رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة «أوبنهايمر» اليهودى

يحاول فيلم «أوبنهايمر» الإجابة عن السؤال الصعب: مَن هو بالضبط روبرت أوبنهايمر، أبو القنبلة الذرية؟، ويطرح كذلك سؤالًا أصعب هو: إلى أى مدى كان أوبنهايمر يهوديًا؟ يطرح الفيلم قصتين، قصة الموت الجماعى، حيث أصبح اسم أوبنهايمر استعارة عن الموت الجماعى تحت سحابة عيش الغراب، لكن القصة الأخرى هى قصة أخلاقية ترتكز على أزمة حقيقية مع هويته كيهودى.

قال المؤلف راى مونك: «بالنسبة للعالم الخارجى، كان أوبنهايمر يُعرف دائمًا بأنه يهودى ألمانى، وكان دائمًا يصر على أنه ليس ألمانيًا ولا يهوديًا، هذا أثر على علاقته بالعالم، فهكذا كان يُنظر إليه».

وُلد أوبنهايمر عام ١٩٠٤ لأبوين يهوديين ألمانيين، ارتقيا بسرعة إلى الطبقة العليا فى مانهاتن بنيويورك، لم يكن والداه متدينين، لم يذهبا أبدًا إلى كنيس يهودى، لم يكن لـ«أوبنهايمر» بار ميتزفه «طقوس البلوغ اليهودية»؛ وبدلًا من ذلك، انضم والداه إلى جمعية الثقافة الأخلاقية، وهى فرع من اليهودية الإصلاحية التى رفضت العقيدة الدينية لصالح الإنسانية العلمانية والعقلانية، وأرسله والداه إلى مدرسة الثقافة الأخلاقية فى أبر ويست سايد فى نيويورك. 

عندما بدأ نبوغ «أوبنهايمر» الأكاديمى، كانت معاداة السامية تدور حول نجاحه، حيث التحق بجامعة هارفارد، فى الوقت الذى انتقلت فيه الجامعة نحو نظام الحصص بسبب مخاوف بشأن عدد اليهود المقبولين، وفى الجامعة ظل بعيدًا عن الجدل، حتى إنه حاول إقامة علاقات صداقة مع طلاب غير يهود، لكن معاداة السامية السائدة أدت فى الغالب إلى إفشال تلك الجهود.

بعد حصوله على درجة البكالوريوس من جامعة هارفارد عام ١٩٢٥، حصل على درجة الدكتوراه فى ألمانيا «ما قبل النازية»، وحتى الثلاثينيات من القرن الماضى، لم يكن أوبنهايمر مباليًا بالسياسة، وشرح ذلك لاحقًا فى جلسة الاستماع الشهيرة عام ١٩٥٤ أمام لجنة الطاقة الذرية الأمريكية قائلًا: «لقد انفصلت كليًا تقريبًا عن المشهد المعاصر فى هذا البلد، لم أقرأ صحيفة أو مجلة حالية، لم يكن لدىّ راديو ولا هاتف، علمت بانهيار سوق الأسهم فى خريف عام ١٩٢٩ بعد فترة طويلة من وقوعه. المرة الأولى التى أدليت فيها بصوتى كانت فى الانتخابات الرئاسية لعام ١٩٣٦». 

فى منتصف الثلاثينيات، حدث تحول عميق فى حياة أوبنهايمر، حيث بدأت مأساة اليهود تحت الحكم النازى، قال فى شهادته: «كان لدىّ غضب مستمر ومتأجج بشأن معاملة اليهود فى ألمانيا، كان لدىّ أقارب هناك، وكنت أساعد فى تهجيرهم»، كما خصص ٣٪ من راتبه لمساعدة العلماء اليهود على الهروب من ألمانيا النازية، وهنا كان التحول الجديد فى هويته كيهودى.

بحلول الحرب العالمية الثانية، كانت يهوديته ورغبته فى هزيمة ألمانيا النازية «فضلًا عن نبوغه» هو ما دفعه إلى مشروع مانهاتن، وهو مشروع التطوير السرى لقنبلة ذرية أمريكية فى مختبر لوس ألاموس فى نيو مكسيكو.

رغم أنه كان مرشحًا غير محتمل لهذا المنصب، فقد كان مكتب التحقيقات الفيدرالى قد صنفه بالفعل على أنه مشتبه سياسى بتعاطفه مع الشيوعيين، لكن تم اختياره كمدير لمشروع مانهاتن فى عام ١٩٤٢ جزئيًا، لأنه أظهر إحساسًا حارًا بالأمر، قال أوبنهايمر: «سيكون للنازيين مشروع قنبلة خاص بهم، يجب أن نتحرك، ونحتاج إلى التحرك بسرعة»، والحقيقة أن ستة من قادة المشروع الثمانية كانوا يهودًا، إلى جانب عدد كبير من الفنيين والعلماء والجنود اليهود فى الرتب، وبعضهم من اللاجئين من أوروبا.

على الرغم من إلقاء قنبلتين ذريتين فى النهاية على مدينتى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين، وليس ألمانيا- وكانت ألمانيا قد استسلمت بالفعل بحلول ذلك الوقت - فقد تم الترحيب بأوبنهايمر كبطل لدوره فى إنهاء الحرب العالمية الثانية، لكن بعد تسع سنوات فقط، تعرض للإذلال أمام هيئة الطاقة الذرية وجُرد من تصريحه الأمنى بسبب تعاطفه مع الشيوعية. كما أن لويس شتراوس، رئيس لجنة الطاقة الذرية، شكك فى إخلاص أوبنهايمر لمعارضته تطوير قنبلة هيدروجينية، والحقيقة أن أوبنهايمر لم يعارض التطوير بسبب دعمه الشيوعيين، ولكن لأنه بجانبه الأخلاقى كان يرى أن الغرض من السلاح الذرى هو إنهاء كل الحروب، لكن شتراوس كان له هدف مختلف هو تفوق الولايات المتحدة على الاتحاد السوفيتى، ورأى أن من يعيق هذا التفوق لا بد أن يكون جاسوسًا للسوفيت.

كانت مشكلة أوبنهايمر طوال حياته التى أدت إلى عزلته مدى الحياة ونوبات الاكتئاب هى المسافة التى وضعها بينه وبين اليهود، وعدم قدرته على تحديد هويته بالكامل على أنه يهودى، فقال صديق وزميل فيزيائى يهودى آخر لأوبنهايمر يدعى إيزيدور رابى: «عندما ينظر إلى اليهود يقول هذا شعبى، لكن هويته كانت تعذبه فى أحيان أخرى».