رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البيسكلت الإسبور

شاب مع جمجمة
شاب مع جمجمة

من البعيد صرت أرقب الزحام فى أول العرب، فى عودتى من مدرسة بورسعيد الثانوية بنات بالبيسكلت الإسبور ٢٧، كنت أنظر وأتلصص على اللافتات، خطت أمامى زينب وبجانبها جيهان بنت عربى الضاحى، كانتا تحملان حقائب المدارس الصينية والإيطالية، للمشهد غرابة وأمل جديد فى عمل سيغير فى أحوالى بالتأكيد، قلتها فى نفسى، واختفى الجد محمد بن عبدالرحيم عن الأنظار، لم يعد يرى، أفرغ حسن الصعيدى مخزن أبيه القديم من البقج وعيدان القصب، وبدأ فى تطوير المحل بالأرفف الفورمايكا والحبايبى والخشب الزان، مع يافطة بالنيون، ورفع لافتة «بوتيك السلام للملابس المستوردة».

رقص محمد عبداللطيف ودار ولده مصطفى بالعصا، جاب أول العرب، من نبيل منصور وكسرى مرورًا بالعدل والحميدى، ضرب عصاه ينثنى كامرأة لعوب هز صدره، تمايل استعرض موهبته فى رقصة البمبوطية، شلاطة أدار الكاسيت البانا سونيك وغنى العشرى:

ـ عالمينا واربط يا بابور، جدف ياللى عليك الدور، اعمل هيصة واعمل غارة بورسعيد لابسة النضارة.

ضحك الواقفون، لمحنى عربى، زعق، جريت، وقفت أمام المقهى، فقال: 

ـ من باكر ستقف مع عمك حسن فى البوتيك، باعوا جديد، قديم، بالة، استوكات، أنت معهم فى كل الأحوال.

العربات الملاكى والأجرة تقف فى صفوف طويلة بامتداد محمد على حتى منفذ الرسوة عند الكوبرى الحديدى المضروب فى الحرب الأخيرة، البشر من كل جنس ولون، وصور السادات فى اللنش البحرى وبجانبه الشاة تزدان بها أعمدة الإنارة التى سطعت بشوارع وأزقة المدينة فى عز النهار، رمانى المعلم عربى بسويتر جديد وبنطلون جينز ألوان ماركة «وينستون» وسويتر هلنكة وردى وقال ضاحكًا فى فرح:

ـ حسوك احبيبى صومالى، عيوق يا واد يا جن البس.

وانتصب صباعه «الوسطى» يتراقص فى مواجهة حسين، فيضحك سعد العجرودى الذى ظهر وقد شبك ذراعه بذراع طارق العجيزى وسارا يتطلعان للافتات المرفوعة فى كل مكان حتى البيوت الخشب، التراسينات، أعلى سينما الشرق الصيفى، وأفيشات فيلم «فضيحة فى الزمالك»، وتبرز صور بالأبيض × أسود للمليجى وعمر الشريف وبرلنتى عبدالحميد.

رأيت حسن الصعيدى يستأذن المعلم ضاحى، ويأمرنى بالذهاب مع على بطة لإحضار نقلة أولى من البالات الإيطالى من داخل باب عشرين بالميناء. تفاءلت خيرًا من جديد وشعرت بأنى صرت فهدًا لا يشعر ببرد يناير، ولا قرصة الليالى الفائتة، ولا الكالو الذى ترك علاماته من جلد سميك فى باطن قدمى وأصابعى الخمسة، فثقب الحذاء الموريتان الذى نظره عم حسن الصعيدى فى مكر قائلًا:

ـ واد بلاص صحيح، خش المحل وخد لك جزمة ولا بوت صينى.

ألتفت مندهشًا لسطوع اليافطة النيون، بوتيك السلام، حسن عبدالرحيم وشركاه، ركبت الدراجة وسبقت ممدوح عسران وصلاح الكونج إلى الميناء، فشاهدت زينب وأنا المغادر لأحمد ماهر، عند تلاقى الحميدى بمحمد على كانت تقف عند كشكك فلانتينو أسفل بلوكات الهيئة، ابتاعت شيكولاته نبتون ومارس ودفعت للرجل نصف جنيه، فزادت دهشتى وهى تقضم الشيكولا وتكيدنى بطرف لسانها الأحمر الراشق فى الرقائق البنية، دنوت بجانب شجرة السيسبان، وقد تدلت قطوفها وردية حمراء بنثار يفترش الأرض البازلت أمام فيلات الهيئة، خفت أن يرانى أحد، ولكننى تجرأت ومددت لها يدى وأنا الراكب فوق البيسكلت، قدمى اليمنى على البدال من جهة واليسرى وقد سندت على الأرض البازلت، قلت لها:

ـ اركبى.

ضحكت بخوف، جالت تستطلع المكان، تتلصص، تنظر المارة، تستطلع وجوه الخلق من خلف وأمام، ترقب القادمين من قبل محطة السكة الحديد المغلقة، وخلفها أرتال من الزائرين توافدوا من قبل موقف أتوبيس السوبر جيت ومن حى الإفرنج، جلست بالكرسى الخلفى فضغطت بأصابعى أضرب السارينة الحمراء، مبتهجًا كطفل، سعيدًا بتراقص العجلات، فررت راغبًا بترك أول العرب، أقصد البحر، صرخت زينب فى جنون:

ـ يا هوائى يا شيطان الإنس ليس هذا هو طريق الجمرك، ولا حتى باب عشرين يا جان.

صمتّ، فضحكت بخلاعة وأنا أنظر إليها، وقد عدت برقبتى تاركًا الجادون، لتفر البيسكلت على الطريق وحدها، تصرخ مرددة:

ـ انظر أمامك يا مجنون ولا تلتفت للخلف.

تتلاقى أعيننا فى فضاءات وشارع صلاح سالم وقرب الفنار وشارع الجمهورية وهى تصرخ فى دهشة وفرح لأسألها:

منذ متى وأنت تصادقين جيهان؟

فترد:

ـ الدرس فى مكان واحد، الإنجليزى بمنزل مستر وليم قبل نادى المعارف.

أنظر لشفتيها فى تلصص جائلًا بعينى أحدق فى مفارق صدرها، فأرى الزغب الأصفر وقد وقف حارسًا للنهدين، ومن فوقهما سوتيان أسود مثير بارز من أسفل التايير الرمادى، أسألها:

ـ ولماذا الرمادى وليس الأزرق أو الكحلى وهو زى الثانوى؟

تقول زينب وقد انتهت من قضم آخر قطعة فى لوح الشيكولاتة البينتو:

ـ هذا زيى خاص، ملاكى، زى المدرسة كحلى فعلًا، بس قلت أغير، كنت عارفة إنك جاى ورايا يا أبو عيون زرقاء، يا أسود يا فاجر أنت، تأخذنى من جنب بيتى يا حسين مش قادرة أفصل فى أمرك، أنت شيطان أم ملاك يتظاهر بالفجر ويخجل من الحب والجنس ويعشق ملابس النساء الداخلية الحرير، قل لى من أنت يا ابن الحبشى. 

أضحك وأفر فى شوارع المدينة قاصدًا جيانولا وممشى ديلسبس وشارع فلسطين ومحلات سيمون أرزت أنظر للكلوتات البناتى وقد تراصت فى فتارين سيمون، ننظر سويًا للكلوتات الحريمى، تضحك زينب، وأخجل أنا وأطأطئ رأسى وأنظر للبدال فتقول:

ـ بتنكسف قوى يا شيطان أنت يا فاجر.

أنظر لها من جديد وأنا شبه طائر بمحاذاة سور الميناء وقد تطاير الجوب الرمادى حتى كشف عن ساقيها البيضاء وأنا أطير ذاهلًا، كدت أصطدم بالعربية البيجو التى توقفت أمامى فجأة فنهرنى السائق فى غضب قائلًا:

أفق يا كازانوفا.

من بعد إطعامك للعصفور بحبات قلبك وشغف روحك والحواس بنشوة الغواية، لا أريد إلا هذا الأسود وعلاقته بالبياض الشفيف فى جسدك المقدس، المغناج، الطرى، الشهى، المحرم، المحلل لدمى المسفوح وروحى العطشى، ألم يأن الأوان لقطاف، مرة واحدة فى عمر صحرائى الجدباء، كنت تلقمين الهوى بعضًا من ظمئى للخروج، بنارك، من عقود القفر والعشق المحرم.

خلف مبنى المحافظة توقفت بالدراجة، نظرت زينب إلى بعمق، وانفرطت دمعة من عينيها وأنا أسير ببطء بالبيسكلت، كانت تمشى ببطء وقد وضعت يدها اليسرى بكفها على المقعد السفنج صامتة، مطأطئة الرأس تنظر لجسدى، تحدثنى عن أبيها، تنظر إلى فى دهشة وأنا الصامت أنصت باهتمام وعينى تنظر لمبنى مديرية الأمن وإدارة المرور لا توقف فى شارع محمد على بين الحد الفاصل بين حى العرب وحى الإفرنج، أمشى غاضبًا متجهمًا على الأرجح، أفكر فى مغزى ذهابها معى وركوبها فوق الدراجة، تسألنى:

ـ لماذا لا أرى للفرح بشائر على وجهك أو ملامحك؟

أحدثها عن علاقتها بجيهان بنت الكابتن صابر ضابط الجيش الخارج بعد العام السابع والسبعين، تتلفت فى وجوه المارة خلسة وتقول:

ـ أخشى أن يرانى أحد من جيراننا.

ـ ولماذا لا تفكرين فى هذا قبل الركوب خلفى؟

اجتر ما حدث وقت ركوبها بالكرسى الخلفى وطيران الجوب بكلوتها الأسود وهذا الشىء اللابد فى جب غائر والذى جعلنى أطيل النظر فى هوس متلصلصًا فى خلسة، فى جرأة وفحش، فى خوف ورهبة، فى شهوة، فى تناقض.

أستعيد ما جرى وقد سالت الشيكولاته على فمها لتزيدنى هياجًا وأنا الدانى بأصبعى السبابة أمسح بقايا السائل البنى الساقط قريبًا من ذقنها فلا تبالى، أقول فى نفسى: نشوانة هى أم خائفة، أم مترددة، أم أنا المتناقض.

سارح فى أفكار شتى ما بين الطهر والدنس فى علاقتى بهذا الجسد الشهى، ولاذا، جاءت معى هكذا بلا تردد ولا موانع وماذا تريد. 

ماذا أريد أنا إذًا وماذا حسبت فيما يخص علاقتى بزينب، جسدها، روحها، ملامحها المغناجة، وتلك الدمعة التى فرت فجأة من عينيها عندما كانت على وشك الوقوف بقدميها على كرسى الدراجة الخلفى وقتما تطايرت ملابسها، وصرخ المارة من شباب الثانوية العسكرية، فتوقفت وكلى غضب ممتلئ بالشهوة يسيرنى التناقض وتصرعنى الأفكار، قالت زينب:

ـ أبى متوفى، شهيد، من المحاربين القدامى.

عيناى ترقبان بؤبؤ عينيها وحدقتيها وتلك الحور البين والفارق بحدة بين سواد وبياض فى عيون المها المغناجة، الشقية، الطيبة الممتلئة بالحنان والحب والطافحة بشهوة لا تحتمل، كنت أجول الآفاق مستطلعًا خارطة المكان، أتذكر حديث طارق العجيزى، والخن، المكان الآمن، البراح، فوق عمارة ملفاى، كان الدور السابع يلوح لى قبل الغروب، وأنا أستطلع ملامحها الأسيانة فى ود، أفكر فى الصعود بها لأعلى، لآخر حدود الأرض، بعيدًا عن أعين البشر التى صارت ترمينا بنظرات فاجرة كالسهام ترشق فى جسدينا، أنظر فى ساعتى، زحف المغيب، وهدأت الأمكنة، واستطال عضوى، ورأيتها تضحك من جديد بلا اكتراث، تقبض على ظهر كفى الأيمن الساحب للدراجة من وسط الجادون، فردت كفها براحتها فوق كفى، فشعرت بونس ما ودفء.

ـ خائف؟ّ!

أرددها لنفسى وفى نفسى، وأتخيل شكل المواجهة مع المعلم عربى وحسن الصعيدى وقت عودتى، واستحالة ذهابى للميناء فى هذا الوقت، الليل يزحف لتصارعنى الأفكار الخبيثة من جديد، أفكر فى حالى وعملى وبياتى منذ قدومى لأول العرب وحدى.

تدخينى السجائر بشراهة وتلك الأنثى الشهية التى حلمت بها، ها هى بين يدى وأنا العاجز عن حسم أمرى، أود احتضانها والصعود بها نفارق أرض الشياطين هذه، نارًا تخمد وأنا أسحبها من أناملها، أرمى بالبيسكلت على رصيف «ملفاى» الذى خلا من الزبائن إلا من طفلة صغيرة تلعب الكرة تنظر لها زينب فى فرح طفولى، ودنت من خلفها تربت على كتفها، قبلتها ومسدت على شعرها الطويل، كانت الرياح قد زامت فشعرت بالبرودة تجتاحنى، تخترق ضلوعى، قلبى يدق وهى تنظر لساعتها، تمسك بمعصمى، ترجونى العودة بأقصى سرعة.

مشيت وأنا صريع لأفكارى، ما بين الخوف والأسى وهياجى أقول فى نفسى: مجنون أنت يا صومالى.

لتكررها زينب من خلفى:

ـ مجنون أنت. مالك متجهم وأخرس هكذا، وأنت الذى حدثنى فى حلمى بأمنيته الوحيدة فى الحياة وهى الانفراد بى.

تنتكس رأسى، وأتوه فى شرودها وخنقتى وهذه اللعنة التى تسمى التردد والتناقض، أقول فى نفسى، لو سقيت ظمئى من رضابها سأختفى من حياتها والدنيا قبل أن تودعنى وتهجرنى هى، تبرز طاقة صدرها من جديد ويشف الهواء ويخف ويستقوى وتطير ملابسها من جديد عندما توقفت فجأة تنظر لى برضا ودهشة وأنا السارح فى دنياى معها.

كن إنسانًا ولو لمرة أولى وأخيرة مع زينب التى أتتك وحدها طوعًا بلا كره، حبلى بالفرح المخاتل والمنتظر لمن يفك أسر ملكاتها وحواسها ويراود شهوتها، رابضًا تحت قدميها الصغيرتين وساقيها البلورتين، وهذا الصدر اللؤلؤ المشتهى.

اشتريت آيس كريم بسكوتة وناولته إياها فضحكت، وسرنا سويًا حتى الثالث والعشرين من يوليو، فوجدت عساكر الأمن يرمقوننا بخبث، خشيت أن يستوقفنى أحدهم ليسألنى عن بطاقتى. نظرت لساعة يدى من جديد وقررت العودة على ألا تكون هذه الفرصة هى الأخيرة.

سألت نفسى بحزم وأنا فى الطريق لأول العرب، أمشى ببطء من تحت بلوكات مدرسة الوصفية: ماذا تمثل لك زينب، وماذا تريد من جيهان، وعن أى الأشياء تبحث؟ عن جدوى وجودك، عن ما يفور فى رأسك عن دواء لتوقك المنفلت، دواء لدائك تفرغ فيه طاقتك المهدورة فى سهر الليالى، أم رجولتك المغدورة فى رضائك بدور التابع.

أنزلتها قبل خضير الخطاط، فور توديعها وتلويحها لى من بعيد نظرت إليها فى مشيتها وخطوها وتنقل قدميها وهفهفة خصلات شعرها مع قدوم ليل الخريف الأخير قبل شتاء يعد بالبرودة والوحدة، فوجدتنى تائهًا أتذكر شقيقتى التى ماتت منذ زمن.

أعود لتأخذنى التوهة والتيه وأسال نفسى فى صرامة:

مَن أنت وماذا تريد من زينب؟ ولماذا لم تصعد بها لأعلى لتثبت لها حبك وتمسكك بها؟

لم يهزنى سبابهم لى ولا نعتى بالمستهتر، وقفت ما بين الضاحى وعم حسن الصعيدى مكلومًا بلا صوت، كنت أنصت للتوبيخ بلا اكتراث يذكر، قالا لى: أين كنت؟، وكانت نظراتهما موجهة بخبث، كطلقات خارقة حارقة، لم أعترض وكلى صمت على عدم ذهابى للميناء، كل ما كنت أخشاه هو تلك النظرة الكاشفة من عربى الضاحى الذى أكدت لى أنه عرف كل شىء عن علاقتى وخروجى وتنزهى بالبيسكلت مع زينب.

لا يهم.

لا شىء يهم على الإطلاق، طأطأت رأسى وبت أستعيد ما جرى، لا أعرف هل من حقى الفرح والانتشاء بما حدث، أم أن حزنى على الصد من ناحيتى تجاه تلك المشاعر الرهيفة، زينب يا من كنت أتطلع إليك وكلى شوق وعشق لم أدركه.

أقول فى نفسى: ماذا تريد أيها الشيطان، الملاك، الغامض، المتناقض؟

قدمى ترتجف بساقى، وقلبى يدق بعنف أخشى الآهات، أخشى مجهولًا لا أعلمه ولم أتبين ملامح له فى الواقع، ولا حتى فى تلك التفاصيل اليومية فى أول العرب.

شاب مع جمجمة - الرسام الفر نسى بول سيزان (1839-1906)