر على أوروبى أن يتجول فيه ليلًا، لقد شاهدت بعينى العديد من الأحياء الفقيرة فى لندن وأيرلندا وفى القارة الأوروبية، لكنى لم أصادف مثل ما يماثل فقر وقذارة حى بولاق فى القاهرة.. فحواريه الضيقة تكتظ بصبية صغار بملابس ممزقة، بينما تعف على وجوههم وعيونهم ألوف من حشرة الذباب مسببة لهم إحدى اللعنات المصرية وهى رمد العيون. وتتأمل تلك المنازل والأكواخ المتهالكة التى تتعرض فجأة لعوامل الفناء الفجائية فتدفن فى باطنها ساكنيها.. كل شىء فى القاهرة وأنت داخل سيارتك يخضع للنسبية، فسائقو سيارات التاكسى العرجاء القبيحة لا يحترمون أبدًا، سواء الأفراد والممتلكات. هم كثيرًا ما يقودون سياراتهم على الجانب الخطأ من الطريق، ويقفون فجأة، ويقطعون عليك الطريق.. عساكر المرور مماثلون فى ذلك لكل قوى الضبط فى القاهرة، ليسوا ذوى فائدة تذكر، هم يقفون فى مفترق الطرق يبدو عليهم كما لو كانوا يتمنون وقوع مصادمة بين سيارتين، هم على كل حال لا يصنعون شيئًا لمنع الكوارث.. وحتى أربع سنوات سابقة كان كل رجال الكونستابلات جهلة، حتى اليوم العديد منهم لا يقرأ ولا يكتب.. قيادة السيارة داخل ضاحية بولاق والأماكن الشعبية الأخرى خطر مؤكد وتحتاج إلى حرص وحذر يفوقان الوصف. إذا صدمت شخصًا وأنت لست المخطئ فإنك ستخاطر بفقد حياتك، ويتكفل بذلك جمع غفير من المارة الغاضبين وسوف تتحطم سيارتك وتتحول إلى شرائط معدنية.. دائمًا ما تأتى المصادمات الخطيرة فى الشوارع بسبب قائدى الدراجات المستهترين. فى الليل تجد قادة الدراجات التى تفقد الأنوار من الكثرة بحيث يصعب عدها، والبوليس يتجاهل مثل تلك الأمور!».

 

لم تغب السياحة عن صفحات الكتاب: «السائحون الذين يزورون مصر للمرة الأولى ويقضون ليالى مكلفة فى فنادق فخمة إنهم فى الواقع يشاهدون أقل القليل من هذا البلد. أخص بالذكر هؤلاء السائحات اللاتى يقرأن الروايات الغرامية السخيفة عن الشيوخ ذوى العيون البراقة ويسبحن فى أحلام رومانسية خادعة، وهن يتخيلن هؤلاء الرجال الذين يتكاثرون حولهن فى مداخل الفنادق وقد ارتدوا ملابسهم الفخمة كما لو كانوا هم شيوخ الغرام الذين قرأن عنهم فى الروايات، ويحلمن بأن يُحملن فوق صهوة جوادٍ عربى.. كثيراتٌ منهن تركن خيالاتهن الرومانسية تغلب الحكمة والمنطق والعقل، هؤلاء النسوة غالبًا ما يتم استغلالهن وسرقتهن بواسطة هؤلاء الترجمانات. والحصان الوحيد التى يمكن لإحداهن أن تمتطيه لن يزيد على ذلك الحمار أو الجمل فى منطقة الهرم!».

 

بعض الذين يهاجمون فترة ما بعد يوليو ١٩٥٢م يروق لهم أن يرددوا بعض العبارات التى أصبحتْ من كثرة ترديدها وكأنها حقائق أو مسلمات. من أهم تلك العبارات أن ما قبل ذلك التاريخ كان يمثل «حكمًا مدنيًا ديمقراطيًا»، عرف خلاله الفلاحون المصريون الممارسة الديمقراطية الحقيقية، بينما غابت تلك الممارسة عن مصر فى عقود ما بعد يوليو!

يحمل هذا الكتاب الوثيقة صدمة قاسية لهؤلاء.. حيث يقول الكاتب نصًا: «طبقة الباشوات الغنية تتحكم تمامًا فى البلاد، والحكومات تتعاقب بين حكومة ديكتاتورية إلى حكومة أقلية. حكومة الوفد التى يرأسها النحاس باشا من المفترض أن تكون ديمقراطية، لكن بسبب الجهل ونقص التعليم أصبحت هذه الحكومة ديكتاتورية. الانتخابات فى مصر ليست كذلك إلا بالاسم فقط. فالغصب والرشوة منتشران بشكل بشع. وأثناء الانتخابات سنة ١٩٤١م لم يدل خدم أو ممرضى المستشفى بأصواتهم. قالوا لى إنهم خائفون من الرجال المنتصبين أمام كل مركز انتخابى يراقبون. إذا أدلى أحد الناخبين بصوته ضد الوفد فإنه بإشارة صغيرة تصدر لمجموعة من البلطجية خارج المكان بتلقى الناخب علقة لن ينساها طوال حياته.. وفى القرى ولأن كل الفلاحين مدينون للعمدة لذا ليس هناك صعوبة فى انتخاب من يرغبه ذلك الرجل!

وفى موضعٍ آخر يذكر وصفًا لمواكب النحاس باشا وبعض سيرته فى الحكم: «النحاس باشا هو فى الواقع صديق عظيم لإنجلترا ومطواع لكل رغبات السفير البريطانى. كنت قد رأيته للمرة الأولى وأنا أطل من شرفة عمارة يقع مبناها فى ميدان إسماعيل (التحرير) عام ١٩٣٧م. كان ذلك إثر عودته من الخارج وفى جيبه معاهدة الصداقة التى عقدها مع إنجلترا فى مونترو. مر وسط الجماهير ممتطيًا سيارته الفارهة ويلوح بمنديل أبيض فوق رأسه. ازدحمت الجماهير الغفيرة بعرض اثنى عشر صفًا غير منتظم. ما إن اقتربت سيارة النحاس باشا حتى نشط البوليس فى دفع الجماهير وضربهم بالعصى وبسبب السور فى الخلف كان مستحيلًا لهم التراجع، فتلقى التعساء فى الصفوف الأولى ضربات موجعة بالعصى.. أما مظاهرات التأييد الحماسية فقد كانت منظمة بشكل كبير.. بسبب الاستقبالات الفخمة المصطنعة التى قوبل بها إثر عودته من الخارج، بدا النحاس باشا منتفخًا منتشيًا مملوءًا بالعظمة شاعرًا بأهميته الطاغية؛ فطمح أن يغلف نفسه بمظهر الديكتاتور ويغتصب لنفسه جزءًا من اختصاصات العرش.. والانتخابات المتقنة تُطبخ باستمرار لتضفى شرعية على ما استقرت عليه الأمور.. وجه مكرم باشا فى كتابه الأسود اتهامات للنحاس باشا بأنه لم يعد يفرق بين العام والخاص، وأنه منح أقاربه منازل فخمة ويخلق لهم أرضًا ليشتروها وأوقافًا ليديروها، وبنوكًا مخصصة يستعملونها كما شاءوا.. وأن بعض وزرائه متهمون باستغلال النفوذ والتربح على حساب الشعب!

 

أختم هذا الجزء من عرض الكتاب الوثيقة بمفاجأة عن فكرة توزيع الأراضى على فلاحى مصر أو قرارات ضباط يوليو بتأميم الأراضى وتوزيعها على الفلاحين- الإصلاح الزراعى- التى يتهمها كثيرٌ من المصريين اليوم بأنها كانت أحد أخطاء ثورة يوليو وأنها السبب فى تفتيت الأراضى الزراعية المصرية وتدمير بعض المحاصيل الزراعية التى كانت تمثل ثروة مصرية كبرى. وهنا أنا لا أخوض فى صواب أو خطأ تلك الاتهامات التى ربما يستطيع متخصصون تقييمها بشكلٍ موضوعى.

لكننى أعرض لجذور الفكرة، حيث يكشف الكتاب عن أن الفكرة تسبق قيام ثورة يوليو.. «كان الفلاحون المصريون يصدقون الوعود التى كان يبثها الألمان عن طريق الراديو باللغة العربية بأنهم سيحضرون مصر كمحررين لهم، وأقسموا بأنهم سيوزعون كل أراضى الإقطاعيين عليهم، وسيفرقون كل النقود المكدسة عند اليهود على الفقراء والمساكين.. كان وعد توزيع الأراضى خطة بارعة ودعاية متقنة.. عندما أصبح الغزو الإيطالى لمصر محتملًا إلى حدٍ كبير فى الأيام المبكرة للحرب، تعلم العديد من الباشوات والبكوات والأفندية اللغة الإيطالية واشتروا الأعلام الإيطالية وفى أيام العلمين اجتهدوا لتعلم اللغة الألمانية وتدربوا على نداء (هايل هتلر) فى الإسكندرية على وجه الخصوص.. وكان الخوف من الأخطار التى تهدد حياة طبقة الباشوات ليس مصدره الغزو الألمانى، لكن من الفلاحين.. ابتعد الأغنياء عن مزارعهم واعتقدوا أنه من الأنسب أن يرحبوا بروميل فى قصورهم بالقاهرة والإسكندرية».

ثم يتنبأ المؤلف فى كتابه- الذى كتبه عام ١٩٤٣م- بما نفذه ضباط يوليو نصًا: «احتمال أن يتعرض كبار ملاك الأراضى الزراعية لإعادة توزيع أراضيهم يومًا ما، يعزز هذا الاحتمال أن أبناء الفلاحين يحصلون الآن على مناصب فى الجيش المصرى!».

فى الجزء الثانى.. رسالة من نقابة النشالين لجلالة الملك!