رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى رحيل «فراسّاتي» .. تعرف على قصة القديس خادم الفقراء

القديس پيار چورچو
القديس پيار چورچو فراسّاتي – خادم الفقراء وشفيع الشباب الكاث

تحتفل الكنيسة الكاثوليكية في مصر اليوم، بذكرى رحيل القديس پيار چورچو فراسّاتي الشهير بخادم الفقراء وشفيع الشباب الكاثوليكي- العلماني "مكرس ثالثي بالرهبنة الدومنيكانية".

وُلِدَ پيار چورچو فراسّاتي في 6 إبريل 1901م بتورينو بإيطاليا، لأبٍ يدعى "ألفريدو فراسّاتي" صاحب جريدة "لا ستامپا" الشهيرة، وأمٍه " أديلايدي أميتيس" رسامة معروفة. 

كلاهما كانا محايدين من الوجهة الروحية والإيمانية، محسوبان على فئة (اللا أدري)، بالتالي لم تكن خلفية پيار المبنية على إيمان الوالدين موجودة، ولا مجرد خلفية موروثة بالتلقين.


ولپيار شقيقة وحيدة هي "لوتشيانا فراساتي جاورونسكا" تصغره بعام واحد، وهي من اهم مصادر التعرف على حياة هذا الشاب النموذجي.


كان الوالد بحكم عمله كصحفي وصاحب جريدة، ذا توجهات سياسية وأيدلوچية، أهّلته إلى أن يكون عضواً بمجلس الشيوخ الإيطالي، ثم سفيراً لبلاده في ألمانيا لاحقاً.
أما الأم فقد كانت فنانة لها وضعها في تلك الفترة، وقد عرضت بعض لوحاتها بمعرضٍ في ڤينيسيا بحضور الملك ڤيتوريو إيمانويلي الثالث ، الذي اقتنى عدداً من أعمالها. 


ظهرت ميول پيار نحو خدمة ومساعدة الآخرين للمرة الأولى في طفولته، عندما طرقت باب منزله سيدة فقيرة ففتح الباب ليجدها تسأله صدقة ومعها طفلها يقف حافي القدمين. ومن شدّة تعاطفه أقدم على أن يخلع حذائه ليهبه إلى هذا الطفل المسكين.


في موقفٍ آخر رفض والده مساعدة رجل كان يتسول ببابه أيضاً لأنه كان مخموراً، شاهد پيار ذلك المشهد وذهب يبكي لأمه بحرارة، فطلبت إليه الأم أن يخرج ليبحث عن الرجل ويدعوه لتقدم له شيئاً يأكله.


برغم موقف الوالدين المحايد من الإيمان بالله، إلا أنهما كانا حريصين على تتميم الطقوس المسيحية لإبنهما ليصبح كسائر الأطفال، فأتم پيار أول سرّ إعتراف له بكنيسة الجسد الأقدس يونيو 1910، ثم أدّىَ المناولة الأولى الإحتفالية يونيو 1911، ثم سر التثبيت بالميرون في يونيو 1915.


كان الفتى پيار خفيف الظلّ يميل إلى الدعابة وإظهار ابتسامته أغلب الوقت، لدرجة أن أقرانه كانوا يطلقون عليه لقب "الذعر" بسبب ولعه الشديد بإحداث المقالب، رغم حفاظه على أن تكون غير مؤذية لكنها مضحكة
لم يكن أبداً من أصحاب الوجه العابث، بل كان يكره العبوث وبث روح اليأس حتى وإن كان متألماً، بل أن يقضي كل الوقت مَرِحاً وقادراً على إدخال المرح على حياة كل من حوله.


كان مستواه التعليمي متوسطاً، لكنه اشتهر بذكائه الإجتماعي وأيضاً بإحساسه بمسئولية الخدمة والتكرس لها. إذ تشكَّل وَعيه الإيماني بتطابقه مع نداء الروح فيه بالإهتمام بالمساكين، فتطلَّع في الأيدلوچيات ومنابع الثقافة التي كانت بين يديه بحكم خلفية والده، ولم يجد أبرع من كلمات الإنجيل لتعبر عن هذه رسالة التي كانت تجتاح عقله وقلبه وإرادته، ومنها نضج وعيه بالله الخالق المخلِّص الذي يدعو كل إنسان ليكون صاحب رسالة ومُخلِّص في المجال الذي يهتم به قلبه.


كان رسوبه في صفه الدراسي عام 1913 سبباً في نقله إلى مدرسة تديرها الرهبنة اليسوعية، ومنها بدأ يعرف طريقه نحو العمل الإجتماعي الهادف إلى توحيد الناس على الكفاح العملي لإحراز العدالة الإجتماعية من خلال الخدمة كملح للأرض ونور للعالم.
 

عاصر پيار مرحلة "بنيتو موسوليني" الذي صار رئيساً للوزراء على عهد الملك "ڤيتوريو إيمانويلي الثالث" عام 1922.

كان صاحب وجهة نظر رافضة بشدة للنزعة القومية المتطرفة المعروفة بـ "الفاشية" التي تبنّاها موسوليني، والتي تعادي كل ما هو آخر من الوجهة القومية ولا يؤدي إعتناقها فكرياً إلا إلى اندلاع الحروب وسفك الدماء، إلى جانب عدم اعترافها بخصوصية وضع الإكليروس والكنيسة والعمل الرسولي (العمل الخدمة والإنساني) كان پيار عضواً بمجموعة العمل الخدمي المُسماة "العمل الكاثوليكي" ومجموعة مسيحية أخرى تُدعىَ "رُسُل الصلاة" تقوم خدمتهم على الدعم الروحي لخدمات الفقراء من خلال الصلاة لنجاح الخدمة وهاتان المجموعتان كان قد التحق بهما منذ عام 1919. ويسبق كل ذلك بعام أي نحو عام 1918 كان عضواً بجمعية القديس ڤنسان دي پول المكرسة لخدمة الفقراء والمرضى، والتي لم يشغله عن خدماتها إلتحاقه بكلية الهندسة في نفس العام، كما كان ناذراً ومكرساً من الدرجة الثالثة بالرهبنة الدومنيكانية منذ عام 1922م، لأنه كان متأثراً بالقديس دومنيك الذي آثر الخدمة والصلاة على كل ما في الحياة من بريق للنشاط الكلامي وإضاعة الوقت دون تحقيق الخير للآخر عملياً، وكان قد اختار اسماً وهو الأخ "چيرولامو".


كذلك كان روحياً شديد التأثر بالقديس بولس الرسول الذي كان يذكره في كثير من خطاباته، والقديسين الدومنيكان "توما الأكويني" و "كاترينا السيانية". إذ كان يعتقد أن إطعام الفقراء وعلاج المرضى ليس كافياً، بل لابد من تأهيل وإصلاح مجتمعي، يصل به إلى تحسين أحواله.


وبسبب نشاطه الإنساني ذو الصبغة الدينية واعتراضه المُعلن على إعاقة الخدمات الإنسانية، تم القبض عليه لتواجده في مؤتمر الشباب الكاثوليكي العامل، وأُفرجَ عنه بعد حين.


قضى غالبية وقته البالغ 24 عاماً فقط، في خدمة المرضى والفقراء،خلال دراسته للهندسة، إختار قسم التعدين، لـيخدم المسيح في شخوص عمّال المناجم، حيث ظروف مادية متواضعة وصحية غالباً ما تكون صعبة، قرر أن يعيش فقرهم وهو أبن الدبلوماسي الثري "ألفريدو فراسّاتي".


وعند تخرجه خيره والده بين هديتين: الأولى سيارة والثانية مبلغ ضخم من المال يبدأ به حياته العملية، فاختار پيار المبلغ المالي ليستطيع الإنفاق منه على الفقراء.
يُذكر عنه الكثير من أعمال الرحمة، حيث وفَّر الإقامة لإمرأة بلا مأوىَ، كما إلتزم مادياً بنفقات علاج وإعاشة أرملة فقيرة مريضة بالسُلّ الرئوي وكذلك تكفَّل بالإنفاق على أطفالها الثلاثة.


قبيل تخرجه من الجامعة كان قد إلتقىَ فتاةً وانجذب إلى بساطتها وصدقها واهتمامها بأعمال الخير، لكنه وعلى خلاف المعتاد في المجتمعات الأوروبية، إلتزم العفة نحوها ولم يُقِم معها علاقة جسدية لأنه لم يرد ذلك قبل أن يقيم عهد زواج بها وهو ما كان لا يثق أنه سيتم بسبب إعتقاده بأن والده قد لا يقبل بزواجه منها، وكان قد صارح أخته وكاتمة أسراره بهذه الحالة.


وتحكي لوتشيانا موقف من مواقف عدّة في حياة الشاب پيار چورچو، تظهر فيها محبته للفقراء فتقول أنه تغيب عن موعد الغداء ذات مرة بسبب أنه أعطىَ ما تبقى معه من مال لأحد الفقراء فلم يُبقىَ معه ثمن تذكرة الترام فعاد للمنزل سيراً على الأقدام، كما قابل فقير آخر يرتعد من البرد فأعطاه معطفه وسار كل هذه المسافة دون معطف في البرد الشديد.


وتعتبر لوتشيانا أقرب الشهود على حياة پيار لأنها كان لا يحكي لأحدٍ سواها عن حياته واهتمامته، التي لم تكن تشغل والديه كثيراً، لدرجة أنهم لم يدروا الكثير عن حياته وخدماته اليومية، وعند خروجه لا يعرفون إلى أين كان يذهب تحديداً.


كان پيار قد ساهم أيضاً في تأسيس صحيفة تُدعى "مومينتو" والتي تقوم على إلهام فكري وروحي وتأثر بالرسالة البابوية عن الأفكار الجديدة ، للبابا لاون الثالث عشر ، التي تحدث فيها عن الحقوق العمالية ، وكذلك إحلال السلام ونزع السلاح من العالم.


تمتع كذلك بالعديد من المواهب فكان شاباً رياضياً يجيد السباحة وتسلُّق الجبال إذ استطاع تسلق جبل ڤيزو وجبل جراند تورنالين وكان عضواً بنادي جبال الألب الإيطالي الرياضي، كما كان يجيد القراءة السليمة بمخارج ألفاظ واضحة، ويفهم جيداً اللغات الألمانية واللاتينية والفرنسية، ويجيد الرقصات التعبيرية والأداء الحركي.


كانت له اهتمامات فنية، يذهب في أوقات فراغه المحدودة إلى المسارح أو المتاحف، كما لم يكن يذهب إلى دور السينما إلا إذا تأكد من أن رواية الفيلم المعروض هادفة وتحمل قيم إنسانية سامية، إذ كان يعتبر أن كل شئ بلا هدف أو رسالة هو مضيعة للوقت، حتى وقت المتعة لابد أن يكون مفيداً للعقل والروح، من هنا كان يرفض حضور أي عرض تافه أو مُبتذل أو يحمل قيم فاسدة لا تُنمي الإنسان للأفضل.
 

في يوم 30 يونيو 1925، كان پيار في قاربٍ صغيراً مع اثنين من أصدقائه في نهر پو شمالي إيطاليا، عندما فاجئته آلام حادة بعضلات ظهره، فأعاداه الصديقين إلى منزله في حالة إعياء شديد وصداع حاد، كما داهمته الحمىَ في اليوم التالي.


عندما طلب منه الطبيب النهوض من فراشه وإنزال قدميه إلى الأرض، لم يستطع پيار ذلك فصحّت شكوك الطبيب وتأكد بأنه أصيب بعدوى شلل الأطفال، التي تلقاها غالباً أثناء خدمته اليومية للمرضى.
توفيت جدته حزناً عليه قبل وفاته بأيام معدودة، وتحت وطئة الآلام المبرحة كان طبيبه يلجأ لحقنه بجرعة من المورفين لينخفض شعوره بالألم ويتمكن من النوم.
 

ساءت الحالة وتفاقمت بشدة لدرجة دفعته لطلب مسحة المرضى والمناولة الأخيرة، وفعلياً إستُدعِيَ الكاهن فجر يوم 4 يوليو 1925م، وظل نزاع پيار حتى السابعة مساءً، حيث فاضت روحه بينما كانت تحيطه والدته بذراعيها وهو يناجي الرب قائلاً: "بين يديك يا إلهي دعني أستودع نفسي بسلام".
 

توقعت عائلته أن تأتي شخصيات الطبقة الراقية فقط بتورينو لحضور الجنازة وتقديم العزاء والمجاملة، فإذا بهم يفاجأوا بإصطفاف الآلاف من بسطاء تورينو على الطريق من المنزل إلى مدافن العائلة في پولوني تشميتيرو، لتوديع الشاب الذي إهتم بمعاناتهم وأفنى عمره القصير في خدمتهم يومياً والإنفاق عليهم من ماله الخاص ومن الإستجداء لأجلهم، وهو ليس من طبقتهم الاجتماعية.


فيما بعد تم نقل رفات الشاب پيار چورچو، عام 1981 إلى كاتدرائية يوحنا المعمدان بتورينو، ووُجِدَ جثمانه متماسكاً. وهذه الكنيسة هي مزاره الرئيسي حتى الآن.
تم رفع ملف تطويب پيار چورچو فراسّاتي بعد دعوات مستميتة من أحباءه، بسطاء تورينو، وشقيقته، وكل من عاونوه في خدمته وشهدوا على قداسة نفسه.


عام 1978، تم إعلانه خادماً للرب، عن يد البابا القديس القديس يوحنا بولس الثاني.
عام 1987، تم إعلانه مكرماً، أيضاً عن يد البابا القديس يوحنا بولس الثاني، وقد أطلق عليه نموذج للقديس العصري البطولي في فضائله، كما دعاه المطوب بالثماني تطويبات التي قالها يسوع في موعظته على الجبل.
 

فى 20 مايو 1990، تم إعلانه طوباوياً، أيضاً عن يد البابا القديس يوحنا بولس الثاني، ودعاه شفيعاً للشباب الكاثوليكي.


أما البابا بنديكتوس السادس عشر فقد قال: "لقد وَعىَ في عمرٍ مبكر معني الحياة مع الله والأمانة إليه، والتفكير بروحه في كافة الأمور المصيرية في الحياة، وأن الحياة لابد لا تحمل المعنى بدون دعوة الملح والنور"،وقد زار البابا يوحنا بولس الثاني ضريحه، كذلك البابا بنديكتوس السادس عشر ،كما زاره البابا فرنسيس عام 2015.