رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«السيرة الغيرية».. حيلة النساء للإفلات من قيود المجتمع فى كتابة قصة حياتهن

النساء
النساء

 

تحتفظ السيرة الذاتية للكُتّاب والكاتبات، بصفتها فنًا أدبيًا ذا ملامح خاصة، باهتمام الكثير من القراء. ومع هذه الجاذبية القرائية لهذا الفن الأدبى، التى جعلت من بعض الأعمال أيقونة تحيا عبر العقود، فإن كثيرًا من الكُتّاب يحجم عن كتابته لما يتطلبه من شجاعة كبيرة فى الوقوف أمام الذات ومساءلتها، والكشف عن تناقضاتها وإخفاقاتها، فضلًا عن الكشف عن مواقف الآخرين ممن عاصروا الكاتب، وجمعتهم المواقف، ما قد يمثل تعرية متعددة الأبعاد للذات والمجتمع والعصر الذى يروى عنه كاتب السيرة. 

فإذا كانت تلك عراقيل تعوق انطلاق فن السيرة الذاتية لدى الكُتّاب من الرجال، فإن الأسوار التى تحيط بالكاتبة تصير أكثر علوًا وأشد شراسة؛ ففضلًا عن مواجهتها للمعوقات السابقة، فإن الكاتبة تظل مقيّدة بالمفاهيم الاجتماعية عن النساء التى تطوّق حريتها، وتجعل من كل كتابة لها فرصة لإدانتها، بل ومحاسبتها. 

ربما قد تفسر تلك المعطيات قلة الأعمال التى كتبتها كاتبات على وجه الخصوص فى مضمار السيرة الذاتية، وإن كان هذا القليل نادرًا فى شجاعته، مثلما نجد فى «أوراق شخصية» للطيفة الزيات، أو «حضن العمر» لفتحية العسال وغيرهما من الأعمال. فى المقابل، كانت الكاتبات يلجأن إلى بث أطياف من سيرهن الذاتية عبر أعمالهن الروائية، تجنبًا لإثارة الجدل حول حياتهن الخاصة، لكنهن لم يسلمن رغم ذلك. 

من هذا المُنطلق، يمكننا أن نفسر توجّه بعض الكاتبات مؤخرًا لرواية سيرهن، ولكن عبر مرآة الآخر. فالكاتبة والناقدة البارزة أمينة رشيد «١٩٣٨-٢٠٢١» كانت قد روت بعضًا من سيرتها فى عددين متتاليين بمجلة الهلال؛ أبريل ومايو ٢٠٠٢، فى باب «التكوين»، لكنها أحجمت عن استكمال كتابة سيرتها الذاتية، لتكتب فى عملين من السيرة الغيرية؛ الأول بعنوان «إلى أمينة رشيد» لرندة صبرى ورانيا فتحى «٢٠٠٩»، أما الثانى فجاء بعنوان «أمينة رشيد أو العبور إلى الآخر» الذى كتبته سلمى مبارك، وصدر بترجمة عربية حديثًا عن «دار المرايا». 

لماذا لم تكتب الناقدة والأستاذة الجامعية البارزة أمينة رشيد سيرتها؟ سؤالٌ وجهته رشيد إلى ذاتها يومًا، فى خطاب غير منشور إلى حفيدها نديم نشرته سلمى مبارك فى كتابها، «لماذا لا أكتب؟ لعلها صعوبة استعادة خط حياة بهذا الزخم الكثيف ومسار بهذا التشعب، حيث المكان الأساسى فيه هو حالة البين بين، أو لعلها الخشية من الاختيارات الواجب اتخاذها، ذلك أننا نكتب اعتمادًا على ذاكرة انتقائية بالضرورة، فما الذى ينبغى قوله أو عدم قوله، أو هو ربما الوعى الحاد بالآخر لزامًا فى كتابة الذات؟ الآخر الذى سيتحتم علىّ أن أتحدث عنه، والذى لا أود أن أنال من صورته، ذلك أيضًا ما يعوقنى تمامًا». 

لهذه الأسباب مجتمعة لم تكتب رشيد سيرتها، وتركتها تنساب عبر أقلام الآخرين. هذا الخيار تسبب فى أن يتعرف القراء على بعض الجوانب من مسيرة الكاتبة النقدية، وبعض من مواقفها وآرائها، ولكن فى المقام الأخير على صورة مشوشة لتجربة حياة ثرية، كان يمكن أن تظهر أكثر نصوعًا لو أن أمينة رشيد تخلت عن قرارها بعدم كتابة سيرتها، وهو ما لم يحدث. 

ظهر كتاب «أمينة رشيد أو العبور إلى الآخر» ضمن مشروع ثقافى نفذته جائزة الملك فيصل بالرياض، ومعهد العالم العربى بباريس، لتكريم شخصيات مؤثرة اعتمدت نهج الوساطة فى العلاقة بين العالم العربى وفرنسا، ومن ثم فإن الكتاب الذى يعد دراسة استهدف بالمقام الأول توضيح هذه الوساطة فى مسيرة أمينة رشيد، سواء عبر مسيرتها الأكاديمية، أو رؤيتها الفكرية، أو فصول حياتها المتقلبة. 

يحاول الكاتب أن يقدم إحاطة بكل تلك الجوانب من حياة أمينة رشيد بصورة يغلب عليها الموضوعية، وعلى الرغم من أنه يقدم إضاءة لهذه المسيرة الغنيّة، فإن كل فصل من فصول حياتها أو أعمالها أو تفاعلها مع محيطها الثقافى والاجتماعى، منذ الأربعينيات وحتى تاريخ وفاتها، الذى جاء فى الكتاب أشبه بنبذات من كل حقل، وكان جديرًا، وما زال، باستفاضة أوسع. 

أحد أبرز ما تتيحه السيرة الغيرية، غلبة الجانب الموضوعى على الأبعاد الذاتية. من هنا يمكن قراءة المنظور الذى استقرت عليه هذه السيرة الغيرية عن أمينة رشيد وهو فكرة العبور، والذى اعتمدت فيه مؤلفة الكتاب على عدد كبير من كتابات أمينة رشيد، والكتابات عنها بالعربية والفرنسية، فضلًا عن بعض الشهادات عنها، كالشهادة التى كتبها زوجها الناقد سيد البحراوى. 

ومن ثم، يرسم الكتاب رحلة أمينة رشيد باعتبارها سعيًا دائمًا لإقامة الجسور للعبور بين ضفتين؛ بين اللغتين العربية والفرنسية، وبين طبقة أرستقراطية ونزوع إلى المهمشين، وأخيرًا بين الأدبين العربى والأوروبى. هذه الرغبة فى الجمع بين الجانبين قد رسمت مسارها المهنى، فاختارت أن تترك عملها فى المركز القومى للبحث العلمى بفرنسا، لتعود إلى بلادها فى السبعينيات للعمل فى جامعة القاهرة، ومساعدة شباب يعانون أزمة هوية غير مستقرة، ثم فى اختيارها نهج الدراسات المقارنة لتقرأ الأدب العربى فى ضوئه.

يُلقى الكتاب الضوء على رؤية أمينة رشيد فى اهتمامها بالأدب المقارن. تقول مبارك: «كان التفكر فى التقاء الأنا بالآخر يشغل عقل أمينة رشيد متخذًا عدة محاور؛ هناك مسألة لغة الآخر التى تناولتها فى إحدى دراساتها المبكرة، متفحصة إياها فى علاقتها بالهوية الوطنية فى ظل الاستعمار، مسألة التحديات النظرية التى تمتد عبر الحقل المترامى المحيط بإشكالية الغيرية، التى أجملتها فى كتابها (الأدب المقارن والدراسات المعاصرة فى النظرية الأدبية)، مسألة الجنس الأدبى لا سيما الرواية العربية والفرضيات المختلف عليها بشأن نشأتها، وهى مسألة تقع عند تقاطع اتجاهين فى مجمل عمل أمينة، وهما مسألتا الآخر والمنهج المقارن فى علاقته بالنظرية الأدبية». 

ومع تلك المرتكزات التى يقدمها الكتاب حول حياة رشيد وأعمالها ومنهجها النقدى، وعلى الرغم من الشهادات التى تظل ودودة ودافئة عن الكاتبة فى خاتمة الكتاب، فإن الكتاب يظل مفتقدًا لكثير من حرارة السيرة الذاتية وخصوصيتها السردية، كما أن سعيه للإحاطة بكل شىء انتهى بتقديم شذرات تظل محدودة أمام زخم حياة أمينة رشيد ومسيرتها الفكريّة. 

يقرر الكاتب خالد منصور حين يتعامل مع الحوارات التى أجراها مع الكاتبة والقانونية والمحللة النفسية عفاف محفوظ، التى توفيت منذ أيام، أن يتوارى ليترك لها الفرصة كاملة كى تروى سيرتها بلسانها، فيكتب عن حياتها بضمير المتكلم فيما هو قابع بالظل، لا وجود له سوى بتعليق أخير يسرد من خلاله بداية فكرة الكتابة عن عفاف محفوظ.

فى كتاب «من الخوف إلى الحرية: رحلة امرأة مصرية من الصعيد إلى ما وراء المحيط» تجربة لافتة فى كتابة السيرة الغيرية؛ فهنا يقتصر دور الكاتب على التحرير بما يحافظ على انسيابية التداعى الحُر الذى أجادته صاحبة السيرة وبما يمنح توازنًا فى الكتابة السيرية لا يطغى فيها الجانب العام على الخاص.

يمنح الكاتب هنا للسيرة حسًا روائيًا باختياره البداية من الذروة؛ إذ تبدأ السيرة مع لحظات انتظار الكاتبة لموت وشيك بعد صدور حكم الطبيب، تلك التى ولّدت بداخلها سؤالًا: ماذا أفعل كى لا يضيع منى الوقت الذى أعيشه الآن دون اختناق؟ من لحظات اللاجدوى الخانقة تتداعى الذكريات وتعاود الكاتبة، فى الثمانين من عمرها آنذاك، استدعاء حياتها بكل آلامها وإخفاقاتها ومسرّاتها. 

يروى منصور سيرة عفاف محفوظ بضمير المتكلم، ما يجعل القارئ فى تماس مباشر مع حياة الكاتبة ومنعطفات تلك الحياة دون وسيط، فيتعرف على سيرتها منذ مولدها بأواخر الثلاثينيات من القرن الماضى فى محافظة المنيا بصعيد مصر، وحتى تقاعدها فى العقد الثانى من هذا القرن بولاية فلوريدا فى الولايات المتحدة. 

تشرع «محفوظ» فى المكاشفة والتعرية لكل ما تلتقطه ذاكرتها بدون تجميل لأحداث أو أفراد، بدءًا من أفراد أسرتها وعائلتها، مرورًا بزوجيها، ووصولًا إلى المثقفين الذين عاصرتهم، سواء فى مصر أو فرنسا، وهو ما يجعل تلك السيرة تتجاوز إطار البوح الذاتى إلى المكاشفة عن أوجه العلل الثقافية والاجتماعية التى سادت على مدار العقود، بما يمكن اعتباره بانوراما لفترة امتدت منذ الأربعينيات وحتى بدايات القرن الحالى. 

تروى محفوظ مسيرتها الخاصة فى التخلص من ذلك الخوف الذى عاشته بسبب طفولة صارمة بصعيد مصر، وسعيها الحميم لنيل حريتها المُكبّلة بسبب التقاليد ومحاذير الأسرة اللتين فرضتا عليها رقابة ذاتية؛ «أعتقد أن تلك القيم التى تزرع فى وقت مبكر تصبح مثل الحرس الداخلى الصارم»، فلا تتوانى عن رصد التناقضات التى تحكم النظرة إلى الأنثى بالمجتمعات العربية حتى من قبل النساء أنفسهن. 

تُساءل «محفوظ» فى هذا الصدد الاعتقاد باكتساح الرغبة الجنسية لكل الضوابط فى المجتمع المصرى، وسلوكيات النفاق والازدواجية لدى الرجال والنساء حينما يتعلق الأمر بجسد المرأة، لا سيما فى السبعينيات من القرن الماضى، تلك الفترة التى شهدت ترسّخًا لأنماط من التدين الشكلى لتحجب القيم الأصيلة. 

نظرًا لما تمتلكه الكاتبة من وعى ثاقب بأناها، والدوافع التى أسهمت فى تشكلها، والعثرات التى قادت إلى تبلورها جراء إجادتها البالغة لدروس علم النفس، وممارستها للتحليل النفسى، فإنها لا تسرد الحدث فقط، وإنما تموضعه فى إطاره النفسى، ما يجعلها تعبّر عن مشاعرها المزدوجة تجاه المُقربين بسلاسة واعية.

من هنا تبدأ بذاتها فيما يشبه الاعتراف قائلة: «تسرّب بعض من هذه الرقابة الصارمة إلى داخلى لا شك. كنت مقموعة للغاية، وألجأ إلى آليات لا واعية من أجل أن أستمر فى العيش دون مواجهة أى مخاطر، أو عقاب من جانب أسرتى، أو المجتمع، أو المبادئ التى استنبطتها أنا ذاتى، بِتُّ مع الوقت أعانى كبتًا شديدًا صرت معه عديمة الرغبة الجنسية تقريبًا».

ومن الذات نحو الآخر تُدرك الأبعاد الخفية المحركة لسلوك الآخرين ولشعورها نحوهم؛ فتعبر بصراحة عن جفاف علاقتها بأمها بسبب رقابتها وصرامتها الشديدة، وأنها أدركت كم «كانت العلاقة معقدة للغاية يمتزج فيها الدعم بالتمييز الواضح بينها وبين إخوانها الذكور». كما تعبر عن تفهمها أبعاد ذكاء الزوج الأول وعقليته النقدية، فى الوقت الذى تعاين فيه شخصيته الطفولية التى ما فتئت توجّه أفعاله بدون وعى. 

إن السيرة التى كتبها منصور عن عفاف محفوظ تبقى من السير الغيرية النادرة فى حميميتها وصراحتها، رغم أننا نقرأها عبر مرآة كاتبها، وربما كان لوعى «محفوظ» بمنغلقاتها النفسية دور فى إضفاء الحيوية على السرد.

ومع ذلك، فلا يمكننا القول إن الصور المنعكسة عبر المرآة تطابق الأصل تمامًا. ستظل مساحات التداعى الحرّ عبر الكتابة ساحة أكثر رحابة يمكن للكاتب من خلالها أن يتوقف أمام ملمح طفيف فيُعظمه، أو حدث مؤلم فيمارس مجددًا الانهيار بسببه.