رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالحفيظ طايل والأيام التى لن تعود

منذ لقائنا الأول فى شتاء ١٩٨٤، لم يكن عبدالحفيظ طايل مجرد صديق تجمعنى به محبة الشعر والفنون والآداب، والرغبة فى اقتناص كل ما تجود به الحياة من متع ومبهجات ولو صغيرة، لا يجمعنا فقط قضاء الليل فى شوارع ومقاهى شبين الكوم، وما تلاها من مدن وقرى توزعت باتساع خريطة القطر المصرى، وبطول سنوات تقترب الآن من الأربعين.. من شقة مفروشة نقتسمها معًا، لأخرى ينفرد بها أى منا، فلا يترك له الآخر المجال للاستمتاع بوحدته، فتتعدد الزيارات المفاجئة، و«المترتبة»، التى تديرها مصادفات الحياة وتدابير القدر، لم يكن مجرد رفيق لا يمنعه شىء من الاتصال بى ما بعد منتصف الليل أو «النهار» ليستشيرنى فى أمر لا يمكنه الانتظار، أو حتى يمكن أن ينتظر، ليقرأ لى قصيدة جديدة، كتبها، ولن يغير فيها شيئًا، وإن لم تكن توافق هواى بعض مفرداتها أو سياقاتها أو أيًا كانت اعتراضاتى وحججى وأسبابى.. هو فقط يريد الاحتفال بالشعر، بالكتابة، وبالحياة التى اخترنا مفرداتها معًا فى مقتبل الأيام، وعشناها معًا بطولها وعرضها، ويبدو أنها لن تعود مرة أخرى.. أبدًا.

منذ لقائنا الأول، عرفت أنه واحد من هؤلاء الذين أدركوا جوهر الحياة وقيمتها الحقيقية، فكانت المحبة هى إرثه الكبير الباقى، كان واحدًا من القلة التى أدركت أن المحبة هى كنزُ العارف، وهى ما يبقى منه وله، فزرعها فى كل خطوة له على سطح الأرض، ورواها ورعاها حتى أثمرت دموعًا فى أعين كل الذين آلمهم الفراق.. فلم يكن عبدالحفيظ طايل ممن يعبرون على سطح الحياة دون أثر يبقى فى الروح طويلًا، يعيش فيها وفينا، فنظل نتذكره، ونحكى عنه، وعن رحلته مع الحياة، ومع الدنيا ومنغصاتها، وأيامها المزعجة، وساعاتها المبهجة، والبين بين.

كان لقاؤنا الأول فى إحدى ندوات الشعر بقصر ثقافة شبين الكوم، وقتها كنت فى سنتى الثانية بكلية الهندسة، وكان عامه الأول بكلية التربية، وما زلت أذكر العبارة التى استوقفتنى يومها فى قصيدته: «إن الله لن ينزل من عليائه ليحمل سيفه فى الطرقات»، العبارة التى لم يضمنها فى أى من دواوينه التى نشرها فيما بعد، لكنها كانت المفتاح الذى قادنى إليه بعد انتهاء الندوة، لتبدأ رحلة الكلام الذى لا ينتهى، والسهر الذى لا يدوم، والرغبة الملحة فى مطارحة الدنيا الغرام، بكل ما أوتينا من وسائل، وكل ما تسمح الظروف به من إمكانات، ولو فقيرة، وحقيرة، ولا تعنى لآخرين أى شىء.

قادتنى إليه ملامح الرضا المرسومة بدقة وعناية فائقة فى تعرجات وجهه، وقسماته الوديعة الهادئة، وكلماته الصادمة، المباغتة فى صراحتها ووضوحها، ومواقفه الحاسمة.. ربما اختلفنا فى بعض المواقف أو الآراء، لكننا لم نفترق، ولم يكن لنا أن يكون بيننا فراق، حتى عندما بدأ رحلته مع «المركز المصرى للحق فى التعليم»، ودأبه الشديد و«معافرته» فى تجميع ما استطاع الوصول إليه لتأسيس «النقابة المستقلة للمعلمين»، وتحفظاتى على بعض من كان يقربهم، وما يمكن أن يتعرض له من مخاطر، لم يكن لى غير أن أبقى معه، وبجواره، بالجهد، بالنصيحة، بتنفيذ ما يطلبه منى وإن لم يوافق رغباتى أو تصوراتى، فلم يكن من السهل العثور فى رحلة الحياة على رفيق مثله، والحقيقة أننى لا أعرف حتى هذه اللحظة ماذا يمكننى أن أفعل عندما تخلو الليالى والصباحات من صوته يأتينى عبر الهاتف، من رفقته فيما تعودنا من سهرات، وإن قضيناها فى صمت، يكفينا جلوسنا معًا، وإن انتهى خيط الكلام. فهل تكفينى الآن ما تبقى لى من ذكريات معه، حكايات كان الحاضر فيها، رقصات مع الحياة كان هو صانعها، ورفيقها، ومصدر البهجة فى كل تفاصيلها؟!

وعلى كثرة ما بيننا من حكايات، وأيام، كانت تلك الليلة الشتوية، غزيرة الأمطار، أكثرها بهجة، وحضورًا فى رأسى، تحديدًا فى إحدى الليالى الأخيرة من ديسمبر سنة ٢٠٠٠، وكنا وقتها نتقاسم شقة مفروشة بمدينة السلام، ولأننى وقتها كنت أعمل صحفيًا بمجلة «أخبار النجوم»، فقد كنت من متابعى الجديد فى السينما العالمية، وعلى وجه الخصوص أفلام نجوم هوليوود الذين أحبهم، ومنهم توم هانكس الذى كنا من المغرمين به، وكان قد بدأ قبلها بأيام عرض فيلمه الجديد «Cast Away» فى مصر، فقررنا أن نذهب معًا لمشاهدته فى مجمع سينمات «طيبة مول» بمدينة نصر.

ذهبنا إلى مجمع السينمات فى الثامنة والنصف، وكلنا يقين من اللحاق بحفلة التاسعة مساء، لكننا فوجئنا قدام شباك التذاكر بأن الحفلة «كومبيلت»، وليس لدينا سوى حفلة منتصف الليل، فقررنا التسكع فى أنحاء الحى الجديد انتظارًا لموعد العرض بعد حجز مقاعدنا، ثم كانت المفاجأة عندما مررنا بأحد المقاهى الحديثة التى يضج بها حى مدينة نصر، فلم تكد مؤخراتنا تلامس مقاعد المقهى البلاستيكية الزرقاء، حتى ظهرت مقدمة فيلم «عطر امرأة» على الشاشة العملاقة، وكان اسم آل باتشينو يظهر بعرض الشاشة عندما التقت لمعة عينينا، فها هى الأقدار تخدمنا بوقت من المتعة الإضافية.

عندما خرجنا من قاعة السينما، كانت الأمطار التى حاصرت توم هانكس طوال ما يزيد على الساعتين فى جزيرته المعزولة، تنتظرنا عند باب «المول»، وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحًا، ولم تكن هناك من وسيلة مواصلات رخيصة تقلنا إلى مدينة السلام، وبينما دخلت مع نفسى فى حسابات معقدة، تفكر فى كيفية الوصول إلى شقتنا المفروشة، وهل يكفى ما تبقى معنا من مال للتاكسى، كان عبدالحفيظ ينطلق فى رقصة مبهجة تحت المطر، وهو يدعونى بصوته الجهورى إلى اللحاق به، والاستمتاع بما لدينا الآن وهنا، ولتنتظر مدينة السلام، ولتنتظر الحسابات.. وليكن ما يكون.

كان ما كان، وحدث ما حدث.. وليس لى الآن يا صديقى إلا أن أنتظر رقصتنا المقبلة.