رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رائحة الأسماء «3»

أشرف عبد الشافى
أشرف عبد الشافى

وهل للأسماء رائحة، ولها ذكريات وتفاصيل وقصص ومكان نحفر له مساحة فى الوجدان، وربما حمل الاسم رائحة شجن وحزن وألم قديم، وربما كانت الفرحة والراحة النفسية والبهجة مسكونة بين حروفه، وربما أحاطت هالة قدسية به فيمتلك سحرًا خاصًا يفوح وينساب مكللًا بالورد والياسمين، وهناك أسماء تفيض منها أرواح طيبة وأخرى غير ذلك؟.. وها أنا أحاول تشمم رائحة الأسماء فى رحلة قد تطيب لك ونعثر سويًا على ذكرى حلوة فى هذه الأيام المباركة.

يحيى 

رقصت سالومى على جثة هذا المسكين، امرأة صغيرة وتمتلك جبروت نصف الكوكب، وقعتْ فى غرامه قبل أن تدهن رقبتها وبطنها بدمائه، ذهبت إليه تتغزل فى عينيه وحلاوة ملامحه، لكنه أعرض عنها ويا ويل من يُعرض عن أنثى تمتلك جمال ومكر زليخة ونكران زوجة نوح وحقد وغيرة سارة زوجة إبراهيم!.

تخطفُك حروف اسم يحيى، تستريح لها النفس لسر كبير يتعلق بمن اختار الاسم ولم يجعل له من قبل سميًّا، وأنا اسمى أشرف كما تعلمون وقابلت عددًا لا بأس به من بشر يحملون هذا الاسم الخفيف كريشة والثقيل كحبة لؤلؤ، ولا أخفيك فقد وقع كثير منهم فى قلبى كما تسقط ثمرة برتقال فى حديقة، وكانت قصص «ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالًا» مدخلًا رحيبًا ليحيى الطاهر عبدالله إلى روحى ووجدانى، وربما تسرب يحيى الفخرانى من نفس باب المحبة، كما كانت موسيقى يحيى خليل مفتاح محبتى الفياضة له، وبالمقياس نفسه وجدت بين أصدقائى كثيرين أفاض الله عليهم بنور الاسم: يحيى وجدى الشاعر والإنسان القريب إلى روحى، ويحيى عبدالتواب أول راقص باليه فى مصر، ويحيى فوزى المترجم وبروفيسور الكونغ فو، ويحيى عبدالوهاب داود بشقاوة عينيه وما يحمل رأسه الصغير من أفكار لا يفصح عنها، وأضف من عندك ما تشاء من «يحيى» فستجد قسمًا كبيرًا منهم يحمل جماليات الاسم فى البدن، حتى وإن شذّ عن ذلك القليل، وقد فكرت فى «يحيى» كاسم لابنى لولا أن قرانا فى المنيا وكثير من قرى الفيوم وبنى سويف تنطق الاسم بكسر الحاء، فيبدو ذليلًا ممطوطًا متهدلًا مفتقدًا شموخ فتح الحاء لأعلى، وتلك مسألة تحتاج تأكيدًا من الباحث والشاعر مسعود شومان. 

طلبت سالومى رأس يحيى لترقص عليه وحوله وتشتمّ رائحة دمائه فتثيرها أكثر وترقص أكثر، لم تطلب أن يُسجن أو عذاب عظيم، ومن يومها أصبح الرقص على الجثة شفاء للمغلولات من حفيدات سالومى فى مشارق الأرض ومغاربها، أى لذة تلك التى استشعرتها حافية القدمين وهى تدهس نبات السماء، إن صورته كما رسمتها كتب السيرة وكما نفخ فيها الرحمن عندما اختار الاسم للبدن تبدو صعبة على الخيال كى يتصور لحظة جز هذه الرقبة وفصلها عن البدن، يحيى الذى يتكلم مع الشجر ويصاحب الريح ويلعب فى ماء النهر سعيدًا بوحدته مع مخلوقات الله يموت شهيدًا على هذا النحو؟.

جاء يحيى إلى الدنيا قبل ميلاد عيسى بن مريم بفترة قصيرة لا تزيد على ستة أشهر فى بعض الروايات، وقيل إنهما التقيا عند نهر الأردن، وإن تعاليم الشريعة السماوية التى بلغها عيسى للحواريين فى فلسطين حول الزواج من المحارم هى نفسها التى كان يبلغها يحيى للمؤمنين به فى الشام حيث هيردوس الملك الهائج كثور على الغجرية الصغيرة التى لا تحل له بمنطق يحيى والجماهير التى ستهاجمه وتتجرأ عليه فيما بعد.

تحكى كتب السيرة أن يحيى غاب عن والده زكريا الذى كان فى المحراب يذكر كيف أنعم الله عليه بعدما اشتعل الرأس شيبًا بهذا الذى لم يجعل له من قبل سميًّا، ثلاثة أيام بلياليها ويحيى غائب عن قلب زكريا، فخرج إلى البرارى ينادى ولده حتى وجده وقد حفر قبرًا لنفسه وجلس يبكى فيه، ولمّا اقترب زكريا ونظر فى وجهه أخذه الحنان فقال يحيى: لماذا تحزن الآن؟ ألم تخبرنى يومًا أن بين الجنة والنار مفازة لا تُقطع إلا بدموع البكائين؟، وتقول الروايات إنهما بكيا معًا حتى إن الدموع تركت أثرًا على خديه الشريفين.

قال يحيى: لا لزواج الملك من فتاة لا تجوز له، واستمع الناس إليه وأعلنوا غضبهم على الملك الذى سيفتح عليهم غضب السماء كما قال لهم يحيى، ودخل يحيى السجن ودخلت عليه الفتاة اللعوب، كما تروى بعض السير، لتؤثر على رأيه وتدعوه إلى الخروج إلى الناس وإقناعهم بزواجها من الملك فأشاح عنها، لكنها راهنت على أنوثتها وراحت تراوده عن نفسه تمامًا كما ستفعل زليخة مع يوسف، لكنه ظل منزويًا موليًا وجهه للحائط، فغادرته وعادت ومعها أمها هذه المرة، وحاولت الفتاة مجددًا فأشاح يحيى وهمّت أمها أن تضربه فأمسكت الفتاة بيدها ونظرت فى عينى يحيى وسقط هواه فى قلبها، وقيل إنها أبعدت أمها وسهرت ليلة كاملة تتحدث إليه عن أحلامها منذ الصغر فى التتويج ملكة على العرش، وكيف أصبح ذلك الحلم تافهًا عندما نظرت إلى عينيه فرأت أنهارًا وظلًا ونعيمًا حتى كادت تلمس السماء وتستمد منها القوة لتمنع أمها عنه، لكن يحيى الذى استمع إلى تسبيح الأشجار فى البرارى لم يسمع فحيح الأنثى ونام واقفًا، فزحفت الأفعى تتوعده فى حضن الأفعى الكبرى، واتفقتا على إقناع الملك بقطع رقبته، وخاف الملك من فعل ذلك حتى لعبت به شمول من خمر وجسد ولذة وشهوة وغرام فاستجاب للغجرية وأمها، وقيل إن رقبة الشهيد جاءت على صينية من الفضة الخالصة وإن سالومى ظلت ترقص حتى الصباح وظل دم الشهيد يغلى حتى فاض على الأرض وهو فى شدة غليانة، فوضعوا فوقه التراب فلم يسكن وظل يتدفق حتى إن بعض الروايات تقول إن الدم لم يتوقف إلا بعد أن بعث الله عليهم ملكًا من ملوك بابل غزاهم ونكّل بهم، حتى قتل منهم سبعين ألفًا.

عدّاس 

اسمى أشرف كما تعلمون، وكنت صغيرًا جدًا حين رسمت صورة للرسول صلى الله عليه وسلم فى خيالى وهو يرتكن بظهره إلى سور حديقة ويبكى بكاءً يتقطع له القلب وتنتفض معه الروح، كان وحيدًا هناك فى الطائف التى ذهب إليها محزونًا فقذفوه بالطوب والحجارة، بكى نبى الله، إذ أخذه على نفسه الحنان، فهو منذ ولد حتى هذا اليوم -يوم الطائف- أى طوال ثمانية وأربعين عامًا يعيش بين الناس فى مهرجان حافل بالمحبة والحفاوة والاحترام، وها هو اليوم يلقى الذى يلقاه من سفهاء ثقيف الذين لاحقوه فأدمى الصخر قدميه الشريفتين، فآوى إلى بستان وأسند ظهره لشجرة وبسط كفيه إلى السماء يناجى ربه محزونًا متضرعًا مبتهلًا كما لم يبتهل بشر من قبل:

«اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى.. وقلة حيلتى وهوانى على الناس.. يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين.. وأنت ربى، إلى من تكلنى إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملكته أمرى.. إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى.. لك العتبى حتى ترضى».

رسم خيالى الصغير صورته على هذه الحال من الحسرة والألم حتى هلّ نور «عدّاس» حاملًا بين كفيه عنقود عنب أرسله به صاحبا الحديقة «عتبة وشيبة»، يقول ابن هشام فى السيرة النبوية إن عدّاس أضاء وجهه فور أن تقدم إلى النبى وشعر بتعاطف كبير مع الرجل المهيب الذى يبكى رافضًا الانتقام الإلهى بضم الجبلين على الطائف وأهلها، وهنا ارتسمت ملامح «عدّاس» أمام عينى فرأيته وهو ينحنى على النبى يُقبّله ويضمه ويبكى معه، فهذا الرجل ليس كالرجال إنه نبى وما فى قلب «عدّاس» شك فى تلك الحقيقة التى لمسها وشعر بها تسرى فى بدنه، فراح يُقبّل يديه ويجفف دموعه ويرفع التراب عن ثوبه، عدّاس الغلام النصرانى كان بالنسبة لى فى هذه اللحظة أهم من مساندة عشرات الصحابة فيما بعد، فلولاه لانفطر قلب النبى صلى الله عليه وسلم وحيدًا هناك وظلت مرارة القسوة فى حلقه، غلام فقير أجير ينتصر لنبى الرحمة، عطايا الله كلها تجسدت فى هذا الغلام المسكين، عدّاس لم يقبل يدىّ النبى ويتعفر بردائه فقط لكنه أعطاه بشارة جديدة كان النبى فى أشد الحاجة إليها، فهو ليس محزونًا مما فعل سفهاء الطائف فقط لكنه خارج من أزمة عاصفة، أزمة أوجعت قلبه واستمرت تتوالى أهوالها فى عام كامل من الحزن هو الأكثر درامية ومأساوية فى تاريخ الأنبياء، فقد فيه أغلى ما يملك من سند ومحبة ودفء وحماية، وفقدت فيه قريش صوابها ولم تخجل من ملاحقته واقتراف إهانات صغيرة وهابطة ضد هذا الذى كانت تتحدث عن فضائله وتتعامل معه قريش كلها كأميرها وسيدها رغم حداثة سنه، ها هى ذى تغرى به سفهاءها فيلقون عليه التراب والروث وتنحنى ابنته فاطمة باكية وتميط عنه الأذى فيجفف دمعها فى صبر: «لا تحزنى يا بُنية فإن الله مانع أباك».

ويتوحش قساة القلوب وينادى منادٍ بينهم بمقاطعة بنى هاشم وعزلهم عن الحياة وصبّ العذاب والأذى على كل من يؤمن برسالة محمد، وتأوهت الصحراء لجسد بلال بن رباح العارى على صهد رمالها وصخورها «واصبر لحكم ربك»، فيأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة راضيًا أن يبقى وحده صابرًا محتملًا مفكرًا فى مخرج للدعوة، فكانت الطائف التى أدمعت قلبه ولم يجد فيها بعد كل هذا الضيق سوى انفراجة «عدّاس» فى وجهه الكريم.

تقدم عدّاس بطبق العنب «.. فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، قال: بسم الله، ثم أكل، فنظر عدّاس فى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أهل أى البلاد أنت يا عدّاس؟ وما دينك؟ قال: نصرانى، وأنا رجل من أهل نينوى بالعراق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى، فقال له عدّاس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخى كان نبيًا وأنا نبى، فأكبّ عدّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبّل رأسه ويديه وقدميه».

تلك اللحظة وهذا المشهد كشفا عن نوع من البشر يدخرهم الغيب من أتباع عيسى عليه السلام: «ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع».

هكذا تروى كتب السيرة وينقل عنها خالد محمد خالد فى «عشرة أيام فى حياة النبى» وعشرات من الكتب تحدثت عن الواقعة، لكن أحدًا لم يقل لنا أين ذهب عدّاس بعد ذلك؟!، وهل بحث النبى عنه فيما بعد؟! مسكين هذا الفتى، صحيح أن المصادر جميعها تؤكد أن الغلام عاد إلى صاحبى الحديقة وقال لهما إنه قبّل يدى الرجل وقدميه لمّا رأى فى وجهه من خير، وقال لهما إنه أخبره بما لا يعلم إلا الأنبياء، فقالا له: «ويحك يا عدّاس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه» لكن سيرة عدّاس اختفت بعد ذلك، ورأيت أن أبعث إليه بتحية تقدير وإجلال.

من كتاب «اسمى أشرف» تحت الطبع