رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملحمة الإمام الشافعى

أشرف عبد الشافى
أشرف عبد الشافى

- الجرأة الكبيرة فى اختيار المصرية لهجة لأهل الفسطاط قمة الخيال الفنى

- المؤلف حرص على عدم تقديس صورة الإمام فهو يخطئ ويصيب

انتظرت حتى شاهدت «الإمام الشافعى» فوجدت عظمة مصرية خالصة ليس فى اللهجة التى استوقفت السادة النقاد الجدد، ولكن فى الليث بن سعد فقيه مصر الكبير الذى يبحث عنه الشافعى منذ وصوله الفسطاط، الكتب والمراجع تقول إن فقيه مصر كان أكثر حضورًا من الإمام مالك، وإن المذهب المنسوب إلى مالك كان الليث أولى به، لأنه الأكثر وسطية وفهمًا للسنة النبوية، لكنه مات قبل أن يتم تدوين مؤلفاته وظلت شفاهية يتناقلها أهل مصر والحجاز، لكنه ترك تلاميذ وتعلم أيضًا على أيدى أساتذة مصريين سعى الشافعى للبحث عنهم، ليؤكد للمسلمين الذين كانوا يقدسون الإمام مالك تقديسًا يفوق الخيال أن العلم بالحديث ليس مقصورًا عليه، فقد كان المسلمون فى الأندلس يتباركون بقلنسوة تركها الإمام مالك، وإذا قيل: قال رسول الله أجاب هؤلاء: قال مالك! ولهذا وغيره ألف الشافعى كتابه «خلاف مالك» الذى قال عنه أحمد الشرباصى إنه درس بليغ فى الاختلاف والنقد بين تلميذ وأستاذ، وهذا أحد تجليات العظمة فى الرؤية الفنية التى قدمها المسلسل، فقد حرص المؤلف محمد هشام عبية على عدم تقديس صورة الشافعى أيضًا فهو يخطئ ويصيب، كما أن المسائل الفقهية التى يطرحها ويثير حولها الخلاف تبدو اليوم لنا كأنها جاهلية أولى، فليس بين المسلمين اليوم من يرى فى جلد الماعز أو الجمل ما يمنع من صناعة حذاء وجاكت وشنطة، كما لم يعد بينهم من يحشر نفسه فى جدل حول صفات الله سبحانه وتعالى والفرق بين صفاته سبحانه وأسمائه، كل هذه المسائل وغيرها ملايين- وليس المئات- المسائل الفقهية لم يعد لها مكان، ويمكنك القياس بنفس قياس الشافعى الذى كان يرفض حديثًا ويقبل آخر بعد فحص وتقص للناقل والمنقول عنه، واللجوء إلى إعمال العقل حتى بعد صحة الحديث، فلم يكن الشافعى نفسه قديسًا أو معصومًا من الخطأ، فمثلما وقف فى وجه الحاكم فى مواقف كثيرة، فإنه أرخى الشعرة بينه وبين الحُكام فى مواقف أخرى، وقد أُخذ عليه قوله إن الإمامة فى قريش، وأفتى بأنها قد تكون بغير بيعة إذا تمت للضرورة، وقيل إنه حرّم الخروج ضد الحاكم، وإن كان كثير من مريديه دافعوا عن رؤيته تلك باتقاء الفتنة وتجنيب الأمة مخاطرها!

هذا خط مهم للغاية فى الدراما المصنوعة بهارمونى أو توازن كبير بين مساحات الخيال أو التخييل وبين التاريخى الموثق، فأنت أمام صورة كاملة لمصر فى عام «١٥٠ - ٢٠٤ للهجرة» وضف عليها ٦٠٠ سنة من حضارة الأقباط وأكثر من ثلاثة آلاف سنة من حضارة المصريين القدماء بعلومهم وأفكارهم، هذه المساحة الشاسعة من التاريخ والخيال يقوم فريق عمل باختصارها لك بكل جوانبها الحياتية والاجتماعية والسياسية، فلا يعقل أن تشاهد حلقة أو حلقتين لتقول رأيك وتبخس كل هؤلاء حقهم فى الجهد والتعب والبحث والتدقيق والمراجعة والتمحيص، فهم يعرفون أن آلافًا مثلك ينتظرون غلطة! ناهيك عن فريق ضخم فى تصميم الملابس واختيار ما يناسب الشخصيات من إكسسوارات، فقد عجبتُ لهؤلاء الذين ظنوا أنفسهم على معرفة بالشافعى وحياته ومؤلفاته أكثر من أصحاب العمل! فكيف لهؤلاء بهذا اليقين فيما يقولون وقد ظل الشافعى نفسه محل خلاف بين كبار العلماء والفقهاء، حتى إن بعضهم قال إن كتاب «الأم - وهو أعظم ما ينسب للشافعى» ليس من تأليفه، وقد نقل الأستاذ والعالم الجليل أحمد الشرباصى صاحب كتاب «الأئمة الأربعة الصادر عام ١٩٦٤» عن الإمام الغزالى القول بأن كتاب «الأم» للبويطى، حتى الفترة التى قضاها فى مصر وهل هى أربعة أعوام أم أكثر ظلت محل خلافات، لكن الأهم أنه عاش بأرض مصر بحضارتها واختلافها، وهذا هو المحور الفنى الكبير فى الحلقات، عاش الشافعى بموازاة نهر النيل العظيم الذى صنع كل المجد الإسلامى منذ الفتح، فقد فاض خير مصر ونيل مصر على الجزيرة العربية عاصمة الحكم التى كان يرسل إليها عمرو بن العاص ما يكفى لمؤنة جيوش عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن طالب ومعاوية بن أبى سفيان أيضًا.

وأظن أن الجرأة الكبيرة فى اختيار المصرية لهجة لأهل الفسطاط قمة الخيال الفنى، سواء جاء الباحثون بما يؤكد غير ذلك أو اتفقوا على ذلك، فقد أعطى ذلك طعمًا وروحًا وخفة ورومانسية لحكاية الإمام مع الفقه ومدارس الفقه، وأظن أيضًا أن رؤية المخرج الليث حجو مع المؤلف محمد هشام عبية من أنضج ما يمكن الوصول إليه لتقديم رؤية متحضرة وإنسانية «لا أحب كلمة تنوير» واسعة المدى ومن دون ضجيج أو إثارة للمسكوت عنه فى تاريخ الفقه، لكنها رؤية هادئة تريد أن تقول لك باختصار إن الكل يجتهد، وإن الوصاية على الدين ليست ملكًا لأحد حتى لو كان فقيهًا عليمًا، فهو مجتهد فى عصر يطرح مسائل فقهية تتناسب مع تفكير أهل ذلك العصر، وليست هناك حجة لأحد على عقل المسلم، وليس هناك ما هو مقدس ومعصوم من الخطأ حتى صاحب تلك السطور التى تقرأها كأنها يقين رغم أنها تحتمل الخطأ قبل الصواب.

ليست قصة حياة الشافعى ما يشغل مجموعة العمل، وليست الخلافات الفقهية أيضًا، ولكن صورة مصر فى ذلك الوقت ومدى اتساع صدر أهلها للعلم واحتمالهم للظلم والقهر، كل ذلك بصورة بصرية مبذول فيها جهد جبابرة لتبدو المشاهد كأنها لوحات للمستشرقين الذين رسموا مصر فترة الحملة الفرنسية، اختصارًا، تجربة الإمام الشافعى فى الدراما التى قدمها الليث حجو ومحمد هشام عبية وفريق الكتابة ستكون مدرسة فنية كبرى فى الدراما المصرية والعربية، ذلك لأسباب كثيرة جدًا أهمها وأبرزها فريق الكتابة، فلك أن تتخيل الجهد الذى بذله المؤلف مع المخرج فى تحقيق هذا الهارمونى الفنى بين أكثر من عشرين كاتبًا شاركوا فى رسم الشخصيات وتطويرها ورسم حوارها، وقد حرصت على معرفة كل فريق العمل وفاضت سعادتى كثيرًا وأنا أجد بينهم الكاتب المصرى الموهوب محمد الشماع الذى كان رابع المشاركين فى كتابة سيناريو وحوار الحلقات مع سالم عمر حجو والمى كفارنة وعلاء الحموى، وضم فريق الكتابة ثلاثة، هم: إسلام أدهم وكريم الدليل ودانة الحديدى، وشارك الثلاثة فى تطوير الشخصيات مع محمد يوسف ومصطفى سليمان وسارة حسن، كما أشرف على تطوير المعالجة مريم ناعوم وأحمد بدوى، وتولى علاء عزمى البحث التاريخى والمادة العلمية وهى مهمة غاية فى الصعوبة، كل الشكر لهؤلاء وللإمام الشافعى والليث بن سعد وكل غنوة مصرية شجية تعزف نشيدها للبقاء والخلود.