رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التمثال المعجزة

خداع الشعوب أسهل ما يكون إذا جاء على يد من يجلس على مقاعد القوة. وقد امتلك حكام الدولة الفاطمية أهم مصدرين للقوة: السيف والمال. وكان المعز لدين الله أول حكام الدولة يلوح بالسيف فى يده ويقول: «هذا نسبى»، ويشير إلى الذهب ملء حجره ويقول و«هذا حسبى»، ومن بعده أخلص ولده العزيز لهذا المبدأ، لكن حفيده الحاكم بأمر الله كان أشد إخلاصًا، وقد أضاف إليه ما امتلك من حيل عقلية كان يخادع الشعب بها، ويُحكم- من خلالها- سيطرته على العقل الجمعى.

مالك الذهب عيناه لا تشبع، فهو يبحث دائمًا عن المزيد، ينطبق ذلك على الفاطميين بصورة واضحة، فرغم ثرواتهم الكبيرة التى جاءوا بها من المغرب وضاعفوها فى القاهرة، إلا أن غرامهم بالنبش عن كنوز الفراعنة كان لا يتوقف، كما يقول «ابن إياس» فى بدائع الزهور. فى إحدى نوبات النبش عثر الحاكم بأمر الله على تمثال مجوف وفى جوفه «روحانى» موكل به، فكان ينطق كما ينطق بنى آدم، فكان من شأن هذا الصنم أنه يظهر الضائع، ويخبر عن المكان الذى فيه هذا الضائع، كما يصف «ابن إياس».

التمثال المعجزة مثّل واحدة من الأدوات التى لاعب بها الحاكم بأمر الله شعبه، فأمر المنادى بالنداء فى القاهرة وما حولها، بأن يترك كل فرد من الأهالى باب بيته أو دكانته مفتوحًا، وإذا سرق منه شىء، فليس عليه إلا أن يذهب إلى «الحاكم» ويحكى للتمثال، وسوف يخبره «الروحانى» القابع داخله باسم من سرقه، والمكان الذى أخفى فيه السريقة. امتثل الناس لأوامر الحاكم، وتركوا أبواب بيوتهم ودكاكينهم مفتوحة، وما هى إلا ليلة واحدة، حتى خرج الناس يصرخون بأنهم سُرقوا. طلب الحاكم حصر عدد حالات السرقة، فوجدها ٤٠٠ حالة، فأمر المنادى بأن ينادى فى الناس بأن كل من ضاع منه شىء يأتى إلى قصر الحاكم، ليرشده التمثال إلى السارق والمكان الذى أودع فيه سريقته.

حضر الناس وأحضر الحاكم التمثال المعجزة بين يديه، وتناوب ضحايا السرقة الوقوف أمامه، كل منهم يحكى عما سُرق منه، ويقول: «يا أبا الهول لقد ضاع لى ما هو كيت وكيت» فيرد الروحانى من جوف التمثال: «إن ضائعك أخذه فلان ابن فلان، وهو فى المكان الفلانى، فى الحارة الفلانية». وكان الحاكم مع كل بيان يدلى به التمثال يرسل برجاله للقبض على اللص واستعادة المال المسروق، حتى رد على الناس كل ما ضاع منهم، ثم أمر بشنق اللصوص السارقين، بعدها نادى فى القاهرة وما حولها «رحم الله من رأى العبرة من غيره واعتبر». 

نتيجة هذه الواقعة العجيبة تجلت على الواقع، فاختفت السرقة، وأصبح الرجل يقع منه الدرهم، فلا يجرؤ أحد على التقاطه، ويظل فى مكانه حتى يعود صاحبه ويأخذه، وحُكى أن رجلًا وقع منه كيس فيه ألف دينار «ذهب» عند مسجد أحمد بن طولون، وكان السائرون فى المكان ينظرون إلى الكيس وهو ملقى على الأرض، ولا يجرؤ أحد منهم على التقاطه، حتى عاد صاحبه بعد أسبوع فأخذه!.

الواقعة التى نحن بصددها تشبه ولا شك حكايات ألف ليلة وليلة، فالحديث عن التمثال العجيب الذى يشبه «آلة كشف الكذب» التى عرفها المعاصرون، والعقوبة القاسية التى قررها الحاكم على كل لص، وحالة النظافة التى عاش بها الناس نتيجة الرعب من المآلات، يتشابه مع أحاديث ألف ليلة وليلة، التى تعتمد على فكرة «الخارقة الطبيعية»، التى يمثلها هنا التمثال. والحدوتة ككل تبدو بعيدة عن العقل والمنطق، وواقع الحال أن التمثال لم يكن أكثر من لعبة والأصوات التى كانت تصدر عنه لم تكن لروح كامنة بداخله ولا يحزنون، بل كانت لشخص وظفه الحاكم فى هذا السياق ليخدع به الناس، فقد كان الرجل ينشر جواسيسه فى كل مكان ليأتوه بمعلومات عن السرقات التى وقعت فى الأحياء المختلفة، يمليها على الشخص المتحدث من وراء حجاب، ليكشف السرقة أمام الأهالى، والهدف من ذلك واضح يتمثل فى رغبة الحاكم فى أن يبدو أمام المصريين وكأنه صاحب معجزات، وسيرة الرجل تدل على أنه كان من النوع الذى يحب أن يبهر الناس بالعجيب والغريب من الأحوال والأطوار والقرارات التى يتخذها. وكان من المعروف عن الحاكم ولعه الكبير باستخدام الجواسيس حتى من بين السيدات العجائز اللائى استخدمهن للتجسس على بيوت الأمراء والوزراء. 

لم تكن المسألة أكثر من لعبة خداع نجح فيها الحاكم بأمر الله، ولم تكن الأولى أو الأخيرة فى تاريخ «ألعاب الخداع»، وهى ألعاب محفوظة تعتمد على التأثير على أعصاب الجمهور، واستثارة مخاوفهم، والاعتماد على جهلهم بحقائق الأشياء. أحد المسيطرين فى العصر الحديث استغل ذات يوم عدم معرفة الناس بأجهزة التسجيل، وأحضر أحدها، وكان يجمع الناس أمامه فى صعيد واحد، لبحث مشاكلهم وكشف أسرارهم من خلال استخدام جواسيسه المنتشرين فى كل مكان، بعدها ينطلق صوت أحد رجاله عبر شريط مسجل ليقول للناس إن «المسيطر» يأتيه الوحى من السماء، ويأمرهم بطاعته.

الفاطميون- كما هو معلوم- تميزوا عن غيرهم من الغزاة بإجادة استخدام الدعاية، ووظفوا العديد من الأدوات فى هذا السياق، كان أبرزها ما تميزوا به من احتفالات راقت للكثير من المصريين، بالإضافة إلى ما امتازوا به من قدرات خطابية عالية، وتكامل مع هاتين الأداتين القدرة على «برجلة» عقل الشعوب عبر أشكال الخداع الذهنى التى كانوا يقومون بها، وبرع فيها بشكل خاص «الحاكم بأمر الله».

كأن القدرة على خداع الشعوب وبرجلة عقولها لا تفنى ولا تستحدث فى حياة البشر.