رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«جعفر العمدة».. جدلية الفن والواقع

دون أن أقصد وجدت نفسى طرفًا فى النقاش الدائر حول مسلسل «جعفر العمدة» الذى تحول إلى ظاهرة.. كتبت منشورًا حول إعجابى بالمسلسل فاندهش بعض الأصدقاء.. من وجهة نظر البعض فإن صفتى ككاتب يكتب فى قضايا جادة تحتم أن أرفض «جعفر العمدة» لأنه مسلسل شعبى.. من وجهة نظرى الخاصة أن الحكم على العمل يكون بمدى جودته وليس بالنوع الذى ينتمى إليه.. من الممكن مثلًا أن نقدم مسلسلًا تدور أحداثه فى دار الأوبرا لكنه مسلسل ممل ويفتقر للحبكة وفى هذه الحالة سيفشل رغم أنه يدور فى أوساط راقية ثقافيًا واجتماعيًا.. من حيث المبدأ أنا لا أعرف صناع العمل بشكل شخصى، وسبق لى انتقاد مواقف عامة للنجم محمد رمضان، لكن هذا لا ينفى اعترافى بموهبته الكبيرة جدًا جدًا ومطالبتى للشركة المتحدة بأن تستثمر فيها لأقصى درجة ممكنة.. النقاش حول المسلسل صحى ومفيد لأنه يفتح الباب لمناقشة مفاهيم هامة حول الفن وعلاقته بالواقع.. رغم شعبية المسلسل الكاسحة إلا أن هناك من ينتقده وهذا طبيعى جدًا ومفيد.. من الانتقادات التى سمعتها أن حى السيدة زينب فى المسلسل لا يشبه الحى فى الواقع.. هذا صحيح جدًا وأضيف عليه أن الفن لا يمكن أن يشبه الواقع مهما كان واقعيًا.. المخرج الكبير داود عبدالسيد بنى ديكورًا كاملًا لحى الكيت كات كى يصور فيلمه الأشهر الذى يحمل نفس الاسم.. وكانت وجهة نظره أن الحى الحقيقى لا يصلح فنيًا.. وهو نفس ما فعله فى فيلم «سارق الفرح».. بنى حيًا عشوائيًا بمواصفات فنية لأن الواقع شىء والفن شىء آخر.. هل تريد مثلًا آخر؟.. رائد السينما المخرج محمد كريم كان يصمم على أن تستحم «الجاموسة» التى تظهر فى مشاهد فيلم «زينب-١٩٣٠» رغم أن الفيلم عن بؤس حياة الفلاحين فى بدايات القرن الماضى، وكانت وجهة نظره أن الفن لا يمكن أن يكون قبيحًا.. هناك عشرات الأمثلة الأخرى حول أن الفن ليس هو الواقع ولكنه الواقع بعيون الفنان، وبين الاثنين فارق كبير.. بعض الأصدقاء اندهش لفكرة إعجاب شخص يصنف على أنه كاتب جاد بمسلسل شعبى.. وأنا أقول إن موقف كثير من «المثقفين» من الفن الشعبى فى مصر ينطوى على عدم فهم وتعالٍ واغتراب عن المجتمع.. وقد لا يعرف الكثيرون أن كل مثقفى مصر فى السبعينيات هاجموا الفنان أحمد عدوية بضراوة وعنف وتعالٍ وفوقية.. ما عدا مثقف واحد عظيم قال إن عدوية هو صوت الحارة المصرية.. هذا المثقف هو نجيب محفوظ.. وقد عاش عدوية ونجيب محفوظ واختفى كل الباقين.. نفس الموقف اتخذه المثقفون من نجم مصر التاريخى عادل إمام الذى ظل طوال السبعينيات والثمانينيات يتعرض لهجوم لا مثيل له من كل النقاد وبأقسى العبارات حتى استطاع إثبات نفسه كحقيقة فنية وتاريخية فى حياة المصريين، وما زلت أذكر لقاء جمعه بكبار المثقفين المصريين فى منزل الدكتور غالى شكرى فى باريس عام ١٩٨٥، فى اللقاء امتلك عادل شجاعة أن يقول لكبار المثقفين إنهم لا يعرفون الشارع المصرى كما يعرفه ولا يعبّرون عن المواطن المصرى كما يعبّر هو عنه.. وقد أثبتت الأيام أن عادل إمام تطور فنيًا لأقصى درجة بفعل الزمن لا بفعل هجوم النقاد واتهامهم له بنشر البلطجة والعنف وكل قائمة الاتهامات التى توجه الآن لفنان مثل محمد رمضان.. وما أقوله فى هذه القضية الهامة إننا يجب أن نعطى الفنان فرصة حتى يتطور وأن نفرح بنجاحه وأن نستثمر فيه ونساعده عليه.. من القضايا التى ناقشنى فيها الأصدقاء أيضًا اعتراض البعض على أجواء المسلسل وبعض الأحداث فيه.. ومرة أخرى أقول إن الفن ليس هو الواقع ولكنه مجرد خيال.. وقد هاجم البعض فيلم «بين القصرين» المأخوذ عن ثلاثية نجيب محفوظ واتهموا مخرجه حسن الإمام بأنه مخرج العوالم.. لأن الرواية المأخوذ عنها الفيلم كانت تناقش ازدواجية الرجل الشرقى واختلاف حياته المعلنة عن حياته السرية.. والآن نحن ننظر لحسن الإمام على أنه من رموز السينما فى مصر وننظر لـ«بين القصرين» على أنه تراث جميل ومشرف للسينما المصرية.. وهناك مئات الأمثلة المختلفة عن أنواع هجوم مختلفة تعرض لها الفن المصرى ولم يسلم منها حتى كاتبنا العظيم أسامة أنور عكاشة الذى اتهم بالانحياز ضد الرئيس السادات فى رائعته «ليالى الحلمية».. ولا ينفى هذا أن المسلسل رائع وعظيم وتاريخى وقطعة ماس على جبين الدراما المصرية.. وبالتالى فإن من حق صانع الفن أن يقدم رؤيته وأن نحاسبه على النتيجة النهائية لأنه من المستحيل وجود عمل يرضى أذواق مئة وعشرة ملايين مصرى وثلاثمائة مليون عربى يشاهد معظمهم الدراما المصرية.. ومن التعليقات التى لفتت نظرى تعليق البعض بأن المسلسل ينطوى على ما هو مخالف لعاداتنا، وأنا أظن أن هذا كلام غير دقيق ليس فقط لأن الخيال مختلف عن الواقع ولكن لأن هناك جهات رقابية مختلفة تمارس عملها بدقة ولا تمر عليها مثل هذه الأمور، ومع ذلك فأنا أقول إن الفن لعبة ولكنه لعبة ممتعة.. نحن نعرف أن معارك فريد شوقى ومحمود المليجى لعبة.. لكنها لعبة ممتعة.. ونعرف أن معارك أنور وجدى ورشدى أباظة وأحمد رمزى وعمر الشريف وعادل إمام فى الأفلام هى خيال يشرف عليه فنان المعارك الشهير «الطوخى» ولكننا نستمتع باللعبة.. ونعرف أن أفلام النجم الهندى أميتاب باتشان خيال فى خيال لكننا نستمتع بها وتحدث لدينا كجمهور نوعًا من التطهير الذى تحدث عنه أرسطو، حيث نتوحد بالبطل فنعتبر انتصاره هو انتصارنا ونشعر حين يضرب الأشرار بأننا نحن الذين ضربناهم فنشعر بالسعادة.. وأخيرًا أقول إننا يجب أن نتحلى ببعد النظر.. فالنجم محمد رمضان نجم مصرى تعلم فى مدارس ومعاهد ومسارح مصر.. وهناك عشرات المنصات الأجنبية والعربية على استعداد أن تعرض مليارات الدولارات مقابل احتكاره.. ووقتها قد تستخدم هذه المنصات مشاركته فى بعض أعمالها لهدم القيم العربية بالفعل، ولن يستطيع من يعترضون اليوم أن يعترضوا.. لأن اللعب سيكون خارج أرضنا وليس بقواعدنا.. كفانا تحطيمًا لأنفسنا وهجومًا على الناجح حتى يفشل بدلًا من مساعدة الفاشل حتى ينجح، كما قال ذات يوم العالم الراحل أحمد زويل، وأظنه قد صدق.