رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تأملات فى الدين والحياة للشيخ محمد الغزالى

الشيخ محمد الغزالي
الشيخ محمد الغزالي

بين ميلاد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وميلاد موسى عليه السلام تشابه قريب، يرجع إلى أن الحق تبارك وتعالى حين يصطنع عبدًا لنفسه ينشئه تنشئة لا أثر فيها لتوجيه الناس ولا محل فيها لرعاية  أحد من الأقربين أو الأبعدين ولا حاجة فيها لتدخل العباد، ما دام الأمر من قبل ومن بعد يخص السيد وحده ! ولقد فقدت أم موسى وليدها وهي لما تنته من آثار وضعه، قال الله عز وجل " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإن خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إن رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين".

وكذلك كان حال محمد صلى الله عليه وسلم في بحر الحياة، مات أبوه الشاب ولم تسعد عيناه برؤية أعظم طفل دفعت به أرحام الأمهات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبرز اليتيم العبقري إلى الوجود وقد فقد حنان أبيه ولكنه لم يفقد حنان ربه، وماتت أمه في الطريق بين مكه والمدينة فاسرعت أم أيمن لتحتضن طفلًا لم يتجاوز الخامسة من عمره، طفل فقد أبويه كليهما ولكن حظه من رحمة الله يتضاعف كلما تقدم به العمر.

ومات جده وآواه عمه إليه وكان فقيرًا نبيلًا فكان على اليتيم الفريد أن يعمل مع عمه ليعيش فتراه في العاشرة من عمره يسافر ويتاجر ويكدح حتى إذا رآه أحد الرهبان أدرك أمورًا في مستقبل الحياة الإنسانية ستقضى على يد هذا الشاب فهو يتساءل عنه وعن والده ثم يتمتم : ما ينبغي أن يكون أبو هذا حيًا !

وهب أن أباه كان حيًا ماذا كان يفعل له ؟، لقد كان يعقوب حيًا وأبى الإله إلا ينتزع يوسف من بين أحضانه وبدلًا من أن يتربى في بيت النبوة درج بين مفاتن القصور وظلمات السجون.

ما ضر محمد صلى الله عليه وسلم أن يولد يتيمًا، والذي قال لموسى "ولتصنع على عيني" قال لأخيه محمد صلى الله عليه وسلم "واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم".

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقول الناس ما يفطر فإذا طوى الناس بطونهم على حجر طوي بطنه على حجرين!وذهب ليحج فخرج على رحل رثة، وقال " الله حجة لا رياء فيها ولا سمعة" حتى إذا حضره الموت كان يستفيق من سكراته ليوصي بتقسيم عدة دريهمات جاءته على الفقراء والمساكين.

لا نستدل على الزهد على النبوة فكم في الدنيا من زهاد ليسوا بأنبياء ولا أولياء وقد شاء الله أن يكافئ نبيه الكريم فشرح صدره ورفع له ذكره وأعلى له قدره.

كان الرسول عليه الصلاة والسلاة يأبى أن يوسع على زوجاته من متاع الدنيا الحلال وتتنزل آيات التخيير "إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلا" فهو لم يفرض الزهد على نفسه بل فرضه على أهل بيته.

والأقسى من ذلك موقفه من السيدة فاطمة وزوجها عليّ فقد ظلت فاطمة تطحن على الرحى حتى تورمت يداها وظل علي يسقى بالقربة حتى اشتكى صدره فلما سمعا بقدوم سبي على المدينة أرسل عليّ زوجه تطلب خادمًا من أبيها ولكنها استحيت أن تساله وعادت إلى زوجها الذي ذهب يعلن الشكوى فكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم "لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما انفق عليهم، ألا أخبركما بخير من ذلك تسبحان الله وتحمدانه دبر كل صلاة"

كان محمد صلى الله عليه وسلم بشخصيته وطبيعة رسالته إمام الأنبياء وكان بحق سيد الدعاة إلى الله ، فما سر هذه العظمة وبم كان هذا الفضل المبين ؟ السر في هذا أن محمد الرسول كلف أن يغرس في قلوب من حوله إيمانًا لا تسخدم في غرسة إلا الوسائل التي في مقدور البشر فاستطاع ذلك من غير أن تتبدل الأرض بغير الأرض على عكس ما حدث على عهد موسى إذ رفع الطور فوق رءوس الناس ليومنوا بالله ويعطو على ذلك الموثق"، وإذ اخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خدوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون"

كان الرسول عليه الصلاة والسلام في محبته للمؤمنين برًا ودودًا اتسعت محبته للسابقين واللاحقين ، أما أعداؤه فحسبك من نقاء صدره أن "أُبي" الذي طعن الرسول عليه الصلاة والسلام في شرفه وافترى الإفك على أهله كُفِن يوم مات في قميص الرسول صلى الله عليه وسلم وأن النبي ظل يستغفر له حتى أمره الله بالكف عن ذلك.

روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجبريل "والذي بعثك بالحق ما أمسى آل محمد سفة من دقيق ولا كف من سويف" فأنزل الله أحد ملائكته يقول له: إن الله سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض وأمرني أن أعرض عليك أن اسير معك جبال تهامة ذهباً وفضة وزمردًا وياقوتًا . فإن شئت كنت نبيًا ملكًا وإن شئت كنت نبيًا عبدًا ،فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : بل نبيًا عبدًا.

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يجتمعان في جوف عبد : غبار في سبيل الله ودخان جهنم" ما من رجل يغبر وجهه في سبيل الله إلا آمنه دخان النار يوم القيامه" وما من رجل تغبر قدماه في سبيل الله إلا أمن الله قدمه من النار يوم القيامة".

عندما يلقي الليل على الكون أستاره وينتدب من الجند من يقوم بحراسة المعسكر ومراقبة الأعداء فإن يقظة الجندي الساهر على حياة إخوانه والتفاته لكل حركة واكتشافه لكل ريبة، إنما هو ضرب من العبادة والتهجد يزيد على الصوم والصلاة "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله".

دخلت فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز يومًا عليه وهو جالس في مصلاه واضعًا خده على يده ودموعه تسيل على خديه فقالت: مالك؟، قال: ويحك يا فاطمة، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير والشيخ الكبير وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القياة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومه فرحمت نفسي .. فبكيت.