رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تنظيمات المسلمين السرية عبر التاريخ 3.. كيف نُحصّن بلادنا الآن وغدًا؟!

ما هو طريق المواجهة الحقيقى الذى يجعل من آخر معارك مصر ضد تنظيم الإخوان نهاية حقيقية للفكرة وليست مجرد جولة مثل ما سبقها طوال القرن الماضى؟!

كيف يمكن حماية مصر الآن وغدًا؟!

قبل التطرق إلى البحث عن طرق المواجهة الصحيحة يجب أن نحدد أولًا ما هو هذا الحد الآمن الذى إن استطاعت مصر تحقيقه تكون قد بلغت غايتها المنشودة؟! 

حسب معطيات تاريخ المسلمين عبر أربعة عشر قرنًا، وكما عرضتُ موجزًا الأسباب التى جعلت من وجود تنظيمات دينية سرية ما يشبه جزءًا مستديمًا من تمام مكونات أو فلسفة الديانة أو أتباعها عبر القرون، ورغم تغير الدول والحكومات، فإننى أعتقد أن الحد الآمن المطلوب لمصر الآن ومستقبلًا هو وضع تنظيم الإخوان كجزء من كل، وعدم حصر التهديد فى هذا التنظيم وحده، فقد ينتهى اسم «جماعة الإخوان» للأبد وتبقى احتمالات فكرة القيام بتنظيمات دينية سرية مسلحة قائمة وربما بنفس الوجوه أو الجيل اللاحق لتلك الوجوه. 

قد ينجح التنظيم فى خداع مصر بعد سنة أو سنوات، وتكرر مصر خطأها بالسماح بوجوده كجماعة دينية دعوية، إننى أشعر بالشفقة والخوف على مصر حين يخترق أذنى هذا التعبير البائس «جماعة دينية دعوية» على ألسنة بعض النخبة من الساسة أو المثقفين، حتى وإن كانوا- وهم ينطقون هذا اللفظ- لا يقولون بعودة التنظيم كجماعة دعوية دينية، لكن بعضهم يتحدث عن التنظيم وكأنه بدأ كذلك ثم انحرف، هذا تضليل كامل للمصريين وتضاد تام مع حقائق التاريخ، لا يوجد ما يسمى بجماعة دعوية دينية قطاع خاص خارج المؤسسات الدينية الرسمية، بل وجدت دائمًا فى القرن الماضى جماعات لها نفس الفكر والفكرة لكنها تلقى بأقنعة على وجوهها لخداع المصريين.

إن الحد الأدنى الآمن لمصر هو أن تقوم مصر بإنهاء هذا العصر الذى كان يسمح فيه قانونًا بوجود جماعات دينية قطاع خاص. 

هذا أولًا، أما ثانيًا فهو الوصول بالمصريين عقليًا لمرحلة لا يلقون فيها ببلادهم- لو حدث الأسوأ ووُضِعوا فى موضع اختيار كما حدث بعد سقوط مبارك- بين أيدى أى جماعات أو حتى أحزاب تتخذ من أى أفكار دينية راية وغاية وهدفًا. 

أن نضمن أن ننتقل بالمصريين لمرحلة يقومون هم أنفسهم بإلقاء فكرة التنظيمات الدينية العلنية أو السرية إلى متحف التاريخ للأبد. 

أن نصل بعقول المصريين ومعرفتهم أن يصبحوا هم- كشعب وعامة- الدرع الواقية الأولى لبلادهم، حتى لا يُكتب على هذا الوطن مرة أخرى أن تخوض قواته المسلحة مثل هذه الحرب داخل أرضها، لقد خاضت القوات المسلحة حربًا كان يمكن ألا تخوضها لو أن المصريين قد خاضوا معركتهم بشكل صحيح بعد إحدى جولات المعارك السابقة بينهم وبين نفس التنظيم الباطنى المسلح «بعد قضية السيارة الجيب، أو بعد مؤامرة ٥٤ أو مؤامرة ٦٥ أو بعد اغتيال السادات أو حتى بعد أعنف موجة إرهاب دموية عام ١٩٩٧م».

هذا هو الحد الآمن لوطن يريد أن يُفرغ قدرات أبنائه للبناء والحياة والحضارة، لا أن يضطره بعض أبنائه كل عدة عقود أن يرقص رقصة الموت على حافة الجحيم.

 

كيف نصل بمصر لهذا الحد الأدنى الآمن؟!

إن الخطوة الأولى لبلوغ الطريق الصحيح لن تتحقق دون أن يدرك عقل الدولة المصرية- المؤسسات الثقافية والعلمية والسياسية- أن ما مر به المصريون لن يكون كافيًا لحقنهم بمناعة أبدية ضد تلك الأفكار والتنظيمات، لأن نفس هؤلاء المصريين قد عاصروا اغتيال الشهيد السادات ومذابح أسيوط وما زامن ذلك من جرائم إرهاب فى الشوارع، ثم بعد ثلاثة عقود قاموا بالتصويت لتنظيم باطنى متأسلم تاريخه مخضب بالدماء لحكم مصر، بل إن الأكثر قسوة من ذلك هو أنه ليس كل من صوّتوا للتنظيم كانوا من عوام الناس الذين لا يعرفون شيئًا عن تاريخ التنظيم الدموى، فهناك كثيرون كانوا يعلمون تاريخ التنظيم وصوتوا له لقناعاتهم الدينية بوجوب خلط السياسة بالدين ولحقنهم بخطاب دينى تاريخى مشوه نقل لهم أوهامًا كبرى عن العدل المنتظر القادم مع أى نظام حكم يرفع راية الدين، لقد حفظ المصريون بعض الإكليشيهات الدينية عن طريق الحقن، مثل: لا فصل بين الدين والسياسة فى الإسلام، الإسلام دين ودنيا، دون أن يتفكروا فى المعنى الحقيقى أو الأصل التاريخى لكل منها.

لقد تم حقننا بفكرة أصبحت من مسلماتنا الكبرى، وهى أن الإسلام دين لا بد أن يتداخل ويكون حاضرًا فى كل مفردات الحياة، دون أن يخبرونا بأن هذا الحضور المنشود هو حضور سلوكى قيمى أخلاقى وليس حضورًا هيكليًا شكليًا وليس حبسًا للمسلمين فى أقفاص حديدية من نماذج الحكم والحياة تم صبها فى صحراء الجزيرة العربية منذ قرون طويلة.

لذلك فإن بلوغ أول الطريق الصحيح يقع عبئه على عقل الدولة المصرية- المؤسسات السياسية والثقافية والتعليمية والإعلامية- لأنه هو الذى يحدد طرق المواجهة العملية، وهو لن يكون قادرًا على رسم خريطة مواجهة صحيحة دون أن يكون مدركًا ومحيطًا بالصورة كاملة التى يمكن رؤيتها بوضوح حين نخرج خارجها ونراها وكأنها صفحة تاريخ، والتى تقول إن مواجهتنا ليست مع تنظيم واحد إنما مع فكرة، وإنه حتى فيما يخص هذا التنظيم الواحد فلن يكون كافيًا ما مر به المصريون لنضمن أن مصر أصبحت آمنة من أن يتقهقروا على أعقابهم ويفاجئونها مفاجأة أخرى سوداء بعد سنوات قلت أو كثرت.

الخطوة الثانية وقبل أن نتوجه للعامة، علينا أولًا إكمال النقص العقلى المعلوماتى لبعض القائمين على مؤسسات المواجهة الذين سيقومون بالخطوات التالية، فعلينا أولًا أن نعد الجنود إعدادًا جيدًا قبل أن ندفع بهم للمعركة، وهنا أود أن تقتدى تلك المؤسسات بما تقوم به مؤسسة القوات المسلحة من تنظيم ندوات تثقيفية لأعداد هائلة من قادتها وضباطها وجنودها. فلماذا لا تقوم باقى المؤسسات بنفس الشىء؟! وحين تفعل ذلك، فينبغى على الذين سوف يقومون بالتثقيف ألا يحصروا محاضراتهم فى قصة تنظيم الإخوان فقط، وإنما أن ينقلوا لكوادر هذه المؤسسات الصورة كاملة منذ بدء الإسلام وحتى الآن، فحين ترى الصورة كاملة تستطيع خوض المعركة بسهولة.

 

الخطوة الثالثة هى العمل بقاعدة مهمة، لا حاضر أو مستقبل لمن لا ماضى له، على مؤسسات الدولة المصرية- ثقافية وعلمية وسياسية- أن تخوض المعركة العقلية بأثر رجعى، بمعنى أن تبدأ مع المسلمين فى مصر بأن تكشف الستار عن تاريخ التنظيمات السرية والعلنية السياسية المسلمة فى القرون الأولى بعد وفاة النبى «ص»، أن تكشف التاريخ كاملًا، أن تكشف للمصريين الخديعة الكبرى، أن تخبرهم بأن مئات الآلاف من المسلمين قد قُتلوا بسيوف بعضهم البعض وكل منهم كان يعتقد أنه ينتصر للإسلام وقد شرعن لذلك كثير من العلماء والفقهاء بكتب ومؤلفات حفظها التاريخ لنا، وما زال علماء اليوم يعبون منها عبًا ثم يلقون ما غرفوه منها فى عقول وآذان المصريين، أن نخبر المصريين بأنه فى يوم من الأيام كان المسلم الذى لا يؤمن بقرشية الحاكم كان يُتهم فى دينه وربما فقد حياته، وأن آلافًا قد فقدوا حياتهم لأنهم لم يؤيدوا اسمًا معينًا ليجلس على مقعد الخلافة أو الإمامة كما يحب العلماء أن يطلقوا على مؤسسة الحكم.

ثم بعد قرون اتضح أن كل هذا لم يكن إلا وهمًا وأن مئات الآلاف من الأنفس إنما قُتلت باطلًا وأن الدين براء من هذه المقتلة الكبرى، وأن بعض علماء اليوم يرفضون حتى أن يعترفوا بهذا ويعلنوه للناس. 

على المؤسسات الدينية- التى اختبر المصريون اعتدالها- أن تخصص بعضًا من البرامج التى تتاح لعلمائها، وبعضًا من خطب الجمعة لإعلان ذلك للناس بكل صراحة وعلانية وقوة. 

عفوًا ففى تلك المعركة لا يكفى أن تحدثوا الناس عن سماحة الإسلام وعن تعارض سلوك التنظيم المهزوم مع هذه السماحة، لا يكفى حتى يقتنع الناس إلا أن تُعلن الحقيقة كاملة بلا تجميل.

فى يوم من الأيام حاولت وزارة الأوقاف أن تفعل شيئًا فكانت تصدر كتيبات توزع مجانًا فى المساجد تناقش بعض أفكار الجماعات الإرهابية، كانت محاولة كريمة، لكنها فشلت لأنها لم تكن بالقوة المطلوبة، فلماذا لا تكون هذه إحدى الطرق؟.. نريد كتيبات تاريخية لا دينية تخبر المسلمين- بالأسماء والوقائع والتواريخ- عن اقتتال المسلمين فى القرون الأولى لخلط السياسة بالدين، وعن استباحة الكعبة وضربها بالمنجنيق واستباحة مكة وصحابة النبى «ص»، وعن قتل وصلب فى قلب الكعبة، عن استباحة قتل الأسرى العزل بالآلاف، عن فقهاء شرعنوا، وفقهاء امتنعوا واعتزلوا السياسة ودفعوا ثمن مواقفهم الشريفة الصحيحة.

نريد أن نُعلّم العوام فى المساجد بعضًا من الثقافة العامة عن فكرة الدين وسموها عن أطماع الحكم، وأن السياسة غير مقدسة وأن الدين مقدس لا ينبغى النزول به لأطماع البشر، أن نعلمهم أن أى إنسان يؤخذ منه ويرد عليه بخلاف الأنبياء الموحى إليهم من الله، لذلك فليس كفرًا أو خروجًا عن الملة أن ننتقد تصرفات تاريخية أو حتى جرائم سجلها المؤرخون المسلمون أنفسهم مهما تكن أسماء مقترفيها.

 

إننى أرى فى كثير من علماء وقيادات وزارة الأوقاف الحالية قدرات هائلة وكفاءة ملموسة على قيادة هذه المعركة العقلية المصيرية، كوكبة كبرى من شباب العلماء حصلوا على دورات تثقيفية كثيرة وحصلوا على درجات علمية حقيقية ونرى بعضًا منهم على شاشات بعض قنوات الشركة المتحدة للإعلام. هؤلاء قادرون لو وُضِعت لهم خطة واقعية زمنية لتغطية محافظات مصر. تنظيم قوافل من هؤلاء العلماء لعقد ندوات علنية فى المساجد الكبرى أيام الجُمع لتثقيف المصريين، ثم محاضرات ليلية فى نفس المحافظة لجميع أئمة مساجدها. 

ولكن قبل أن يتحرك هؤلاء، يجب إعداد المادة التاريخية العلمية وإعداد الموضوعات بطرق علمية موضوعية تشمل جوانب كل مسألة وألا تتحول تلك الندوات إلى «دردشة» أو تتحول إلى ندوات شكلية، فمصر تحتاج إلى علماء مثقفين مؤمنين بما يقولون ومعدين علميًا إعدادًا جيدًا، وأيضًا بدرجة مقاتلين.

اقتحام العقول وعدم الانتظار حتى نجد أنفسنا ردًا للفعل اليوم أو غدًا، ومن تمام هذا الاقتحام هو توزيع كتيبات مجانية على المصلين أيام الجُمع من تلك التى سبق إعدادها، استفزاز العقول شىء إيجابى حتى لو كان رد الفعل الأول رافضًا تغيير ما تم غرسه فى عقود ماضية، لأن هذا الرفض هو رد فعل إنسانى طبيعى، لكنه لن يلبث أن يتلاشى وسيبحث كل من رفض فى البداية عن الحقيقة، وهو ما نطمح إليه، أن نستفز عقول المصريين وأن ندفعها دفعًا للبحث.

 

للمؤسسات الثقافية والإعلامية دور لا يقل أهمية عن دور المؤسسات الدينية المعتدلة، يمكن للمؤسسات الإعلامية أن تخصص بعضًا من برامجها وبعضًا من صفحات صحفها لمفكرين يدركون حقيقة ما يمكن أن تواجهه مصر فى الغد القريب أو البعيد. لا شك أن المؤسسات الإعلامية ومنذ أن واجهت مصر خطر تنظيم الإخوان قد قامت- ولا تزال- بدور وطنى كبير وربما يكون الأهم فى محاولة إنقاذ للوعى المصرى الشعبى. لقد قدمت تلك المؤسسات أعمالًا درامية قوية فتحت أبواب المعرفة لعوام المصريين عن تاريخ ذلك التنظيم وعن قوائم جرائمه منذ قيامه منذ ما يقرب من قرن. لكن ما ينقص هذا الجهد الهائل، والذى أتمنى أن تنتبه إليه تلك المؤسسات، هو أن تنتقل من مرحلة مواجهة تنظيم بعينه إلى مواجهة الفكرة الأم، أن تنتقل درجة أعلى وأشمل بأن تتوجه بخطابها الشعبى إلى رسم صورة مكتملة يتم وضع فيها تنظيم الإخوان فى موضعه الصحيح كإحدى المفردات وليس كل المفردات، أن تُفتح شاشات القنوات الوطنية لمفكرين وعلماء تاريخ مستنيرين يقدمون للمصريين صورة تاريخية صحيحة دون تجميل عن القرون الأولى فى تاريخ الإسلام. 

ما ننشده من رجال الدين فى المساجد ننشده من علماء التاريخ والمفكرين على شاشات التليفزيون المصرى، أن يخبروا المصريين عن وجوب الفصل التام بين نظريات وأسس الحكم والرؤى الدينية، لا نريد أن يحدثنا أحد عما يجب أن يتوفر فى تولى الولاية طبقًا لمؤلفات تراثية دينية، إنما نريد أن يحدثنا المفكرون وعلماء السياسة والتاريخ عن الحكم بمفهومه العصرى الحديث، لا نريد أن نقع فى الفخ ونصف رئيس الجمهورية الوطنى بأنه الإمام المتغلب طبقًا لنفس الرؤى الفقهية التى دفع المسلمون ثمنها غاليًا.

 

وعلى المؤسسات التعليمية أن تعيد النظر فيما تقرره من مقررات التاريخ الإسلامى وأن تُضمّن تلك المقررات هذه الحقائق التاريخية وأن الله لم يعصم أحدًا من النقد إلا رسول الله «ص»، خاصة حين يكون الحديث عن السياسة ومفردات الحياة وليس عن طقوس الديانات. على واضعى مقررات التاريخ أن يعيدوا النظر فى الخطاب التاريخى التعليمى الموجه لأطفالنا وشبابنا. لا يمكن أن يدرس طلابنا ما يعرف بالتاريخ الإسلامى مرتديًا عباءة دينية، فالتاريخ البشرى هو تاريخ مجرد وليس جزءًا من الدين. 

لماذا يتم استقطاع أجزاء كبرى من ذلك التاريخ، بينما يتم انتقاء صفحات بعينها تقدم ذلك التاريخ لأبنائنا وكأنه تاريخ يوتوبيا فيسهم ذلك فى خلق وجدان كاذب يتوق لتلك الصفحات، ويقارن دائمًا بينها وبين الواقع، فى حين لو تم تقديم الصورة التاريخية كاملة غير منقوصة شاملة صفحات سفك الدماء، فإن ذلك من شأنه أن يحرر العقول والقلوب منذ الصغر من الأوهام الكبرى ويشب الأطفال وهم على قناعة تامة بأن واقعهم أفضل وأكثر اتساقًا مع قيم الدين ذاته، ماذا لو علم الصغار حقيقة الصراعات الدموية فى صدر الإسلام وكيف تخضبت مقاعد الخلافة المختلفة بدماء المسلمين؟! وماذا لو عرفوا أن ما يسمى تاريخيًا بالحكم الإسلامى لم يبلغ ذروة العدل كما يتم ترويجه، إنما اكتظت صفحاته بالمظالم شأنه شأن غيره فى ذلك الوقت وفى غيره من الفترات التاريخية؟! هذه الحقائق التى تم حجبها عمدًا من التاريخ المقرر على طلابنا فى الصغر أسهمت بدور هو الأهم بعد الخطاب الدينى فى صياغة وعى المصريين الذين صوّتوا لصالح التنظيم الباطنى المجرم. 

على المؤسسات التعليمية المصرية أن تقدم تاريخ مصر القديم بصورة مختلفة عما هو عليه الآن. عليها أن تقدم صفحات الحضارة المصرية ومدى ما بلغته فى شتى أفرع العلوم والفنون وكيف سادت الأمة المصرية ما عاصرها من أمم علمًا وقيمًا وأخلاقًا حتى نخلق حالة حنين حقيقى بين الأجيال الصغيرة لذلك الماضى البعيد بديلًا عن الحنين إلى صفحات تاريخ لا ننتمى له أو ينتمى لنا حضاريًا، فالعقائد الدينية شىء والحضارة الإنسانية شىء آخر مختلف تمامًا.

على المؤسسات التعليمية المصرية تقديم تاريخ مصر بشكل لا يقتطع منه فترات التاريخ القبطى وكأنه لم يكن له وجود، تحرير العقول يبدأ منذ الصغر.

 

لكى يبلغ المصريون غايتهم فى تحصين بلادهم من الوقوع مستقبلًا فى شرك أى تنظيمات أو حركات دينية فعلى مؤسسات المواجهة أن تستعين بعلماء علم النفس. 

هذه إحدى الحقائق الخافية وأحد الأسلحة الغائبة فى معركة المصير المصرية، لأننا بحاجة إلى علم النفس وتطبيق أدواته ونظرياته لمواجهة ما يمكن أن نطلق عليه «حالة الحنين الوجدانية الكامنة» فى أرواح المصريين، فى العقود الخمسة التالية لحرب أكتوبر أسهم القائمون على مؤسسات مصر الدينية والتعليمية فى خلق حالة حنين عامة فى صدور المصريين لفكرة أو وهم «الحكم الإسلامى مطلق العدالة» والذى تم تطبيقه- طبقًا لما يتوهمه المصريون- فى القرون الأولى بعد وفاة النبى «ص».

عقود من الزمن، ومئات الآلاف من خطب الجمعة وبرامج التليفزيون الدينية ومسلسلاته الدرامية الدينية وصحف ومجلات مؤسساته الدينية، تصب فى آذان المصريين سيلًا من المعلومات المبتورة من سياقها التاريخى والمنتقاة حسب الهوى عن يوتوبيا الحكم الإسلامى العادل، حكم ينام فيه الخليفة تحت شجرة، ويسيّر الخليفة جيشًا من أجل امرأة، ويبعث فيه الخليفة من ينادى فى الشوارع من يريد الزواج ليتزوج على نفقة بيت المال، ويرتدى الخليفة ثوبًا مرقعًا، ويحمل الخليفة الدقيق على ظهره لامرأة وأطفالها الجوعى، ويردد الخليفة أنه المسئول عن بغلة تعثرت، ويُضرَبُ فيها ابن الوالى عمرو بن العاص قصاصًا لقبطى سافر يشكو إلى الخليفة، وخليفة يحج عامًا ويغزو- أى يحتل أرض الغير- عامًا... عقود والمصريون يتعرضون لهذا السيل من الروايات التى غلبت عليها الأساطير وثبت علميًا عدم حدوثها ولم يتوقف من يصبونها حتى الآن. فى المدارس قامت المؤسسة التعليمية باستكمال ما كانت تفعله المؤسسة الدينية والمؤسسة الإعلامية، فكانت تقرر قصصًا دموية على الأطفال وتقدم غزو بلاد الغير وكأنه عمل دينى مقدس براق. 

لقد فعلت تلك العقود بالوجدان المصرى ما لم تفعله أى دعايات قام بها التنظيم المسلح، لو لم يحدث هذا لما وجد هذا التنظيم فى التربة المصرية موضع قدم لغرس نبته الشيطانى، أتت هذه العقود ثمارها ومهدت الروح المصرية العامة تمهيدًا تامًا للهرولة نحو أى داعٍ يرفع راية محاولة تحقيق الحلم على الأرض، ملايين المصريين صوّتوا لهذا الحلم انطلاقًا من حالة الحنين هذه، ولم يصوتوا اقتناعًا بالتنظيم أو رجاله.

سوف تخدع الدولة المصرية- المؤسسات الثقافية والتعليمية والسياسية- نفسها لو اعتقدت أن هزيمة التنظيم قد قضت على تلك الحالة الوجدانية، لأن الحقيقة أن الحالة ما زالت موجودة، وأن كثيرًا ممن انقلبوا على الإخوان من المصريين وثاروا عليهم إنما فعلوا ذلك دفاعًا عن هذه الحالة نفسها ودفاعًا نفسيًا عن صورتها المثالية فى ذلك الوجدان، لقد رأى كثير من المصريين أن تنظيم الإخوان قد خدعهم، وأنه أقل من أن يحقق هذا الحلم المثالى، وأن رجال التنظيم ليسوا على قدر رجال العصر الأول لا خلقًا ولا دينًا، أى أنهم لم يسقطوا الحلم بل رأوا أن التنظيم خدعهم وتمسح بما لم يكن يمثله حق تمثيله. 

وهذا يعنى أن هذه الحالة الوجدانية الكامنة ستظل قائمة ولن تتردد فى الإعلان عن نفسها بعد سنوات لو اعتقد المصريون يومًا- أو استطاعت أى مجموعة أخرى إقناعهم- بأن هناك من يستطيع. 

هذا هو السبب فى أن المصريين لم يبتروا الفكرة فى كل مرة كان تنظيم الإخوان يُمنى بهزيمة ساحقة فى العقود السابقة لأحداث يناير ٢٠١١م.

الآن علينا مواجهة هذه الحقيقة، علينا مواجهة الحلم ذاته وبيان وهميته.

ولتحقيق تلك الغاية لا استغناء عن الاستعانة بعلماء علم النفس لكى يخبرونا كيف نقوم بذلك. وكيف نتعامل مع الصدمات المتوقعة حين تضطلع المؤسسات الدينية المعتدلة- لأن هناك أخرى ترفض الاعتراف بوهمية يوتوبيا القرون الأولى- والمؤسسات الثقافية والتعليمية بواجبها وتشرع فى تنفيذ خطط المواجهة.

مطلوب من علماء النفس أن يقوموا بعملية جراحة نفسية دقيقة يفصلون فيها داخل العقل المصرى الجمعى بين ديانة الإسلام المجردة وسموها الأخلاقى وكمالها، وبين ما يتوهمه هذا العقل فى كمال تاريخ المسلمين بعد وفاة النبى «ص»، أن يقوموا بنزع القداسة عن ذلك التاريخ وإنهاء حالة الدروشة التى يتم النظر بها إلى ذلك التاريخ. 

أن يتم ضم علماء النفس إلى عقل الدولة المصرية- ممثلًا فى مؤسساتها السياسية والثقافية والإعلامية والتعليمية- وهو يخوض هذه المعركة العقلية المفصلية الحاسمة.

فى نهاية هذا الجزء، أود أن أسجل موقفى- كمواطن مصرى- بصراحة ووضوح من أى محاولة مستقبلية يروج لها أى تيار سياسى أو شخصية تعمل بالسياسة أو العمل العام أو العمل الثقافى أو الإعلامى لاستدراج المصريين لنفس الفخ مرة أخرى كما حدث سابقًا عدة مرات طوال القرن الماضى.. ستكون المحاولة عبر عبارات ناعمة براقة من عينة السماح للتنظيم بالاندماج فى العمل العام كجماعة دينية دعوية خالصة، سواء هذا التنظيم أو أى تنظيمات أخرى مشابهة. 

إن موقفى الضميرى الذى استقيته من قراءاتى المتعددة لتاريخ مصر وتاريخ المسلمين خارج مصر هو أن أى محاولة مستقبلية لذلك هى خيانة صريحة لهذه البلاد، هى خيانة لدماء الشهداء، هى خيانة لمقدرات هذه البلاد ومستقبلها، هى خيانة للأجيال القادمة التى لم تعاصر ما عاصرناه وربما لن تقرأ تاريخ بلادها حق قراءته.