رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وزير "مملكة الشعر"


 تباينت قدرة كل أثر تركه الأصدقاء الثلاثة: نظام الملك والحسن الصباح وعمر الخيام على الصمود أمام تحولات الزمن، والتطورات التي اقترنت بالعصور التالية لزمانهم. 
 كتاب "سياست نامة" الذي أبدعه الوزير نظام الملك بقي مؤثرًا طيلة فترة الحكم السلجوقي، وتواصل تأثيره لدى العديد من الحكومات والأنظمة، ومثّل مرجعًا مهمًا للوزراء في عصور مختلفة، وظل كذلك حتى تجاوزه الزمن. فاختلاف الحقائق الاجتماعية من عصر إلى عصر أدى إلى اختلاف الحقائق السياسية التي اشتمل عليها الكتاب، سواء في عمل القضاة، أو المحتسب ومهامه، أو أحوال الرسل المبتعثين إلى دول أخرى، أو أحوال العسس والتجسس على الآخرين، وغير ذلك من فصول اشتمل عليها الكتاب.
 "الحسن الصباح" أيضًا كان شديد التأثير في عصره، وفكرته في تكوين مجموعات الموت أو الاغتيال السياسي ما زالت تتبناها بعض الجماعات المتطرفة، وتشهد التجربة السياسية في مصر أن بعض الأحزاب التي شهدتها مصر منذ تجربتها الحزبية الأولى "1907" مالت إلى الاعتماد على مثل هذه المجموعات، مثل الحزب الوطني الذي حاول اغتيال السلطان حسين كامل مرتين، وتمددت الفكرة بعد ذلك إلى جماعات الرفض السياسي والاجتماعي، وعلى رأسها جماعة الإخوان، كما أن أفكاره في تصنيف الأتباع، ومراتب الدعوة وأهدافها، وعمليات التخدير العقلي والنفسي للأتباع، ما زالت حاضرة في تجارب بعض الجماعات السرية، لكنها تطورت بما يلائم أهداف وظروف كل عصر.
  الذي بقى أثره على مرور الأزمنة وتغير الأمكنة هو الشاعر "عمر الخيام"، الذي مثلت رباعياته زادًا إنسانياً باقيًا، تمت ترجمتها إلى العديد من اللغات، ومن بينها اللغة العربية، وتمكنت من الصمود بعد وفاة الرجل حتى اللحظة. وقد يكون العامل الأهم في الخلود الذي تمتعت به "الرباعيات" هو طريقة إنتاجها. يقول "أحمد حامد الصراف" صاحب كتاب "عمر الخيام": "نظم الخيام رباعياته في أزمنة وأمكنة مختلفة، وكانت نفسيته تتمثل في كل رباعية من رباعياته تمثلًا خاصًا بها بما كان يحيط به من المؤثرات، فيقول في كل حادثة كلمة، لذلك نجد كل رباعية مستقلة بنفسها، لا علاقة لها بما قبلها وما بعدها، وقد نرى تناقضًا ظاهرًا بين رباعيتين، وذلك عند جولته في مضمار الشك واليقين. فتارة نراه مؤمنًا مطمئنًا، وتارة مرتابًا مضطربًا".
  نحن أمام شاعر يعبر عن الإنسان في كل زمان ومكان، بتقلباته المزاجية المختلفة، بتراوحه بين الخضوع للخالق العظيم والتمرد على السماء، بإقباله على الحياة في أوقات والإدبار عنها في أخرى، بولعه بالمتع واستغراقه فيها وإحساس الضجر الذي ينتابه فجأة بعد أن ينال ما يريد، بشوقه إلى الخلود وخوفه من الغموض الذي يكتنف الغيب. هذه الأحاسيس المتناقضة وغيرها عبّر من خلالها "عمر الخيام" عن الإنسان في كل زمان ومكان، فأحس من يقرأها بأنه يقف أمام مرآة تنعكس عليها ذاته المعذبة، وقد استطاعت لذلك فتح كل الفضاءات وعبور كل الحدود.
  تأمل الترجمة البديعة التي قدمها الشاعر أحمد رامي للرباعيات، وستجد فيها تلك الخلطة العجيبة التي يتشارك فيها كل البشر. الخلطة التي يتمازج فيها الولع بالحب والجمال بالغرام بارتشاف رحيقه، تتدفق من ثناياها الحكمة المقطرة التي تعكس فهمًا عميقًا للحياة، وخبرة بأحوالها وتقلباتها، وتغلفها حيرة الإنسان أمام الأسئلة التي يعجز عن الإجابة عنها: من أين جاء؟.. وكيف أتى؟.. وإلام المصير؟. وأظن أنه من العبث أن يتوقف البعض عند حديث الشاعر عن الخمر، ووصف أحواله معها، وتلذذه بها، ليتهموا الشاعر بالمجون، أو يتوقف آخرون عند الأسئلة الوجودية التي يطرحها الشاعر حول الحياة ومآلاتها، والأوجه المختلفة لحيرته الفلسفية، ليخلص إلى اتهام للشاعر بالزندقة. فالمسألة أعمق من ذلك بكثير.
  نحن أمام شاعر فيلسوف، يتمتع بموهبة فذة لم تتغذ فقط على إحساسه المرهف بالحياة والحياة، بل على مجموعة التفكير العقلي العميق الذي تمتع به، والذي كان منبعه الاهتمام بالكثير من العلوم التي برع فيها، ولعل أهمها علوم النجوم والفلك، ساعده على ذلك ما توافر له من أدوات وآلات للرصد مولها السلطان ملكشاه، حين قدمه إليه الوزير "نظام الملك".
  مات "نظام الملك" على يد صديقه الحسن الصباح، ثم مات الحسن الصباح، بعد وفاة الوزير، وبقي "عمر الخيام" الذي كان الأطول عمرًا بين الأصدقاء الثلاثة، وكان شعره أيضاً هو الأبقى والأكثر استمرارية في ذاكرة البشرية. وقد عاش حياته محبًا للحياة، ويبدو أن الحياة تمنح عمرًا أطول لمن يحبها، وليس معنى ذلك أن الآخرة لم تكن حاضرة في تفكير ومخيلة "الخيام"، على العكس تمامًا، فقد كان دائب الذكر لله، حتى في الحالات التي كان يبدو فيه متمردًا على المستوى الإيماني، كان ذلك ذكرًا للخالق العظيم من وجهة الحيرة. 
  زهد عمر الخيام في ختام حياته في كل شىء، وهدأت حيرته وهو يقترب أكثر وأكثر من عالم السماء، واستغرق في الصلاة والذكر، وقبل أن يموت بلحظات استدعى بعض أصحابه وأوصاهم، ثم التفت عنهم إلى الصلاة، فظلوا يراقبونه وهو يصلي ويردد: اللهم إني عرفتك على مبلغ إمكاني فاغفر لي فإن معرفتي إياك وسيلتي إليك".. وكان آخر شعر كتبه- كما يشير أحمد حامد الصراف صاحب كتاب "عمر الخيام- رباعية يقول فيها: مللت يا إلهي وجودي، ومن ضيق صدري وفراغ يدي، يا من تجعل من العدم وجودًا، أخرجني من عدمي بحرمة وجودك".
  مات وزير "مملكة الشعر"، كما مات نظام الملك وزير "مملكة السياسة"، والحسن الصباح وزير "مملكة السيف".. رحم الله الأصدقاء الثلاثة.