رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شوكت المصرى عن المنجز الإبداعى لـ محمود قرنى: "الشاعر الذي لم يخذل قصيدته"

شوكت المصري
شوكت المصري

رحل الشاعر الكبير محمود قرني، صباح أمس الأحد، عن عمر ناهز 62 عامًا بعد صراع مع المرض، وكان هذا الخبر صادما للمشهد الثقافي، خاصة مع وجود مطالبات عديدة بدعم المؤسسات الثقافية، وعلى رأسها وزارة الثقافة واتحاد الكتاب المصري، لاتخاذ موقف وإجراءات لإنقاذ الشاعر الكبير محمود قرني، ولكن لم يستجب أحد. 

قبل رحيله بيوم، كشف الشاعر فارس خضر عن دخول الشاعر الكبير محمود قرني إلى الرعاية المركزة لأحد المستشفيات الخاصة في مصر الجديدة، وذلك قبل إجرائه عملية زراعة كبد. لم ينتظر قرني كثيرًا، فكان رحيله صدمة أخيرة لشاعر احترف الكتابة وعاش من خلال الشعر الذي كان بمثابة الهواء الذي يتنفسه، حيث كان دائمًا يدافع عن قناعاته ومجالسه. كان دومًا صوته عاليًا ومحبًا لكل ما هو جديد.


في هذا الملف، نقدم شهادات وآراء حول المنجز الإبداعي لصاحب "حمامات الإنشاء، خاتم فيروزي لحكيم العائلة، أبطال الروايات الناقصة، لماذا يخذل الشعر محبيه؟!"، وغيرها، ومنهم الناقد الأكاديمي والشاعر شوكت المصري.

 

شوكت المصري: محمود قرني: "الشاعر الذي لم يخذل قصيدته"

"رفقائي الذين لا زالوا ينظِّفون أجسادَهَم

من جروحِ الطفولة

غادَرْتُهم إلى الحُلْكَةِ

التي أخذَتْني كقبرٍ يكتظُّ بالحلوى 

وهكذا أعادوا عظامي في قُفَّةٍ إلى أمي

وها هي 

تندُبُني بأبياتٍ قصيرةٍ من الشِّعر

وتعيدُني مرةً أخرى إلى خِزانتها

هذه هي الواجهاتُ 

التي تستحق أن نكتب علي شواهدها 

الكثيرَ والكثيرَ مما يؤلمنا.." 

 بهذه البكائية المبكّرة من ديوانه "طرقٌ طيبةٌ للحُفاة" الصادر عام 2001، رثى الشاعرُ "محمود قرني" نفسَه ورأى النهاية المباغتة، فيما رفقاء الرحلة "لا يزالون يتخلصون من جروحِ الطفولة".. إنه يغادرُ إلى الحُلكَة الممتلئة بالحلوى، بينما يشيّعُهُ الشعرُ إلى مثواه الأخير في بكائيةٍ أمومية حانية، لتنتهي كل آلام الرحلة ومعاركها، وإن ظلّت منحوتةً على شاهدِ قبره شهادةً على رحلةِ حياةٍ مكتظةٍ بمجابهات فارسٍ من نوعٍ فريد. 

جاء في زمن لا مكان فيه للشعراء 

 لقد رحلَ "محمود قرني".. "قرني" الذي جاء في زمنٍ لا مكان فيه للشعراء.. لكنه رغم ذلك استمسكَ ورفاقه ورفيقاته بعروة الشعر الوثقى، دون كلل ولا ملل، فكابدوا الموتَ والنسيان وهم أحياء يمشون بالشِّعر بين الناس. 

رحل "قرني" الذي ترك "أحد عشر ديوانًا" وهو بينهم كيوسف بين إخوته، أجملهم وأنقاهم، وهم شهودُ نفيِهِ ومعاناته ومحنته.. خاض من أجلهم معاركه الكبرى التي ترفّعَ فيها عن الصغائر وكان فارسًا يشبه الشطّار والعيارين في الحكايات الشعبية المصرية، بملامحه المصرية الخالصة وحدّتِهِ في المواجهات وعدم تسليمه بالأمر الواقع ولا استسلامه للغالبين. 

 المؤسسة الرسمية مارست إقصاء لجيل الثمانينيات 

وقال شوكت: اقتربتُ من الشاعر "محمود قرني" كثيرًا في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كنا بصدد الإعداد لملتقى قصيدة النثر، وكانت المعركة مع لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة وعلى رأسها الشاعر "أحمد عبدالمعطي حجازي" ومن معه على أشدّها.. كان شعراء قصيدة النثر قد بلغَ بهم إقصاء المؤسسة الرسمية وتهميشها لهم مبلغَه، فتحي عبدالله وعاطف عبدالعزيز وعلي منصور وفاطمة قنديل وشريف رزق وغادة نبيل وفارس خضر وآخرين كُثر لا يجدون لهم مكانًا في مؤتمرات الشعر وملتقياته الرسمية.. رغم مرور عشرون عامًا ويزيد على تحقق شعريةٍ جديدة راسخة على أيدي شعراء قصيدة النثر، بل وانضم لهم عددٌ من السبعينيين وعلى رأسهم حلمي سالم وأمجد ريان. 

لكن "حجازي" كان يمارسُ ما مورِسَ عليهِ من "العقاد" يومًا ما.. وحانت اللحظة الحاسمة، إذ انطلقت فعاليات ملتقى القاهرة الدولي للشعر بالمجلس الأعلى للثقافة وبموازاته انطلقت فعاليات حرة لملتقى قصيدة النثر الأول بنقابة الصحفيين، بمشاركة المئات من الشعراء المصريين والعرب، ووقف "محمود قرني" ملقيًا كلمته فخورًا بالقصيدةِ وممتلئًا بها وبنجاحه مع العشرات من المنظمين في الخروج بهذا الحدث الفريد انتصارًا للقصيدة وجديدها الذي لا ينتهي.

 انتهت فعاليات "ملتقى قصيدة النثر" في الرابعة عصرًا، وانطلقنا في سعادة غامرة بنجاحنا لننظر ما فعل ملتقى الشعر (الرسمي) في حفل ختامه بالمسرح الصغير بدار الأوبرا.. كان رئيس لجنة الشعر ورئيس الملتقى يتسلم جائزة الملتقى أيضًا!! هتفنا ممتلئين بفورة الشباب وحماسهم "شِعر أونطة".. لكن "حجازي" ألقى كلمته وهو يحمل الجائزة ونزل بكل ثبات ليتلقى التهاني من الحاضرين بالصفوف الأولى.

وتابع: تفرقنا لأشهر، ثم جاءت السنة التالية بملتقيان لقصيدة النثر بدلاً من واحد، الأول في نقابة الصحفيين بإشراف الشاعرين محمود قرني وفارس خضر، والثاني باتحاد الكتاب بإشراف الشاعرين فتحي عبدالله وصبحي موسى.. كنتُ في اللجنة العلمية للثاني، ولكننا جميعًا كنا سعداء بهذا الاتساع، لم نكن نراه انقسامًا.. حضرنا هناك معهم وحضروا معنا هنا.. تبادلنا التهاني على النجاح، وانتصرت القصيدة التي أصبح لها ملتقيان كبار في النهاية. 

ثورة قصيدة النثر 

كانت ثورةُ قصيدة النثر أسبقُ من ثورة الخامس والعشرين من يناير، فالتقينا بعدها في الميادين يومًا تلو الآخر، وظللنا هكذا لثلاث سنواتٍ من الحراك والاحتدام، من يناير إلى يونيو.. أصبحَ الواقعُ أكثر إدهاشًا من القصيدة ذاتها.. وغدًا التغييرُ حقيقة نضجنا فيها وبها.. سامَحْنا "حجازي" بعدما انزوت التفعيلةُ وهيمنتها مع العصر الذي انزوى، وانتظرنا أن تصبح قصيدة النثر متنًا بدلا من سُكناها الهامش. 

لكن زمن الشعراء لم يجد له سبيلا في مواجهة سيل الروايات والجوائز والقوائم القصيرة.. مات "شريف رزق" فجأةً بعد أيامٍ من الغيبوبة في مستشفى منوف العام، وتبعَه بأعوام "فتحي عبد الله" الذي لم يقوَ على مقاومة داء الرئة، وكابد كبدُ "محمود قرني" من مواجهة مرارة الأيام والسنوات، فرحل لاحقًا برفيقَي الرحلة وهو لم يكمل بعد عامه الثاني والستين، قبل أيامٍ قلائل من عملية زرع كبد انتظرها لشهور طوال بكل كرامةٍ وصبرٍ واحتسابٍ ورضا.

واختتم شوكت: وها هي القصيدة التي كانت تحلم بمكانٍ لها تحت الشمس تصبحُ شمسًا بذاتها رغم أنفِ مناوئيها، بينما كُتابها وأبناؤها يرحلون واحدًا تلو الآخر في صمت الأكابر الزاهدين دون أن يجنوا ثمار ما زرعوا، ودون أن يكونوا حيث يستحقون.. لنظل متسائلين مع الشاعر محمود قرني وإلى الأبد: يا تُرى "لماذا يخذلُ الشعرُ محبّيه"؟!