رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حدث فى سبعينيات القرن الماضى

كانت نهاية السبعينيات فى مصر فترة عصيبة مرت بها، وتعد أخطر فترة تأثرت بها مصر خلال تاريخها كله. 
كانت مصر قد خرجت منتصرة من حرب أكتوبر 1973، وبدأت تبحث عن التنمية وتوفير الرخاء لأبنائها، ولكن الظروف المحيطة بها لم تساعدها. 
ففى تلك الفترة كانت المقاطعة العربية، والخصام مع الدول العربية التى لم تتقبل فكرة السلام المنفرد مع إسرائيل. وبات الحكومة المصرية تغازل المصريين بشعارات زائفة مثل الأمن الغذائى ومشروعات إنتاج مليون بيضة، وافتتاح مشروعات لتربية الدجاج وتسمين المواشى. وتوقفت عن استيراد الدجاج لتنمية الثروة الوطنية من الدجاج، فى الوقت الذى فتحت فيه السعودية أبوابها للمصريين للعمل هناك. 
لم يعلم المصريون أنهم فى تلك الفترة تعرضوا لأكبر حملة غسل مخ فى التاريخ. وعادوا من هناك يرتدون الملابس البيضاء وتزين وجوههم اللحى. وفى جيوبهم مسواك لنظافة الأسنان، وبدأ التجهم يظل على وجوههم.
فى تلك الفترة بدأ شباب الجماعات الإسلامية فى الظهور بالجلابيب البيضاء القصيرة واللحى، ينتشرون وسط الناس، ويتاجرون فى أشياء بسيطة، ويشتمون الحكومة ويلعنون الحكام الكسالى عن تطبيق الشريعة ‏الإسلامية، كان الناس ينظرون إليهم بانبهار، وهم يستعيدون شباب الاتحاد القومى وشباب منظمة الشباب الاشتراكى فى أيام عبدالناصر، ولكن هؤلاء الجدد يشتمون الحكومة. ‏
كان الناس ينظرون إليهم بحياد، وعندما قتلوا الرئيس السادات فى أكتوبر ١٩٨١ نظر الناس إليهم بإعجاب وترقب، بعد أن قتلوه راحوا يبشرون بمستقبل جديد، ودين جديد، لم يألفه الناس، أخرجوه ‏من بطون كتب ابن تيمية والمودودى وسيد قطب ومبادئ الوهابية فى المملكة العربية السعودية.‏ 
حرّموا تحية العلم المصرى فى المدارس، وحرّموا الموسيقى والغناء، ومنعوا الناس من زيارة المقابر، وهدموا أضرحة الأولياء، ومنعوا الشباب من الجلوس بجوار الفتيات فى مدرجات الجامعة. ‏وغطوا رءوس النسوة فى الشوارع وأماكن العمل والمدارس. وأخبروا الناس بأن الحجاب فريضة. والنقاب واجب، ساعدهم فى ذلك شيوخ الأزهر، وتركوا لهم المساجد يخطبون فيها، ويمارسون الدعوة بدلًا منهم. ‏
وبدأت موجة تكفير جديدة، شملت كل شىء، كفّروا المشايخ الكبار، وأطلقوا عليهم أوصافًا جديدة، «شيوخ السلطة، ومشايخ التليفزيون، ومشايخ السلطان». ثم تمادوا فى الأمر، وتوسعوا فى سب الدولة والتقليل من ‏شأنها. وكان الشعب صامتًا ويرى أنها مقدمات لنظام جديد وغامض.‏ 
كل هذا رآه الناس واندهشوا، وراقبوهم فى صمت. وكانت الدولة تقف من كل ما يحدث موقف المتفرج. ولم تقل للناس شيئًا. وكل ما فعلته أنها وصفت هؤلاء الشباب بأنهم إرهابيون. ومن آن ‏لآخر كانت تندد بتصرفاتهم فى أجهزة إعلامها دون خطوة عملية واحدة.‏
إلى أن حان الوقت. وظهرت البنادق الأوتوماتيكية سريعة الطلقات مرة أخرى فى أيدى الجماعات الإرهابية، وبدأت لعبة القتل الكبرى.‏ 
وشاهدنا جنازات رجال الدولة تتقدمها الوفود الرسمية، فى أول الأمر كانت مناظر الجنازات مؤثرة. ثم تلاشى تأثيرها مع كثرتها. وشرعوا فى اغتصاب سلطة الدولة شيئًا فشيئًا.‏ 
وفى ظل الحكام الجدد ظهر اقتصاديون جدد، يرتدون نفس ملابس الحكام الجدد، ولهم ذات اللحى، وبشروا باقتصاد إسلامى يقوم على التكافل والتراحم والزكاة، وظهر شيوخ أفتوا بتحريم بنوك ‏الدولة، وبشروا الناس باقتصاد خالٍ من الربا.‏ 
وعندما فطنت الدولة وتنبهت. كانت البنوك قد أُخليت تمامًا من العملات والعملاء، لذا تحركت الدولة بعنف، ودخل المودعون الصغار الذين أودعوا أموالهم فى شركات التوظيف فى مسلسل لم تنته حلقاته ‏حتى اليوم.‏ 
تركت الدولة رجال الشرطة وحدهم يقاومون ببنادقهم البسيطة، وأسلحتهم البدائية وتدريبهم المتواضع، دون تغطية فكرية وإعلامية وسياسية تبين للناس قدسية قتالهم ضد الإرهاب، كانت أساليب ‏الشرطة المستخدمة لمقاومة الإرهاب تصلح بمهارة مع اللصوص وقطاع الطرق فى الصعيد والأرياف. تعاملت الشرطة معهم بالأسلوب التقليدى، مخبر ومرشد يجمعان معلومات، قتلت الجماعات ‏المرشد والمخبر وأمين الشرطة والضابط، ووجدت الشرطة نفسها تتحرك عمياء دون دليل. ‏
وبدت الدولة وكأنها خالية من العلماء والمفكرين والمثقفين والراديكاليين والوطنيين والمخلصين لها. ‏
وفى تلك الفترة نشر الكاتب الراحل سعدالدين وهبة، مقالين متتاليين فى جريدة الأهرام «مارس ١٩٩٣» بعنوان: هل نحن جادون فى مكافحة الإرهاب؟، كان مضمون المقالين رسالة تلقاها ‏الكاتب، من ضابط يعمل فى الصعيد، حسبما ذكر سعدالدين وهبة، وكان الضابط يشكو قلة المعدات والسيارات المدرعة، فضلًا عن ذلك يشكو سوء أحوال زملائه الاجتماعية السيئة. ولكن أحدًا لم ‏يهتم. وتفاقم الأمر، وانتقلت أخبار الشهداء من الصفحات الأولى إلى صفحات الحوادث. وبدأت الدولة فى محاربة الإرهاب بسياسة الضجيج الإعلامى.