رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السوفييت.. ونكسة 1967

تحل الشهر القادم الذكرى السادسة والخمسون لحرب يونيو 1967، وهى الحرب التى دخلتها مصر بدون سابق أنذار، والتى لم نعرف حتى الآن الأسباب الحقيقية التى أجبرت الجمهورية العربية المتحدة وقتها إلى إشعار الموقف فى منطقة الشرق الأوسط، والظهور بمظهر الدفاع عن سوريا.
وربما كانت مناسبة أيضًا للرئيس جمال عبدالناصر ليظهر زعامته للعالم العربى، وليبرهن على قيمة اتفاق الدفاع المشترك مع سوريا الذى وقع فى نوفمبر1966، وخلال هذه المرحلة، حذر السوفييت السوريين فى مناسبتين على الأقل، وأخبروهم بأن السوفييت لا يريدون أن يخرج الوضع عن السيطرة، ولكن رغبة السوفييت فى الإفادة من التوتر المهيمن لكى يزيدوا نفوذهم على حساب الولايات المتحدة، منعتهم من اتخاذ أى موقف قوى مع السوريين.
كما تعرض الرئيس جمال عبدالناضر للسخرية من جانب الملك حسين بعد مهاجمة إسرائيل قرية السموع الأردنية فى نوفمبر عام 1966.
بدأت الأزمة فى خطاب ألقاه الرئيس جمال عبدالناصر يوم 2 مايو 1967، هاجم فيه الإمبريالية المتمثلة فى الولايات المتحدة وبريطانيا بعبارات ولهجة عنيفة غير معهودة. وفى 12 مايو حذر رئيس الوزراء الإسرائيلى، ليفى اشكول، فى تصريح حاد النبرة، من أن سوريا ستواجه إجراءات مضادة صارمة، وستجابه تبعات خطيرة، إن هى لم توقف الغارات الإرهابية التى تشن على إسرائيل، من أراضيها، وانتشرت بعدها إشاعات فى المنطقة مفادها أن إسرائيل كانت تحشد قواتها على الحدود السورية، وتتخذ استحكامات على الجبهة، وتتأهب لشن هجوم على سوريا، ولم يكن التقرير صحيحًا، وفى الحقيقة لم تعزز إسرائيل حدودها، ولم تستدع قوات الاحتياط لديها، إلا بعد أن بدأت الجمهورية العربية المتحدة تستنفر قواتها وتعززها، وترفع درجة تأهبها العسكرى. ولم يتضح مصدر التقرير، ويبدو أنه لم يأت من قِبَل السوريين أو المصريين، إذ كان السوفييت هم من مدوا كليهما بالمعلومات، ومن الممكن أن يكون الإسرائيليون أنفسهم هم من بثوا هذه الإشاعات، على أمل أن يستحثوا السوفييت بذلك، ليقنعوا السوريين بوقف عملياتهم الاستفزازية.
على أية حال، لم يكن يبدو أن السوفييت مهتمون بوجه خاص بالتثبت من صحة التقرير، وكانوا قد أطلقوا مزاعم مماثلة لا أساس لها، فى أكتوبر من عام 1966، وفى فبراير من عام 1967، وكانوا هم الناشر الرئيسى لهذا التقرير.
وفى خطاب له يوم 22 مايو أعلن جمال عبدالناصر: إن هناك معلومات دقيقة يوم 13 مايو بأن إسرائيل كانت تحشد وتركز قواتها على الحدود السورية بأعداد ضخمة.. والقرار الذى اتخذته إسرائيل فى هذه الآونة هو شن عدوان على سوريا بتاريخ 17 مايو.
وفى خطابات ألقاها فى 9 يونيو و23 يوليو استشهد جمال عبدالناصر بالسوفييت بصفتهم مصدر هذه المعلومات الدقيقة، وزعم أن المعلومات نقلت إلى وفد برلمانى مصرى زار موسكو فى مايو.
فى 13 مايو أرسلت رسالة إلى القاهرة عبر القنوات المصرية من موسكو، وبينت الرسالة أن وكيل وزارة الخارجية السوفييتية سيمينوف أخبر المصريين أن إسرائيل كانت تعد لهجوم برى وجوى على سوريا، وأن خطة الهجوم ستنفذ فى الفترة ما بين 17 و21 مايو، كما بينت أن السوفييت نصحوا الجمهورية العربية المتحدة بأن تتأهب، وأن تحتفظ بهدوئها، وألاَّ تنجر إلى حرب مع إسرائيل. كذلك نصحوا السوريين بأن يبقوا هادئين ولا يمكنوا إسرائيل من القيام بعمليات عسكرية، وقالت الرسالة أيضًا إن الاتحاد السوفييتى كان يحبذ إبلاغ مجلس الأمن قبل أن تقوم إسرائيل بعمل عسكرى ضد سوريا، وحسب الرسالة فإن هذه المعلومات أعطيت لأنور السادات، رئيس الوفد المصرى الذى زار موسكو آنذاك، وهذه المعلومات التى تم التقاطها، تؤكد مصداقية تصريح ناصر بأن السوفييت مرروا المعلومات إلى الجمهورية العربية المتحدة، وتضيف حقيقة أخرى هى أن السوفييت حثوا المصريين فى الوقت ذاته على أخذ الحيطة وتوخى الحذر، وأخذ العرب المعلومة لكنهم لم يعملوا بالنصيحة.
وقام وزير الخارجية السوفييتى جروميكو بإبلاغ كل السفراء العرب المعتمدين لدى موسكو، فى الفترة من 15 إلى 19 مايو بأن ثمة هجومًا وشيكًا على سوريا تعد له إسرائيل، وعرض تقديم أى عون مطلوب، بما فيه المساعدات العسكرية وأكد أن مثل هذه التأكيدات أعطيت فى موسكو من قبل مسئول سوفييتى على أرفع مستوى، إلا أنه من المستبعد جدًا أن يكون مثل هذا التطمين الشامل قد أعطى أصلًا. وتكرر التطرق لاحقًا إلى التقرير عن خطط إسرائيل المزعومة لشن هجوم، خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولى بتاريخ 29 مايو، على لسان سفير الجمهورية العربية المتحدة عوض القونى، ومن ثم ردد صدى هذا الحديث السفير السوفييتى فيدورينكو، الذى قال إن بحوزة العرب معلومات دقيقة عن حشد مكثف للقوات الإسرائيلية، وعن نية إسرائيل للقيام بهجوم بتاريخ 17 مايو.
ولم تتضح حتى الآن الدوافع السوفييتية وراء نشر تقرير غير موثق، وأسانيده واهية، وحججه متداعية، على الرغم من خطورته، وعلى الرغم من الاحتمالات الكبيرة بأن تفجر مثل هذه المعلومات الأوضاع، فحتى لو أن السوفييت عرفوا أن وقائع القصة التى طرحت للتداول لم تكن صحيحة، فلربما خشى المسئولون السوفييت من رجحان كفة احتمال أن تقوم إسرائيل، نتيجة لخطاب اشكول، بهجوم انتقامى ما، ضد سوريا فى برهة قريبة، فإذا كان الأمر كذلك، فلربما كانوا يأملون فى دفع الجمهورية العربية المتحدة نحو التزام صارم وصريح بأن تهب لمساعدة سوريا، على أساس أن مثل هذا الالتزام، حسبما ارتأوا وفكروا، يمكن أن يردع إسرائيل عن شن المزيد من الغارات، ومن المحتمل أيضًا أن السوفييت كانوا يأملون بتخويف السوريين كى يعدلوا من سياساتهم، وذلك بإقناعهم بأنهم إذا لم يبادروا إلى اتخاذ هذه الخطوة فسوف يواجهون هجومًا إسرائيليًا.