رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود قرنى صديقى الشاعر

فقدت الحياة الثقافية المصرية أحد حراسها العظام برحيل الشاعر الكبير وصديق العمر محمود قرنى، الذى احتفظ بنصاعة روحه ونقاء سريرته وسط مناخ موحل، مناخ يؤمن فقط بالمكسب والخسارة، تعارفنا منتصف ثمانينيات القرن الماضى، جئنا من قرانا إلى هذه المدينة القاسية العظيمة، جئنا فرادى، ولكننا كنا معًا، تنقلنا بين غرف كثيرة فى تجاعيد القاهرة، وكنا نقطف البهجة بجرأة الذين لا ينتظرون شيئًا، كانت جيوبنا خاوية وأحلامنا غزيرة، لم نشكل ميليشيات مثل الجيل الذى سبقنا، والذى فوجئ بوجودنا، ووضعنا فى دماغه، ولم نستوعب الجو العدمى الذى عاشه معظم شعراء الجيل التالى لنا، كتبنا شعرًا يخصنا، بلا مرجعيات استشراقية، لم يبحث أحدنا عن المجد الذى يشغل المتفرغين للمجد، كان محمود قرنى أكثرنا هدوءًا، ومع هذا كانت حدته المحببة قادرة على حسم أمور كثيرة. منذ فترة مبكرة تفرغ محمود لتعرية الواقع البائس، وإلى جوار ذلك أنجز مشروعه الشعرى الفريد، والذى قدم من خلاله الرؤية المصرية لقصيدة نابعة من عناء المصريين الذين لا يظهرون فى التليفزيون ولا يذهبون إلى حفلات العلاقات العامة المرتبطة بالجوائز والامتيازات والترجمة والسفر، عشنا فى الهامش الرحب الذى استوعب نزقنا، لم نترك المقاهى الصغيرة التى تعارفنا عليها، ولم نغير ملابسنا قبل التصوير، الشعر كان قضيتنا الأولى التى بذلنا عمرنا لبلوغها، بعد حرب الخليج سقطت البلاغة العربية فى الامتحان الصعب، وانتقلنا من شعر التفعيلة إلى قصيدة النثر، نجح بعضنا وأخفق آخرون، ولكننا كنا نبحث عن صوتنا، عن شىء يلتقط العذابات الصغيرة التى يتجاهلها أصحاب النظريات الكبرى، انشغل قرنى بمتابعة ما يحدث فى هذه القصيدة، وبشّر بالأصوات الطالعة، ولم يخضع لابتزاز جماعات المصالح من أصحاب المنابر الصحفية والأكاديميين المرتزقة، كان مشغولًا بإنجاز المصريين فى القصيدة الجديدة، هو أبرز مؤسسى ملتقى قصيدة النثر بالقاهرة، وجماعة شعراء التى استضافت فعالياتها نقابة الصحفيين، هذا بخلاف دوره فى تأسيس عدد من المجلات الثقافية المستقلة، مثل «الكتابة الأخرى» مع هشام قشطة، كان يرى أن قصيدة النثر يجب ألا تكون مطية لمن فشل فى أن يكون شاعرًا وفشل فى تعلم قواعد العروض، لأن الحرية فى كتابتها لا تعنى حرية التراكم، قصيدة النثر صعبة جدًا، لأن كتابها الموهوبين مطالبون بتقديم اقتراح جمالى يجيب عن أسئلة زماننا، قرنى يرى أن الخطر الحقيقى على الشعر فى هذا الزمان يأتى من منطقة أخرى ليس بينها صراع الأجيال، ولكنه الخطر الذى يتمثل فى تمدد سلطة المحافظين على صعود تيارات التجديد والمجددين من كل الأجيال، والعزلة هى أخطر ما واجه الشاعر الحديث الذى من المفترض أن ينتخبه الضمير العام تعبيرًا عن أشواقه للجمال والحرية، لكن التحولات الفكرية والسياسية التى حدثت خلال القرن الماضى كان لها أبغض الأثر على العلاقة بين الشاعر وجمهوره، وفى ظل زمن جديد يقوم على تبادل المنفعة، ويمكن أن ندرك كما كتب فى مقدمة كتابه «بين فرائض الشعر ونوافل السياسة» لماذا تثير قصيدة شعرية تقزز الساسة ورجال المال والمحافظين الباحثين عن منتجعات للراحة، بعيدًا عن الضجيج غير المحتمل لكائنات، ستظل فى نظرهم، حالمة وضالة. هو لا يعتبر الشعر خسر المعركة أمام فن الرواية، لأن الشعر هو نفحة الفطرة الأولى، بينما الرواية بنت العصر الصناعى، والروائى الجديد أكثر واقعية ورومانسية وقادر على تبادل المواقع مع السلطة والقيام ببعض مهامها، أما الشاعر فساخط عظيم على كل هذا، بل إنه أنقذ هذه القصيدة باستنهاضها من ركام العادى والهامشى، كما كتب الشاعر عبدالرحمن مقلد، ومن النثرية العادية الخالية من جمال النثر أصلًا، فرفد قصيدته بالمعرفة، أوصلها إلى نقاط استكشافية فى الماضى، ذهب بها إلى دوائر المعارف وكتابات الأقدمين، لاقطًا لقطات شعرية فى مواقف كبرى أو انحناءات صغيرة. ولم يخاصم قرنى الموسيقى لكنه فهم دائرة العروض فهمًا دقيقًا لأنه مثقف حقيقى، لم يكابر ويرفض موسيقى الشعر رفضًا فجًا، لكنه عرف أن الشعر موسيقى وغناء فى أحد حضوراته الكثيرة شرط ألا تطغى على المعنى أو تلوث الآذان بتواليات مزعجة رتمية قديمة، أما محمود قرنى الصديق فهو من أنبل من عرفت، وكنت أحتكم إلى فطرته النقية فى الأوقات الصعبة الكثيرة التى عشتها، وكان وجوده فى حياتى يبعث الاطمئنان، وفى فترة مرضه الأخيرة قلّت لقاءاتنا، لأننى لا أريد أن أشهد معاناته، أنا الذى عرفته قويًا معافى، تسقط دموعه من كثرة الضحك، بعد أن سمعت خبر رحيله تذكرت قصيدته عن أمه التى قال فى نهايتها: 

«بعدما كَبُرَتْ أمِّى 

وتسربَتْ شعراتُ المَشِيِبِ 

مِن أسفلِ طَرْحَتِها 

دخل عليها أبى بزوجةٍ ثانية 

فصادَقَتْ زَوْجَ حَمَامٍ يَهْدِلُ فوق رأسها 

حَمَّمَتْنى أنا وإخوتى الثلاثة 

بينما تُغَنِّى بصوتٍ جافٍ وخفيض: 

(يا ويلهم راحوا مع مَنْ راحْ 

لا ردهم فارسْ ولا رمَّاحْ) 

إنه يوم الجمعة 

وقد أدْرَكَنى منتصف نهاره

سأهاتفُ أُمِّى حالًا 

ولن أُقِيمَ أى اعتبارٍ

للنَعى الذى نشرَهُ إخْوَتى عن وفاتها».