رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دماغ بليغ حمدى فى موسيقى رمضان

ما فيش رمضان من غير النقشبندى.. وما فيش رمضان من غير محمد رفعت.. وعمران والفشنى وطوبار.. ما فيش رمضان من غير الأزهر والحسين والتراويح.. إحنا اتولدنا لقيناها كده.. وكل رمضان نبحث عن هؤلاء وعن كل ما يصنع الونس والبهجة فى أيامه المفترجة.

 

رمضان بهجة يصنعها المصريون بشهر السماحة والغفران والعتق من النار.. طرد المصريون الخوف من الموت ومن النار ومن الذنوب.. واستبشروا بالخير والمغفرة والرحمة وجنة رضوان.. ولذلك راحوا يبحثون عن كل ما هو بهيج وطيب وفرح.. ولأن عملية صنع السعادة لم تعد أمرًا عشوائيًا بل صارت صناعة لها أصولها وناسها ومفرداتها وتكلفتها العالية أيضًا.. أصبحنا ننتظر ماذا يفعل الصناع فى هذه المهنة البديعة كل عام بشغف شديد لا تنتهى تفاصيله مع نهاية الشهر الكريم وربما تظل فيما بعده لشهور.

 

بليغ حمدى واحد من أهم صناع السعادة تلك التى نتحدث عنها سواء فى رمضان أو فى غيره من الشهور.. ولأنه مصرى فهم سر الفولة لم يكن من السهل أن يترك لنا أو لغيرنا فرصة صناعة المتعة فى رمضان دون أن يترك بصمته حتى بعد رحيله بما يزيد على ربع قرن. 

 

بليغ فيما عرف عنه أنه موسيقى بوهيمى مستهتر متجاوز.. لكن الذين اقتربوا منه عرفوا عنه نبله وطيبته الشديدة وحبه للخير.. ومن اقتربوا منه فى الفترات الأخيرة من حياته يدركون تلك المسحة الصوفية التى ظللت روحه.. وبعض رسائله من منفاه فى باريس هى رسائل صوفية بامتياز.. من ناحية أخرى بليغ هو أحد الباحثين الكبار عن سر المصريين وعلاقتهم بتراثهم الشعبى وحاجتهم المستمرة إليه وإلى استلهامه بصور مختلفة وجديدة كلما دعت الحاجة إلى الاستمساك بأصولنا وجذورنا فى مواجهة كل ما هو طارئ.. ودخيل وغريب عن بصيرتنا.

 

من هذه الزاوية دخل بليغ إلى عالم سيد النقشبندى.. وجد ضالته فى تلك الحنجرة غير المحدودة.. ذلك النسيج الفطرى من الحلاوة والنقاء والعذوبة.. سرح بليغ حتى وصل إلى أسرار ابن عربى والشريف الرضى وابن الفارض.. استعاد كل ما سمع فى رحلاته إلى الريف والموالد ولليالى الذكر فى الحسين.. وفى جيناته الصعيدية أيضًا وصنع تحفته التى لا نمل من سماعها.. مولاى إنى ببابك.. ولأنه غزلها على مقاس النقشبندى.. فشلت كل محاولات إعادة تقديمها بأصوات أخرى رغم جمال تلك الأصوات.. وعُدنا نبحث عنها بصوت الريفى ابن طنطا الذى شرب من نيل طهطا.

 

بليغ يعود إلينا بقوة ليس فى تجليات النقشبندى التى وجدت طريقها إلى معظم الفضائيات العربية فقط.. ولكن أيضًا فى أكثر من عمل شعبى استلهم فيه تراث مصر وروحها المبهجة.. وأحدها تم استنساخه فى رمضان هذا العام بطريقتين.. إحداهما ضمن أحداث مسلسل ستهم فى مشهد طويل فى الحلقة الأولى.. والثانية فى إعلان عن أحد البنوك يؤديه محمد منير.. تلك الأغنية التى جاء بها الخال عبدالرحمن الأبنودى من خمسين سنة ليعيد بليغ صياغتها وينقلها من عالم الفلكلور إلى الموسيقى العالمية.. عبر أحد مشاهد الفيلم الشهير شىء من الخوف.. وهى أغنية الأفراح الصعيدية النادرة.. يأبواللبايش يا قصب.. وللأسف أعادت فرقة طبلة الست لحن بليغ على اعتبار أنه من الفلكلور.. وتم تقديمه بتوزيع ردىء.. وسطحى.. لا علاقه له بالفلكلور واستلهامه ولا بلحن بليغ أيضًا.. صيغة مشوهة وإن كانت مبهجة لأن فيها من روايح الأصل.. وهكذا هو الحال مع محمد منير فى إعلان.. مدد مدد.. الخير جى يا بلد.. توزيع سطحى أيضًا وكلمات تصلح للإعلان لكنها لا تصلح مع موسيقى البليغ.. لا أعرف إن كان صناع هذه الأعمال قد سددوا لورثة بليغ ما يستحقونه من مال.. وحق أداء.. عما اقترفوه.. لكننى أعرف أنهم لطشوا حقه المعنوى أيضًا فى عدم ذكر اسمه.. وبالطبع سيقولون إحنا خدنا فلكلور.. وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق.

 

على كل حال.. أمامنا وقت طويل لنستعيد صناعة البهجة على أصولها.. كما كان يفعل بليغ وعلى إسماعيل وسيد مكاوى وفؤاد حداد.. ذلك أن أهم عناصر هذه الصناعة أن يصدق من يفعلها أنه يفعل ذلك لجمهور محترف لا يمكن الضحك عليه بقوانين النحت والسلق والاستسهال.. وكل عام وأنتم فرحون.. كل عام ورمضان البهيج مصرى مثل موسيقى بليغ.