رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الحرب قامت على أجسادنا».. شهادات خاصة لنساء تعرضن للاغتصاب فى السودان

جريدة الدستور

في نيالا غرب السودان، بعدما انتصف ليل ثاني أيام عيد الأضحى المنصرم في يونيو/ حزيران، كانت فاطمة 20 عامًا، تعد الطعام المتبقي من أمس الأول استعدادًا للعشاء رفقة والديها، ليسمعوا جميعًا وقع أقدام قريب أعقبه اقتحام عنيف لباب المنزل دون طرق.

كان الاقتحام لاثنين من قوات عسكرية لا يعلم الوالدان لأي طرف ينتميان، ظن الجميع أن هناك قصفًا أو اشتباكًا جديدًا، لكن الوالد فوجئ بالاعتداء عليه وتكبيله، وهجوم أحد العساكر على ابنته واغتصابها أمامه.

تناوب اثنان من العساكر على ذات الفعل مع الأم والابنة، وسط صرخات مُستغيثة منهما ومحاولات عاجزة من الأب لإغاثتهما بلا جدوى، ليرحلا وسط بكاء ونحيب من الأسرة بأكملها. لكن في الصباح فوجئ والدا فاطمة بانتحارها.

يورد هذا التحقيق شهادات خاصة وصادمة لنساء في السودان، قامت الحرب على أجسادهن، بعدما تعرضن للاغتصاب على يد عساكر وجنود لم يستطعن تحديد انتمائهم، في وقت لا يستطعن فيه الوصول إلى حبوب لمنع الحمل بسبب خروج الصيدليات المتاخمة لمناطق النزاع عن الخدمة، فنتج عن ذلك حمل وعمليات إجهاض عشوائية.

نساء السودان

انتحار فاطمة بعد الاغتصاب

تقول خالة فاطمة، لـ«الدستور»: «لم تستطع الأسرة إغفاء جفونها بعد الواقعة، وظل الجميع مُستيقظًا في غرفته يبكي، لا سيما بعدما فقدت فاطمة عذريتها، وظنت شقيقتي وزوجها أن النوم سيغلب الفتاة في نهاية الأمر إلا أنها لم تتحمل ما حدث».

فجرًا صعدت فاطمة- التي كانت تدرس في الصف الأول الجامعي- إلى مروحة السقف المُعلقة وشنقت نفسها، ليتفاجأ الوالدان بها متدلية في الصباح وقد زهقت روحها: «ماتت ابنة شقيقتي بعد اغتصابها وحرمانها من الحياة، ودفنها والدها في باحة المنزل خوفًا من العار».

منتصف أبريل/ نيسان العام 2023 وقع نزاع مسلح بين القوات المسلحة السودانية التي يقودها عبدالفتاح البرهان وبين قوات الدعم السريع تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أدت إلى مقتل 3 آلاف وإصابة 6 آلاف آخرين وفق وزير الصحة السوداني هيثم إبراهيم.

حميدتي والبرهان

بروتوكول المعالجة السريرية

88 حالة اغتصاب وثقتها وحدة مكافحة العنف ضد المرأة بالسودان (حكومية) منذ بدء الحرب، 42 حالة في الخرطوم و25 حالة في نيالا و21 حالة في الجنينة، ولكن وفق سليمي إسحاق، مدير الوحدة، فإن ذلك العدد لا يمثل 2%، ما يحدث للنساء على الأرض، فهناك 9 ولايات تحت التأثير المباشر لتهديدات العنف الجنسي للنساء المتصل بالنزاع.

توضح إسحاق، لـ«الدستور»، أن العنف الجنسي المرتبط بالنزاع له أشكال كثيرة، لكنه جريمة مُدانة دوليًا في القانون السوداني ولدى الأمم المتحدة، مبينة أن الفئة العمرية من 12 إلى 17 عامًا هي الأكثر عرضة للاغتصاب خلال حرب أبريل، وهناك استهداف للقُصر لعدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، ولأن جسدهم وعقلهم غير مهيأ لمثل تلك الاعتداءات، ما يصيبهم بتشوه نفسي وجسماني.

العنف الجنسي المرتبط بالنزاع جريمة لا تتم بدافع الرغبة الجنسية بل النفوذ والهيمنة والإذلال، ولا يقتصر على الاختراق الفعلي لجسم الإنسان، بل يشمل أفعال الاغتصاب الجنسي والتحرش والاتجار بالبشر والإكراه على البغاء، أو الحمل القسري، أو التعقيم القسري، أو التعرية القسرية.

المصدر - مركز مساواة (منظمة مستقلة غير ربحية في السودان)

سليمي إسحاق

تسعى وحدة مكافحة العنف ضد المرأة إلى مساعدة الناجيات: «نوفر أرقام هواتف لتلقي البلاغات واتفاق مع بعض المراكز الصحية التي تستقبل النساء لتلقي العلاج بعد وقائع الاغتصاب وهناك فرق للدعم النفسي والطوارئ لإيصال النساء المُغتصاب إلى أماكن آمنة».

تصل عقوبة الاغتصاب في السودان وفق المادة 149 من قانون العقوبات إلى عامين، بينما القانون الدولي الجنائي صنف الاغتصاب على أنه جريمة ضد الإنسانية وفق اتفاقية جنيف العام 1949. 

جريمة اغتصاب النساء يعززها السكوت في السودان وفق سليمي، لأن كثيرًا من الأهالي يشعرون أنها وصمة عار عليهم، مبينة أنه قبل الحرب كانت الوحدة تقدم خدمات متعددة ولكن حاليًا أصبحت منحصرة في تقديم الحد الأدنى من الخدمات الصحية والنفسية لإزالة آثار الاغتصاب على النساء.

تضيف: «ننفذ بروتوكول المعالجة السريرية للاغتصاب المأخوذ من وزارة الصحة السودانية، لكن نعاني من نقص في الأدوية اللازمة لمنع الحمل، والأمراض التي تنتقل عبر الاتصال الجنسي، لأن المراكز الصحية خرجت عن الخدمة».

في 5 يوليو الماضي أعلنت الأمم المتحدة في بيان لها رصدها واقعة اغتصاب 20 امرأة خلال اعتداء واحد في العاصمة الخرطوم.

وفاة هنية بعد الاغتصاب

صعوبة وصول الناجيات من جريمة الاغتصاب للخدمات الصحية، أدت إلى وفاة هنية، 22 عامًا، فتاة سودانية من أطراف الخرطوم، تعرضت للاغتصاب باستخدام العنف، حين هجم عليها أحد جنود أطراف النزاع في منزلها وحاول اغتصابها إلا أنها حاولت الهروب للشارع.

تقول والدتها لـ«الدستور»: «كان الوقت متأخرًا فعندها ولجت هنية إلى الشارع ولكنه استمر في ملاحقتها وسقطت أرضًا ليقوم بضربها بكعب سلاحه في مناطق متفرقة من جسدها، حاولت الصراخ لكن لم يسمعها أحد وربما خشي الجميع التدخل».

تعرضت هنية للاغتصاب والضرب والسحل ووصلت إلى طوارئ مستشفى أمدرمان عرجًا على قدم واحدة من شدة الألم إلا أنها توفيت على أبوابها، حيث وصلت مغطاة بالدماء وتنزف بشدة من رحمها: «توفيت بعدما قصت للطبيب حادث الاغتصاب العنيف الذي أدى إلى وفاتها لكننا لا نستطيع التبليغ بشيء».

نساء السودان

الخوف من التبليغ

تؤكد ذلك داليا أبوالحسن، مسؤول مبادرة ناجيات من حرب 15 أبريل/ نيسان بالسودان (غير حكومية)، بأن الحالات المُبلغ عنها أقل بكثير مما يحدث في الواقع: «هناك نساء تم اغتصابهن وتصويرهن، وهناك حالات لم نستطع الوصول إليهن في الوقت الملائم وماتوا دون أن تُسمع أصوات صراخهم».

تقدم المبادرة الدعم الطبي والنفسي والقانوني للناجيات من جرائم الاغتصاب في الحرب*

تقول لـ«الدستور»: «تتعرض النساء في الخرطوم وغرب البلاد للاغتصاب بصورة يومية، ومعظم الحالات من القاصرات والأطفال وتعرضت كثير منها للوفاة في أثناء أو بعد الانتهاكات، فقد وصلنا 60 امرأة من السودان تعرضن للاغتصاب وبعض البلاغات تكون جماعية تشمل أكثر من سيدة لأن دخول المنزل يكون قسريًا ويتم اغتصاب جماعي للنساء».

مبادرة ناجيات من حرب 15 أبريل

     في 20 أبريل، تم اختطاف سواكن، فتاة سودانية، من داخل منزلها تحت تهديد السلاح؛ ليتم اغتصابها عدة أيام ورميها في الطرقات، دفنها والدها في منزلها ولم يقم بالتبليغ خوفًا من الفضيحة، وادعى أنها ماتت نتيجة القصف المستمر بين القوات.

المصدر - مبادرة ناجيات حرب أبريل

يأتي البلاغ للمبادرة عن طريق العضوات أو المستشفيات المحلية أو رسائل لصفحة المبادرة، وعلى الفور يتم توصيل الأدوية للحالة أولًا، ثم توصيلها إلى مكان آمن، ومتابعتها نفسيًا والتأكد من توثيق بياناتها: «تزيد صعوبة الوصول للحالات كل يوم وتقديم الدعم لها، وهناك حالات نصل إليها متأخرًا بسبب الوضع الأمني».

في مايو/أيار ، رصدت الأمم المتحدة 53 حالة عنف جنسي على الأقل في السودان، معلنة أن العدد الحقيقي من المرجح أن يكون أعلى من ذلك بكثير.

اغتصاب ثلاث شقيقات

«كنت أكبرهن حاولت الهرب لكنهم أجبروني على مشاهدة اغتصاب شقيقاتي»، كان الأمر مؤلمًا مثلما تصف سهى، 30 عامًا، سودانية من الخرطوم، تعرضت للاغتصاب هي وشقيقتاها وحين حاولت الهرب أجبرها جنود الحرب على مشاهدة التناوب في اغتصابهن.

تقول سهى لـ«الدستور»:«تم اغتصابنا نحن الثلاثة في إحدى المناطق المجهولة بالخرطوم بعد اختطافنا من قبل خمسة جنود، كان الاغتصاب في المكان نفسه، يعني في أثناء اغتصابي كنت أشاهد ما يحدث لأخواتي، حسيت بألم شديد كوني الأكبر سنًا».

لم تستطع سهى إنقاذ أخواتها أو الهروب من مشهد اغتصابهن المؤلم أمامها، حيث أجبروها على المشاهدة: «لم أستطع الحصول على حبوب منع الحمل وأعطيتها لشقيقاتي الصغار، وقمت بإجهاض نفسي في المنزل بالطرق التقليدية القديمة ووصلت إلى مستشفى الخرطوم في حالة خطرة». 

إنفوجراف الدستور

نقابة الصيادلة: «لدينا نقص في حبوب منع الحمل»

يحذر الدكتور محمد سليمان، عضو نقابة الصيادلة بالسودان، من تعرض الناجيات من الاغتصاب للإجهاض العشوائي، بسبب خروج الكثير من الصيدليات المتاخمة لمناطق الاشتباكات عن الخدمة نتيجة الحرب وعدم توافر حبوب منع الحمل التي يحتاجها النساء المغتصبات في السودان.

يقول لـ«الدستور»: «النساء تحتاج إلى أدوية منع الحمل ومضادات اكتئاب، في وقت خرجت فيه 244 صيدلية عن الخدمة وهناك نقص في دواء Famila الخاص بمنع الحمل، بعد زيادة الطلب عليه من النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب».

تأتي النساء للصيدليات لطلب تلك الأدوية وفي بعض الأحيان الصيادلة يجوبون الخرطوم بحثًا عنهن لإعطائهن الأدوية اللازمة، بحسب سليمان لأن كثيرًا منهن تخشى الإفصاح: «نعطيهن إرشادات للتعامل في الأيام الأولى من واقعة الاغتصاب حتى لا ينتج عنها أطفال».

وعن الطريقة الصحيحة من الناحية الطبية للتعامل مع الناجية من الاغتصاب يقول: «تعطى في البداية دواء Famila أربع جرعات حتى لا يحدث حمل، وكذلك فيتامينات الحديد والكالسيوم، ومضادات الاكتئاب للدعم النفسي».

في 23 يونيو/ حزيران تعرضت فتاة في الخرطوم لاغتصاب جماعي من قبل مسلحين وسط اتهامات متبادلة بين طرفي الصراع، وانتشر فيديو لتلك الواقعة ظهر فيه رجل يرتدي زيًا عسكريًا واقفًا عند زاوية أحد الشوارع في مكان قريب من موقع المغتصب وكأنه يحميه.

الدكتور محمد سليمان

الطريق إلى العدالة محفوف بالمخاطر

يجرم القانون السوداني والدولي اغتصاب القُصر، لكن المحامية الحقوقية بالسودان أروى صابر، لا تتوقع أن المُغتصبات في أثناء حرب أبريل/ نيسان  يستطعن الحصول على حقوقهن: «لا يوجد آلية قانونية لحماية النساء حاليًا من الانتهاك الجنسي».

الحقوقية أروى صابر

تبين لـ«الدستور» أن الأمر يحتاج سنوات طويلة حتى لا ترتبط النزاعات باغتصاب النساء، وتكون هناك محاسبة قانونية، لأن المجتمع الدولي حاليًا لا يتحدث عن أي شيء يخص انتهاك النساء: «لا أتوقع أن يكون هناك تحرك فعلي على الأرض».

إلى جانب ذلك، فإن المراكز الحقوقية حاليًا عاجزة عن فعل أي شيء محلي وعالمي سوى التوثيق، وفق صابر، وذلك بسبب غياب الجهات العدلية: «لدينا استمارات قانونية لتوثيق بلاغات  الاغتصاب الجنسي وقت الحرب لكنها حبيسة الأدراج».

مناخ الإفلات من العقاب

فيما تصف مية الرحمي، مدير مركز مساواة في بريطانيا لـ«الدستور» العنف الجنسي المرتبط بالنزاع في السودان بالجريمة المسكوت عنها وغير المرئية، حيث يتصاعد العنف الممارس ضد النساء في أثناء النزاعات المسلحة ولا تستطيع النساء بعد انتهاء النزاع أخذ حقوقهن.

تُرجع مية لـ«الدستور» أسباب ما يحدث في السودان إلى سيادة مناخ الإفلات من العقاب، واستضعاف الضحايا، مشيرة إلى أن ذلك العنف يترك عواقب ضخمة على الضحية بدنيًا ونفسيًا وعلى أقاربها بالشعور بالصدمة والعجز وعلى المجتمعات المحلية بسبب تدمير النسيج الاجتماعي.

ميه الرحمي

الرحمي تحذر من أن الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي، يشكل انتهاكًا خطيرًا للاتفاقيات الدولية التي تعتبر الاغتصاب جريمة مروعة. 


ما زال والدا فاطمة يبكون كل ليلة على ما حدث لابنتهما بينما ارتاحت هنية بعد وفاتها دون عقاب مغتصبيها فيما لن تنسى سهى مشهد اغتصاب شقيقاتها أمامها في وقت خرجت فيه الصيدليات عن الخدمة وتُجهض النساء أنفسهن.

جميع أسماء النساء المستخدمة مستعارة بناء على طلبهن وحفاظًا على خصوصيتهن*