رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النيل الآمن من الرمال المتحركة

حين تنظر حولك فقد يدور رأسك وتزلزل الأرضُ من تحت قدميك، وأنت لا تدرى كيف غاصت كل هذه البلاد فى رمال متحركة وغرقت فى أوحال من الدماء والطين، وقد كان شبابها يفيض فى الميادين بآمال نحو التغيير وسعى إلى التقدم، وأحلام عريضة عن مستقبل باهر.

ولعلك لا تزال تسأل نفسك، وأنت تنظر إلى الوراء لأكثر من عقد فى هذا الزمان، عما حدث، ولماذا تبخرت الأحلام أو بالأحرى هل كانت أحلامًا حقًا، أم مجرد «أضغاث» لا ترتبط بالواقع أو الحقائق، ومن ثم بُددت قبل أن تتبلور؟. 

وحتى لا تضيع الصورة من أمامك وتختلط الذكرى بالدخان، أعود معك إلى عام ٢٠١٢.. وإلى «جبهة الإبداع المصرى» وهى جبهة تأسست بعد أن ظهر أن الجماعة الإرهابية بدأت فى محاولات لتغيير هوية المجتمع على «مقاسها الضيق»، وإخراس كل صوت عاقل بسيف الدين، الذى جعلته أيضًا على «مقاسها»، وأول ما يمكن فعله لهذا التغيير، أو قُل التدمير، مواجهة حرية الفكر والإبداع.

تأسست الجبهة فى فترة سيولة سياسية واستقطاب مجتمعى غاية فى الخطورة، وكان هدفها الحفاظ على حرية الإبداع والفنون فى مواجهة صعود تيار الإسلام السياسى فى البرلمان، وعقدت مؤتمرًا للإعلان عن أهدافها تلك فى نقابة الصحفيين، بحضور عدد كبير من الفنانين والكُتّاب والمثقفين.

وكان أول اعتراض إخوانى على «الجبهة» سريعًا للغاية، فقد كان أحد أقطاب الجماعة موجودًا فى المؤتمر، هو الشيخ جمال قطب، والذى اعترض على بيان الجبهة، وبدأ كلامه بالموافقة على حرية الفكر والتعبير، لكنه نسف هذه الموافقة فى كلامه التالى، وظهر جليًا أنه ضد هذه الحرية حين أبدى اعتراضه على فرض الآراء الفكرية والإبداعية على طلاب المدارس.

وأنت لا تدرى ما الذى يقصده بـ«الآراء»، وهل منها مثلًا المدارس والنظريات الفلسفية والشعر والقصة؟، لكن الرجل، على ما اتضح لاحقًا، كان يتحدث وفى عقله نموذج واحد يرفضه، ولا أقول يخشاه، إذ ضرب مثلًا على هذه «الآراء» بكتابات نصر حامد أبوزيد، «الذى حاول فرض أفكاره على طلابه فى التعليم الجامعى»، وقال أيضًا «أؤيد حرية التعبير والإبداع دون سقف فى المجتمع، ولكن لا بد من مراعاة سقف القيم والأخلاق المجتمعية، فالحرية مكفولة لأبعد الحدود، ولكن بعيدًا عن ميزانية الدولة»، وفق ما نقل عنه موقع «العربية نت».

ولعلك لاحظت هذا التناقض الجلى، فكيف تدعى أنك مع حرية التعبير، أو لنقُل الفكر، ثم تهدرها حين تمنع حرية البحث العلمى، ويصبح الرأى فى الجامعة «فرضًًا غير مقبول»، ثم تتحدث عن «سقف القيم»، الذى ليس سوى سيف آخر لقتل الأفكار والحريات، أما «الإبداع وميزانية الدولة» فلا تعنى سوى تخلى «دولة الإبداع» الكامل عن الإبداع.

كانت محاولات تغيير الهوية والتراث الحضارى تجرى فى كل مكان، رافقها استقطاب حاد، بين مجتمع راسخ وأصيل فى ثقافته الوطنية، وجماعة لها شريعتها الخاصة، والتى تضيق بمن يخالفها ولا تطيق من يرفض مبدأ «السمع والطاعة» لـ«الولى الفقيه»، وكان الصدام واقعًا بلا شك.

قررت جبهة «الإبداع المصرى» تقديم بيانها وتوصياتها إلى مجلس الشعب الإخوانى، فى أولى جلساته، وأعلنت عن تنظيم مسيرة من دار الأوبرا إلى مقر المجلس، وقد كنت مشاركًا فى هذه المسيرة وشاهدًا على ما حدث.

وأعلن مؤسسو الجبهة عن أنهم لا يقصدون، من جبهتهم، الدخول فى صدام مع التيار المتأسلم، بل الدفاع عن الإبداع بعد أن بدأ هذا التيار الحرب مبكرًا حين وصف أحدهم أدب الروائى العالمى نجيب محفوظ بأنه «أدب دعارة وفجور».

كانت مسيرة الأدباء والفنانين والكُتّاب سلمية، تحركت فى جو احتفالى حذر، فقد وصلت أخبار بأن الجماعة الإرهابية استعانت بمجموعة من شبابها بهدف التصدى للمسيرة ومنعها من الوصول إلى مجلس الشعب، وهى الميليشيات التى أطلق عليها «فرق الردع الإخوانية»، والتى حالت بالفعل دون وصول قيادات المسيرة إلى أسوار البرلمان لتسليم توصياتها، فوقعت الاشتباكات ووقع مصابون، وقد كانت تلك إرهاصة، أو قُل بروفة لما كانت تنتويه الجماعة الإرهابية من حرب أهلية.

دعت جبهة «الإبداع» إلى فتح تحقيق حول نشر فرق الردع الإخوانية أمام البرلمان، وما ترتب على ذلك من أعمال عنف، ووصفت الجبهة هذه الفرق بأنها «امتداد لصورة راسخة فى الأذهان عن آليات النظام السابق فى التعامل مع المتظاهرين»، على أن هذا الوصف يخالف الحقيقة تمامًا، بالنظر إلى ما رأيناه وعايشناه، لاحقًا، من الحشد الإخوانى فى مواجهة المخالفين، ومن تفجير وتدمير وقتل وعنف بعد ثورة ٣٠ يونيو، ومن ثَمّ لم تكن «فرق الردع» هذه سوى ميليشيا ضمن تنظيم إرهابى يرفع السلاح فى وجه الدولة، ويستعين بالخارج لاحتلال الوطن.

وحين تنظر حولك وترى تلك البلاد وهى فى متاهات النزال والشقاء، فلا تبخل على نفسك بنظرة إلى نهر النيل، وهو ينساب آمنًا ويتهادى فى وداعة.