رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رواية الفاشل

‎لأننى محب القصص والحكايات، بحثت عن أعمال مضمونة أقضى معها إجازة العيد، القصص فى حياتنا ضرورية، خصوصًا إذا كانت العزلة اختيارًا مريحًا، تعيننا القصص على تمضية الوقت والتسلية ومقابلة شخصيات حقيقية فى ثقافات مختلفة، وتستطيع القصص تأدية وظائف أخرى، وبعض البحوث أظهرت أننا نحصل على الحقائق بيسر وسرعة فى حال سردها بشكل قصصى، وأظن أن وظيفة القصص الأولى تتمثل فى الهروب من طبيعة الحياة الرتيبة التى يعيشها البشر فى العالم كله. ويرى ريتشارد كيرنى أن القصص مهمة مثل الطعام، ربما تفوقه أهمية، حيث إن الطعام يبقينا أحياء، أما القصص فتعطى معنى حقيقيًا لحياتنا، يقول إسحاق دينسن: «أن تكون إنسانًا يعنى أن لديك قصة ترويها للآخرين»، معظم كُتاب الحكايات مؤخرًا انشغل بالجوائز السخية التى تتكاثر بشكل مخيف، وأصبح الهدف: كيف تكسب جائزة؟، وليس غزل حكاية تساعد الوحيدين على تمضية الوقت وبعث الألفة، وبالتالى نجحت الصيغ الذهنية فى جعل الأعمال القصصية متشابهة، ناهيك عن الابتعاد عن رصد الهموم الصغيرة للذين نعيش بينهم، نحن نستمع طوال الوقت إلى حكايات من الذين نلتقيهم، تأسرنا وتلهمنا أحيانًا، رواتها من الناس الطيبين «أو الأشرار» الذين لا يبحثون عن مغزى وراء الحكى ولا جائزة بالطبع، تقارن هذه الحكايات بما ينشر، فتكتشف أنك تعيش فى عالمين مختلفين، وربما فى بلدين مختلفين، الحكايات عند المصريين هى التى صنعت الذاكرة، هى التى وحدتنا فى مواجهة الظلاميين الذين يملكون حكاية واحدة فقط، حكاية صارمة، ويفتقدون الخيال الذى تتحرك فيه القصص الجانبية التى تُقرب المسافات، وتشعرنا بأننا نعيش معًا، ظهرت لى رواية تشارلز ديكنز «قصة مدينتين» التى قرأتها قبل أكثر من ثلاثين عامًا، فقلت «فُرجت»، كنت قرأت مؤخرًا أكثر من حكاية عن الكاتب الذى يُعدّ بإجماع النقاد أعظم الروائيين الإنجليز فى العصر الفيكتورى، والذى قال: «أنا شاعر فاشل. لعل كل شاعر أراد أن ينظم الشعر أول الأمر، فيجد أنه لا يستطيع، ثم يجرب القصة القصيرة وهى الشكل الأكثر صعوبة بعد الشعر. وحين يفشل فى ذلك، عندئذ فقط يشرع فى كتابة الروايات»، كان ديكنز، كما كتب دوجلاس فيرهورست فى كتابه «نقطة تحول»، ناقدًا اجتماعيًا. يُسخر كل خياله تقريبًا من المؤسسات والأنماط الاجتماعية التى نتجت عن ذلك التحول الدراماتيكى لوسائل الإنتاج والثورة الصناعية وتوحش أصحاب المال والأعمال. لكنه لم يكن ثوريًا، أبطاله أناس عاديون التزموا التزامًا بسيطًا بالآداب العامة. استنتج جورج أورويل، الذى ربما كان يتطلع إلى تجنيد ديكنز فى القضية الاشتراكية، على مضض، أن ديكنز لم يكن مهتمًا بالإصلاح السياسى فى حد ذاته، وإنما فقط بتحسين أخلاق الناس، وهو اهتمام فيه نبل حتى لو اتهم صاحبه بالرجعية فى بعض المسائل، قرأت حكاية تلخص شخصية صاحب «آمال عظيمة» و«أوقات عصيبة» وموهبته، نقلها يوسف الحسن، كان ديكنز يعمل كاتبًا على الآلة الكاتبة فى صحيفة، تغيب أحد المحررين بسبب المرض، فطلب منه رئيس التحرير أن يكتب مكانه أى مقال يأخذه من الموسوعة البريطانية ويعدل عليه قائلًا له: «إنه لن يكون أكثر سخفًا من المحرر الغائب!» وقَبِل ديكنز بالعرض، وكتب أول مقال له، رغم أن رئيس التحرير كان قد اشترط عليه عند توظيفه ألا يطلب منه أن يكون محررًا أبدًا، وعندما عاد المحرر إلى وظيفته الأولى فى كتابة العمود الصحفى فى الصحيفة، أعطاه عملًا آخر. بعدها طلب رئيس التحرير من ديكنز أن يكتب تعليقات على رسوم كاريكاتورية، ففعل، ما أدى فيما بعد لزيادة مبيعات الصحيفة من ١٠ آلاف نسخة إلى خمسين ألفًا، وتحوّل ديكنز إلى شخص مشهور، وأصبحت أخباره تتقدم على أخبار السياسيين ونجوم المجتمع، وكان هذا الكاتب، الذى أصبح من أشهر كتاب القرن التاسع عشر وأهم الكتاب الإنجليز، قد عاش طفولة مشردة، جوع ونوم على الأرض، وأب مقامر، يخسر كل أمواله ما اضطره إلى أن يعمل ماسح أحذية. وكان ديكنز عندما يعود فى آخر النهار يأخذ منه والده مكسبه، ليقامر به. ومن أجل تسديد ديونه، اضطر والده إلى بيع أثاث بيته، ولما لم يكف ذلك لتسديد ديونه أخذوه للسجن، وهناك وفى داخل السجن استمر فى لعب القمار، هناك كان يربح. كان ديكنز يهرب من محل مسح الأحذية لكى يقرأ، كما كان يستغل أوقات فراغه أيام طفولته ومراهقته فى القراءة أيضًا، وكان من كتبه المفضلة «ألف ليلة وليلة» و«دونكيشوت».وقد انعكست حالة ديكنز المعيشية على رواياته؛ حيث أسهب فى ذكر تفاصيل معاناة الفقراء والمشردين مع قدرة كبيرة على السرد والتصوير، كما أنه من ناحية أخرى كان فى كتاباته على الدوام نصير هاتين الفئتين ولجميع المظلومين فى العالم، حتى قيل إن «كارل ماركس» وصفه بأنه «الكاتب الإنجليزى الأكثر قدرة على كشف التفاوت الطبقى فى مجتمعه». كان حلمه أيام صباه أن يسكن فى بيت غاتشل «ديفيد كوبرفيلد»، وعندما كان فى الخامسة من عمره كان يمر من أمام ذلك البيت الهادئ الأنيق، ثم يجلس تحت شجرة وارفة الظلال أمامه ساعات يتأمله ويحلم بسكناه. وحين أصبح قادرًا على شرائه ذهب وكيله إلى صاحب البيت الذى رفض على الفور، قائلًا إنه ليس للبيع. وعندما أخبره الوكيل بهوية المشترى أعطاه مفتاح البيت بلا تردد، قائلًا: «إنه لو أن ملكة إنجلترا نفسها طلبت شراءه لما قَبِل لولا أن المشترى هو مؤلف ديفيد كوبرفيلد».