رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ردًا على حديث المخرج خالد يوسف عن الحملة الفرنسية

«1»

كما ذكرتُ فى مقال سابق أن برنامج «الشاهد» خطوة مهمة وضرورية فى طريق توثيق تاريخ مصر المعاصر، وتحديدًا ما حدث فى مصر منذ 25يناير 2011م وحتى الآن. وكل مَن كان يتابع الشأن المصرى العام قبيل 25 يناير يدرك جيدًا الدور الذى قام بعض أفراد النخبة المصرية الفكرية والفنية والسياسية سواء قبل أو بعد هذا التاريخ المفصلى الحاسم. وخالد يوسف، تتفق أو تختلف موضوعيًا مع ما كان يقدمه من أعمال فنية، هو أحد المخرجين المصريين المتميزين ويُعد رقمًا مهمًا فى قوة مصر الناعمة، كما تميزت أعماله بشخصية صاحبها وثقافته. وكمشاهد مصرى عادى أعشق الأعمال الدرامية والسينمائية المصرية، أعتقد أن أعمال خالد يوسف مميزة وليست من نوعية الأعمال التى يكتفى أحدنا بمشاهدتها مرة واحدة.
تنبأ فى بعض أعماله بمشاهد حدثت لاحقًا فى مصر بشكل يكاد يكون مطابقًا. لذلك كانت أهمية تسجيل شهادته عن كواليس بعض المشاهد التى لم نكن نعرفها، ومنها مثلًا كواليس قيامه بتصوير فعاليات ثورة يونيو بالتنسيق مع القوات المسلحة، وكيف كانت جماعة الإخوان الإرهابية تعد مسبقًا، وحتى قبل قيامه بالتصوير، خطة إعلامية لتشويه ثورة يونيو قائمة على ترويج مصطلح «ثورة الفوتو شوب»، كشف خالد يوسف ذلك فى شهادته بإلقاء الضوء على مداخلة أحد أعضاء الجماعة واستباقه لاتهام ثورة المصريين ضد حكم الجماعة بأنها ثورة فوتو شوب من صناعة مخرج معروف بتوجهه قاصدًا خالد يوسف.
لدىّ وبشكل شخصى شهادة من أحد طليعة شباب يناير، ناشر شاب، كنت أتواصل معه، لنشر إحدى رواياتى انتظارًا لمعرض القاهرة للكتاب، بدءًا من مساء 26 يناير وحتى يوم تنحى مبارك، يمكننى القول إن ما ذكره خالد يوسف يتطابق تقريبًا مع ما كنت أعرفه مباشرة عن طريق هذا الصديق.

«2»
لذلك فمقالى هذا لا يقترب من شهادته أو يقيمها، كما أننى لست نقادًَا فنيًا حتى أتناول أعماله بالنقد أو التقييم الفنى، لكننى توقفت كثيرًا عند ما ذكره، على سبيل الاستدراك لا الشهادة، حول الحملة الفرنسية أو الاحتلال الفرنسى لمصر، فللمبدعين حق مطلق فى إبداع أعمال تاريخية فى سياق درامى ولا يحق لأحد مصادرة هذا الحق حتى لو قدم عملًا خياليًا تمامًا بشرط إعلام المشاهدين بهذه المعلومة، كما أن مجموع تلك الأعمال يشكل مصدرًا مهمًا لتشكيل وعى أى أمة، خاصة إن كانت قطاعات كبيرة من هذه الأمة تهوى الأعمال الدرامية، ويقابل هذا الحق حق آخر لقارئى تاريخ مصر، بل لكل المصريين، لأن تاريخ مصر ملك لجميع المصريين. وهذا الحق هو حق الرد على ما يتم استحضاره من معلومات تاريخية يتم بناءً عليها تشكيل وتقديم أفكار معينة قد تؤدى إلى عكس ما ينشده صاحبه.
خالد يوسف مهتم بفكرة الهوية المصرية الوطنية. لذلك فالغاية واحدة ونتفق عليها وتتبناها الجمهورية الجديدة واتخذت فى سبيل إحيائها وتنشيطها وصيانتها كثيرًا من الخطوات. لكن ما ذكره عن تلك الهوية وعلاقتها بأحداث السنوات الثلاث التى استغرقها الاحتلال الفرنسى لمصر يحتاج إلى مراجعة معلوماتية شاملة لخطورته وتضاده مع كثير من صفحات تاريخ المصريين السابقة للحملة، بل مع ما تم توثيقه من تاريخ السنوات الثلاث للحملة ذاتها.

قال خالد يوسف نصًا: «أنا كنت بسأل ليه الاحتلال الفرنسى قعد تلت سنين بس مش زى باقى الاحتلالات.. لأن المصريين استشعروا إنه احتلال يستهدف الهوية المصرية الوطنية كانوا عايزين يخلو مصر حتة من فرنسا.. بالظبط زى الإخوان ما كانوا عايزين يعملوا فى مصر باستهداف الهوية الوطنية»، ومما قاله ردًا على انتقاد البعض لأحد أعماله: «أنا رجعت للجبرتى ووصف مصر..».
حين نفكك هذه العبارات تكون المعلومات التى تحتويها كالآتى:
المصريون قاوموا الاحتلال الفرنسى لاستشعارهم استهداف الغزاة الفرنسيين للهوية المصرية الوطنية.
خرج الاحتلال الفرنسى بعد ثلاث سنوات ولم يستمر مثل باقى الاحتلالات بسبب ثورات المصريين دفاعًا عن هويتهم.
أن الفرنسيين كانوا يستهدفون الهوية المصرية الوطنية مثلما كانت تريد الجماعة الإرهابية.
أن خالد يوسف قد رجع لأهم مصدرين تاريخيين، «كتاب الجبرتى، وموسوعة وصف مصر».
مع كامل اتفاقى معه فى الغاية، الدفاع عن الهوية المصرية، إلا أننى أرى أن ما سبق لا يتسق مع صحيح التاريخ من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تقديمه كحقائق تاريخية لا يصب فى صالح الغاية التى نتفق عليها.

«3»
قبل الخوض فيما ذكره كحقائق تاريخية، أود الإشارة لاعتقادى أنه قد اطلع بالفعل على هذين المصدرين التاريخيين، لكننى أعتقد أنه لم يقرأ هذين العملين الجليلين قراءة كاملة، لأن ما ذكره لا يمكن إطلاقًا أن يكون نتيجة منطقية يخرج بها ذو عقل نشط مثقف مثل خالد يوسف منهما لو أنه قرأهما بشكل كامل. 
وأستهل ردى بهذه التساؤلات المستوحاة مما ذكره.. هل مدة بقاء المحتل فى مصر هى الفيصل فى مقاومة أو عدم مقاومة المصريين؟! وهل بقاء احتلال لمدة عقود أو قرون يعنى أنه قد صان الهوية الوطنية المصرية وأن المصريين كانوا راضين بهذا الاحتلال؟! وهل مقاومة المصريين الحملة الفرنسية كانت سبب خروجهم من مصر؟! بل هل قاوم المصريون الاحتلال الفرنسى بالفعل، أم أن حديث الجبرتى كان صائبًا فى وصف ما نطلق عليه ثورة القاهرة أنها كانت فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء أو فجرة أقوياء؟! وهل كانت الهوية الوطنية فى ذروة حيويتها أثناء الاحتلال الفرنسى فطردته، أم أنها كانت فى ذروتها مثلًا فى ثورة 1919م ومع ذلك بقى الاحتلال الإنجليزى؟! والسؤال الأهم: هل استهدف الفرنسيون الهوية المصرية الوطنية؟!

«4»
حين نقول إن المصريين قاوموا الفرنسيين لأسباب وطنية ونجحوا فى طردهم بعد ثلاث سنوات، فنحن بطريقة أخرى ندين المصريين لأنهم، طبقًا لنفس الرؤية، رضوا بالرضوخ لمحتلين آخرين قرونًا طويلة. 
قولًا واحدًا.. فترة بقاء أى محتل فى مصر ومنذ سقوط الدولة الحديثة فى نهايات القرن الحادى عشر قبل الميلاد وحتى 1952م كان يحددها عاملان لا ثالث لهما، الأول وجود قوى أخرى غير مصرية مسلحة طامعة فى مصر سواء داخل مصر أو خارجها، والعامل الآخر عوامل تخص دولة المنشأ التى ينتمى إليها الغزاة فى كل مرة، لأن المصريين، وبكل بساطة، فقدوا قوتهم العسكرية بعد انهيار الدولة الحديثة، وسقط أواخر ملوك تلك الدولة فى خطيئة كبرى ببدء الاعتماد على المرتزقة حتى تحوّل الجيش المصرى إلى جيش من المرتزقة، ففقدت مصر استقلالها ومقدرتها على طرد أى محتل وتعاقب عليها الغزاة.
مقاومة المصريين كل المحتلين لم تتوقف عبر العصور، لكنها لم تكن من القوة المسلحة التى يمكن للمصريين من خلالها طرد المحتل، وأن أعنف مقاومة سجلها التاريخ وعلى خلفية وطنية خالصة كانت ضد الاحتلال الفارسى أواخر القرن السادس قبل الميلاد.
هناك محتلون آخرون لم يبقوا فى مصر طويلًا لأسباب تخص دولهم الأصلية مثل الآشوريين الذين استولوا على مصر بعد طرد الكوشيين، واكتفوا بأن يحكم مصر ولاة محليون يدفعون الجزية للآشوريين.
فى حالة الاحتلال الفرنسى، فإن سبب خروجهم من مصر كان هزيمتهم من غريمهم الاستعمارى التقليدى، الإنجليز، وتدمير أسطولهم، ثم الأحداث والصراعات المحلية فى فرنسا وإدراك نابليون فشله فى مشروعه فى مصر، وأيضًا وجود قوى مناهضة لهم، عثمانيين ومماليك، طامعين فى استرداد مصر والعودة لاستغلالها اقتصاديًا.

«5»
الأهم أن نخبة المصريين من علماء وتجار وأعيان وأثرياء، وكما هو ثابت فى يوميات الجبرتى، هربوا من القاهرة وتركوا باقى الجموع الفقيرة بها قبل أن يدخلها الفرنسيون، ثم تعايش المصريون مع المحتلين تعايشًا تامًا ومسالمًا لمدة تربو على شهرين ونصف الشهر، منذ دخول بونابرت القاهرة، وحتى اندلاع ما نسميه ثورة القاهرة الأولى، وهذه الفترة، شهرين ونصف الشهر، يتعمد البعض إسقاطها رغم أهميتها فى فهم سلوك المصريين وطريقة تفكيرهم وتعاملهم مع الفرنسيين، فى تلك الفترة أظهر الفرنسيون توددًا للمصريين وشاركوهم فى احتفالاتهم الدينية، وحدث تقارب بين علماء الأزهر وتكون المجلس المعروف وسارت الحياة بشكل طبيعى وكان يمكنها أن تستمر لولا قيام الفرنسيين بتسجيل الممتلكات العقارية ومحاولة فرض ضريبة عقارية فتفجرت ما أسماها الجبرتى الفوضى ونسميها ثورة القاهرة الأولى.

«6»
لم يكن هناك أى صفحات فى تاريخ هذه العلاقة توحى بفكرة خوف المصريين على هويتهم الوطنية، لأن الواقع باختصار أن تلك الهوية كانت قد تعرضت بالفعل لمحاولات سحق متعمدة منذ الغزو العربى وحتى وقوع الحملة، وكان القول الفصل، حتى بعد اندلاع المواجهات بعد فرض الضريبة، للهوية الدينية، ويمكن للمخرج المتميز أن يراجع ما كتبه الجبرتى وما تعرض له أقباط مصر بعد أن حرض عليهم بعض العثمانيين والمماليك على مرأى ومسمع من علماء وقيادات شعبية، فأين تلك الوقائع التى توحى بوجود فكرة هوية وطنية فى عقول المصريين؟! كانت المصطلحات المستخدمة والتى سجلها الجبرتى «الفرنسيس الكفار» و«المسلمين» قاصدًا المماليك والعثمانيين والمسلمين المصريين، وفى عشرات الصفحات أضاف للكفار جميع المسيحيين من شوام ومصريين، وهل يقوم الثوار الوطنيون بعمليات نهب وسلب واعتداء على الممتلكات والأعراض وصلت لقطع رقاب صغيرات للاستيلاء على قطع الحلى؟! ولا يمكن القول إن هذا كان سلوك الطرف الثالث الخفى، لأن الذى سجله الجبرتى يخالف ذلك وبشكل صريح يدين جموع من نطلق عليهم الثوار بقيامهم بهذه الممارسات استجابة لنداءات صدرت من عثمانيين ذكرهم بالاسم وفى حضرة السيد عمر مكرم وغيره من العلماء والقيادات الشعبية.
الجبرتى نفسه لم يقترب من قريب أو بعيد من مصطلح «مصريين»، الهوية المصرية الوطنية التى يقصدها خالد يوسف كانت فى حالة موت حقيقى متعمد قامت به الأسر والدول الحاكمة المختلفة منذ أن استولى الجيش العربى على مصر عام 642م بقيادة عمرو بن العاص، وتم هذا بشكل ممنهج سجله التاريخ واتخذ شكل ممارسات محددة «ترانفسير بشرى قبلى، استبعاد متعمد للمصريين من الجيش وكل الكيانات المسلحة ومناصب الحكم والوظائف الكبرى، إهمال وتحريم كثير من الفنون والعلوم المصرية التى قامت عليها الحضارة وفرض علوم اللغة العربية والدين فقط حتى سقطت مصر فى التخلف والظلام». 
وصاحب الفضل فى إحياء هذه الهوية هو محمد على باشا رغم أنه غير مصرى، ورغم أنه فعل ذلك دون أن يقصد وفى إطار بناء مشروعه التحديثى فى مصر على نمط أوروبى، التعليم والتحديث وإعادة تجنيد المصريين وتحقيق الجيش المصرى انتصارات مهمة، وما تبعه من خطوات تحديث مصر أسهم فى إعادة إحياء الهوية المصرية حتى كانت تلك الهوية الوطنية فى ذروة توهجها أثناء حركات المقاومة المصرية ضد الاحتلال الانجليزى، وفى القلب منها ثورة 1919م وما شهدته من رفع راية الهوية الوطنية المصرية الصريحة.
لذلك، فمن الظلم البين لهذا الشعب أن نتهمه، ضمنًا، بالرضا باحتلال يعقبه احتلال، وأنه ثار فقط حين استشعر الخطورة على هويته الوطنية، فهذا الشعب قد أُرغِم على الرضوخ بعد نزع قوته العسكرية، لكنه لم يتوقف عن المقاومة حتى تم قهره بشكل متعمد وتمت محاولة قتل هويته بشكل عمدى تحت زعم الإخوة الدينية الإسلامية، ولم يكن ذلك إلا محاولة للقضاء على الروح المصرية وإجهاض أى محاولات مستقبلية قد يقوم بها المصريون للاستقلال بمصر التى اعتبرها العرب مصدرًا للذهب والعسل والطعام والحضارة. 
حتى الفترة المسيحية قام رجال الدين المسيحى بنفس الفعلة، وتم غرس فكرة الهوية الدينية قسرًا فى الجسد المصرى، ولم يستفق المصريون إلا بعد مجمع خلقدونيا منتصف القرن الخامس الميلادى فحاولوا استدراك ما فاتهم.
وفى تصديق هذه الرؤية التى ذكرها خالد يوسف تكمن خطورة أخرى وهى تبرئة، دون أن يقصدها، لمن حكموا مصر بعد احتلاها قبل الحملة الفرنسية، فمعنى استشعار المصريين الخطر على هويتهم من الاحتلال الفرنسى، أن من سبقهم لم يشكلوا أى خطورة على تلك الهوية.وهذا عارٍ تمامًا من الصحة التاريخية.

«7»
لكن، هل استهدف الفرنسيون الهوية المصرية بالفعل؟ وهل ما ذكره خالد يوسف من مقارنة ما حدث فى مصر بما حدث فى دول أخرى بشمال إفريقيا من تحول سكانها للحديث باللغة الفرنسية يؤيد رؤيته؟ بمعنى هل لو بقى الفرنسيون فى مصر عدة عقود مثلًا كان المصريون سيتحدثون الفرنسية وينسلخون من لغتهم وشخصيتهم؟!
هناك مفاجأة فى بعض ما ذكره الجبرتى فى هذا الصدد من وقائع. هو كان يسجل الوقائع كيوميات كما حدثت بشكل وصفى سردى. ويمكن مطالعة نفس المفاجأة فيما أورده بعض جنود وقادة الحملة فى مصدر ثالث هو كتاب خطابات قادة الحملة.
تلك المفاجأة أن كثيرًا مما ورد على ألسنة قادة فرنسيين، مثل بونابرت ذاته، يؤكد إدراك الفرنسيين آنذاك قيمة الهوية المصرية أكثر من المصريين أنفسهم، لم يكن فقط إدراكًا، وإنما كان احترامًا كاملًا لتلك الهوية، وتحول إلى صدمة حقيقية عبّر عنها بعض الجنود والقادة حين رأوا أحوال المصريين وبعضهم قالها صراحة.. بعد أن رأى شوارع الإسكندرية وتردى أوضاع أهلها.. إن هذه البلاد لا تستحق سمعتها التليدة، وفى واقعة أخرى أراد بونابرت أن يتولى منصب القضاء مصرى، وعبّر عن اندهاشه من عدم تولى المصريين بعض هذه المناصب.
الكثيرون ربما لا يدركون أن أوروبا، وقبل اكتشاف حجر رشيد وقبل وجود علم المصريات، شهدت فى القرنين السابع عشر والثامن عشر نشاطًا غير مسبوق للرحالة إلى مصر فى محاولة لاستكشافها ومحاولة التعرف على تراثها الغامض، وبعضهم سجل ورسم وكتب كتبًا وصفية لما رأوه فى القاهرة والأقصر وباقى الصعيد، فلم تكن مصر القديمة أو حضارتها غائبة عن المشهد الأوربى، المصريون فقط لم يكونوا يدركون قيمة بلادهم آنذاك لما فُعِل بهم فى القرون السابقة، وهذا الإدراك الأوروبى كان فى ذروته فى فرنسا وهذا سبب من أسباب اصطحاب الحملة عددًا كبيرًا من علماء التاريخ والآثار وغيرهم، يؤسفنى القول إن المصريين آنذاك، وبسبب تراكم غرس فكرة الهوية الدينية بديلًا عن الهوية الوطنية قسرًا عنهم، قد أضاعوا فرصة حقيقية لإعادة هويتهم الوطنية وليس العكس، واقعتان تكشفان المأساة كاملة، الأولى قبل انفجار أحداث ثورة القاهرة الثانية، وحين اتفق الفرنسيون على الخروج من مصر ووقعوا اتفاقًا مع العثمانيين على ذلك مقابل أن يدفع العثمانيون تكلفة خروج الحملة. جمع العثمانيون من المصريين تكلفة خروج الحملة قهرًا، ثم وقعت أحداث جانبية دفعت الفرنسيين للعدول عن الاتفاق. انفجرت الاضطرابات ولم يخرجوا.. ولم يسترجع المصريون أموالهم، وبعد خروج الحملة بعدها باتفاق جديد، وقبل حتى إتمام عملية الجلاء هاجم العثمانيون المصريين لجمع أموال أخرى، وهذا لم يمنع المصريين من الاحتفال معهم بخروج الكفار وعودة البلاد لسلطان المسلمين.
لم يستهدف الفرنسيون هوية مصر، بل على العكس فقد حددوا وحتى قبل أن يدخلوا مصر أعداءهم بشكل واضح، المماليك، واتهموهم بما أكد بعضه الجبرتى ولم ينكره، ولم يكن ما حدده الفرنسيون من احترامهم للمصريين وانحسار عدائهم فى طائفة المماليك مجرد حديث عابر، إنما حاولوا تحقيقه على الأرض وحاولوا تحديث مصر، فكرة الخوف من فرنسة مصر بصراحة فكرة غريبة جدًا. هل مقصود بها مثلًا أن يتم فرض التحدث باللغة الفرنسية، أم نقل مصر من دولة من دول العصور الوسطى إلى دولة حديثة؟! كل ذلك حدث بالفعل بعد ذلك. قام محمد على بما أراده الفرنسيون، والفارق فقط فى ديانته وديانتهم، فلا محمد على ولا بونابرت مصريون، وكلاهما دخل مصر كمحتل.
واختار مثقفو مصر بعد ذلك بعقود اللغة الفرنسية لغة للثقافة والتعليم ولم يختاروا لغة المحتل الإنجليزى، وقبلها توجه محمد على إلى فرنسا أكثر ببعثاته وأتى بفرنسيين قاموا معه بتحقيق مشروع تحديث مصر، وهو ما كان يمكنه أن يحدث قبل ذلك وهم فى مصر.
التطور الطبيعى، إن استمر الاحتلال الفرنسى لعدة سنوات أو عقود، أن يتم تحديث مصر ثم تبدأ حركة التحرر الوطنى الصريح ضد الاحتلال، ما حدث هو أنه تم تأجيل الخطوات بسبب هزيمة الفرنسيين وتدمير أسطولهم ثم أحداث فرنسا الداخلية، وقام محمد على بأولى الخطوات، ثم توالت الخطوات حتى وصلت مصر إلى مرحلة الدولة العصرية وكان منطقيًا ساعتها أن تكون هناك الثورات ثم التحرر، وهذا ما حدث فى دول شمال إفريقيا، تم تحديثها ثم قامت الشعوب بتحرير أنفسها. 
إننى شخصيًا كنت أتمنى لو تم استبدال الاحتلال العثمانى والمملوكى بعد دخول بونابرت لمصر بالاحتلال الفرنسى لعقد أو عقدين من الزمن يتم خلالها تحرير مصر من ظلام العصور الوسطى وأن تنتقل إلى مصر العلوم الحديثة وأن ينهل المصريون من تلك العلوم والحضارة، ثم تكون الخطوة التالية بالتحرر، العثمانيون والمماليك كانوا محتلين، والفرنسيون كانوا محتلين، لكن العثمانيين سرقوا حضارة وثروات مصر وصنّاعها وحرفييها، واستعبدوا مع المماليك المصريين وألقوا بمصر فى غياهب الإظلام الحضارى، بينما جاء المحتل الفرنسى مصطحبًا معه علماءً وعلومًا حديثة، بالنسبة لى هذا هو الفارق بين النوعين من الاحتلال، أضف إلى ذلك عداء المحتلين المسلمين الصريحة لأى هوية محلية وطنية، لأن معنى وجودها ينفى شرعية وجودهم المدعاة، بينما احترم كان من الممكن أن يقوم الفرنسيون بنقل مصر إلى عتبات الحضارة الحديثة ثم يبدأ المصريون خطوات تحررهم.

«8»
أعود لآخر ما توقفت أمامه فى حديث خالد يوسف وهو مقارنته الاحتلال الفرنسى بالاحتلال الإخوانى لمصر فى الهدف والغاية، إننى بناء على ما وضحته فى الفقرات السابقة أعتقد أن هذه مقارنة جانبها الصواب، أتفق أن كلًا منهما محتل، لكن أختلف فى تقدير خطورة كليهما المحتملة على وجهة مصر المحتملة مع كل منهما. الاحتلال الفرنسى هو احتلال صريح قادم من دولة أخرى له أهداف ومشروع خاص بقائد معين وفترة تاريخية معينة. مهما استمر فى مصر سيكون قوة احتلال، وسيقاومها المصريون بعد أن يجتازوا فترة النضج الواجبة. لكن جماعة الإخوان الإرهابية كانت، وما زالت، تريد تغيير السوفت وير المصرى وقد استجابت بالفعل لذلك قطاعات من المصريين اتكاءً على أفكار دينية. الفرنسيون كانوا مبهورين بالهوية المصرية الحقيقية واتخذوا من الخطوات الاستعدادية قبل حضورهم ما كان يخبر صراحة عزمهم على بعث هذه الهوية حتى لو كانوا يخططون للاستفادة من هذا البعث، لكن جماعة الإخوان كانت تريد طمس هوية مصر.

«9»
فى نهاية حديثى أؤكد أننى اتفق مع غاية خالد يوسف وهى الهوية المصرية والدفاع عنها وانتقاء ما يلزم لذلك من صفحات التاريخ، لكننى رأيت أنه، ومن تمام الوصول لهذه الغاية، أن أقدم هذا التوضيح لما ذكره فيما يخص صفحات من تاريخ مصر الحقيقى، بما يدفع عن هذا الشعب ما قد يُفهم ضمنا مما ذكره المخرج المتميز.

فى النهاية أذكر ببعض النقاط التى قمت بتوضيحها..
بعض المحتلين خرجوا من مصر بعد فترات قصيرة لأسباب مختلفة.
فترة بقاء المحتل فى مصر لا تحدد مقاومة أو رضوخ المصريين لهذا المحتل أو ذاك.
بقاء المحتلين توقف على أسباب كثيرة، أهمها لم يكن بسبب مقاومة المصريين أو سكونهم.
بقاء المحتلين طويلًا سببه أخطاء ارتكبها حكام مصر فى نهايات العصر القديم.
فقد مصر وتفريطها فى قوتها الصلبة كان السبب المباشر لاحتلالها قرونًا طويلة.
لم تكن الهوية الوطنية حاضرة عند وقوع الاحتلال الفرنسى لمصر.
تمت محاولات متعمدة لسحق هوية مصر الوطنية منذ غزو العرب لمصر.
لم يستهدف الفرنسيون هوية مصر الوطنية.
وثقت المصادر إدراك الفرنسيين هوية مصر وتقديرهم لها أكثر من المصريين ذاتهم.
محمد على هو من أعاد إحياء الهوية المصرية الوطنية التى بلغت ذروتها فى 1919م.
ماذا لو استمر الاحتلال الفرنسى لمصر فترات أطول.
مقارنة الاحتلال الفرنسى بالاحتلال الإخوانى لمصر جانبها الصواب وغير عادلة للجانب الفرنسى.