رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أجانب أحبوا مصر [6]

لوسي دوف جوردون 
جاءت «ليدي دوف جوردون» الكاتبة والمترجمة الإنجليزية، والمتخصصة في تاريخ الأدب الإنجليزي إلى مصر عام 1862 للاستشفاء من مرض السل، وسط الطبيعة الجافة. أرسلت رسائلها إلى زوجها وأمها وابنتها حتى وفاتها ودفنها في مصر عام 1869.

الكتاب يعتبر ترجمة كاملة للرسائل مع ذكريات ابنة ليدي دوف جوردون ومقدمة لجورج ميريديث.

عبرت في رسائلها عن أعظم مظاهر الحب لمصر والمصريين، الكتاب بلغة بسيطة وسهلة يتحدث عن الحياة البسيطة للمصريين خالية من كل تعصب بين الأديان، حافلة بالتسامح، وأرى الغائب في كثير من كتب التاريخ عن الظلم الذي عاناه الشعب المصري تحت حكم الخديو المستنير إسماعيل! والمشاعر المتدفقة من الخدم الأطفال والكبار، العبيد والأحرار وتعلقهم الرائع بهذه السيدة العظيمة.

بلغت محبة المصريين للسيدة لوسي أقصى ما يمكن، وهي الوحيدة كأجنبية، التي نالت محبة المصريين البسطاء، كانوا يبتهلون من أجلها في مولد سيدي أبو الحجاج في الأقصر، ومولد سيدي عبدالرحيم القناوى في قنا.
وجد المصريون الفقراء في الأقصر في السيدة لوسي دوف جوريون ملاذًا لهم في مواجهة الحياة القاسية. 

هذه السيدة جديرة بما لقبها به المصريون البسطاء
عبر المصريون عن أعجابهم بتلك السيدة، عندما أسبغوا عليها ألقابًا عديدة منها «البشوشة» "الشيخة" "الست" "نور على نور".
شمل الكتاب كل رسائلها كاملة دون اختصار أو حذف وبلغت 131 رسالة، ترجمها الكاتب الروائي إبراهيم عبدالمجيد بعد أن جمع رسائلها فى أكثر من طبعة إنجليزية لكتاب رسائل من مصر.
في رسالتها الأولى التي كتبتها لوسي دوف جوردون إلى أمها، سارة أوستن من القاهرة، في الحادي عشر من نوفمبر عام 1862، وهو ذاك العام الذي جاءت فيه الكاتبة إلى مصر، للاستشفاء من مرض السل وسط الطبيعة الجافة، لكن الرحلة العلاجية، ما لبثت أن تحولت، إلى حياة فريدة واستثنائية.
"أكتب إليكِ من قلب الليالي العربية الحقيقية، لعل النبي محمد– الممجد اسمه- يسعد حين يتطلع إلى القاهرة، إنها ذات وجود ذهبي، كل شيء مشرق وشاعري، وأضيف أنا الرقة والرقي". 
عاشت لوسي، متنقلة في أرجاء مصر، حتى وفاتها في القاهرة عام 1869، عن عمر ناهز 48 عامًا.
عاشت دوف جوردون في الأقصر في بيت فرنسا، التابع للسفارة الفرنسية، ومنه كانت تتنقل إلى القاهرة والإسكندرية، بمصاحبة خادمها عمر أبوحلاوة، الشخصية المحورية في حياتها في مصر. ومن خلال رسائلها وما كتبته عن عمر أبوحلاوة وغيرتها عليه. ربما نكتشف أن ثمة علاقة عاطفية نشأت بينها وبين خادمها، وقد التقت بشخصيات نادرة، على رأسها الشيخ يوسف أبوالحجاج، وكان دارسًا في الأزهر، وواعظًا في مسجد أبوالحجاج. وإلى جانب ذلك، كان كاتبًا للقنصلية الإنجليزية ومعلمًا للقرآن، والدكتور عثمان إبراهيم التي فرحت به لتعمقه في قراءة الأدب الإنجليزي، والحكيمباشي على أفندي، وجمع من شيوخ البلد وشيوخ قبائل العبابدة، وهكيكيان بيك الأرمني الذي يُنسب إليه دخول زراعة اليوسفي في مصر. أما حكاياتها عن العبيد الصغار والنساء المصريات، فهي قطع أدبية فاتنة.
حفلت رسائل دوف جوردون بالصور الحية، لمظاهر الحياة الاجتماعية والدينية للمصريين، مع رؤية عميقة للأبعاد التاريخية لهذه المظاهر، ولعل ما أضفى على الرسائل هذه الروح الحية، هو أن الكاتبة الإنجليزية، لم تكن مجرد راصدة، أو مشاهدة محايدة للأجواء المصرية، بل كانت فاعلة ومشاركة في كل الاحتفالات، والطقوس.
 

بصحبة عمر أبوحلاوة، تجولت لوسي في الشوارع 
عمر أبوالحلاوة هذا سيستمر معها طوال رحلتها، ويكون أحد الشخصيات الرئيسية في الكتاب، الذي ساعد السيدة في أن تقضي فترة وجودها في مصر سعيدة، كان حارسًا، وطاهيًا، وممرضًا، ومترجمًا، وواحدً من أطقم خدمها ومعاونيها. 
وفي نهاية رحلتها كتبت في 15 يونيو من بولاق:
-  أستطيع انتظار النهاية صابرة بين الناس الطيبين والمحبين لدرجة تريحني دون شعور قاس بألم الفراق. كانت مغادرة الأقصر مشهدًا محزنًا، لأنهم لم يظنوا من قبل أنهم لن يروني مرة أخرى. إن عطف كل الناس كان حقًا مؤثرًا، من القاضي الذي أعد لي قبرًا بين قبور عائلته إلى الفلاحين الفقراء. عمر يرسل إليك شكره من صميم قلبه ويرجو أن يظل المركب مسجلًا باسمك في القنصلية ليستعمله ويستفيد منه، عينه الأمير ترجمانًا له، لكنه حزين جدًا.. تَعِس كل ما اقتناه لا يواسيه في فقد الأم التي وجدها في الدنيا. في الأقصر بكى محمد بعمق وقال "أنا مسكين، أطفالي مساكين، مساكين مل من في الدنيا" وقبَّل يدي بحب عميق، والناس في إسنا طلبوا الدخول ليلمسوني "من أجل البركة" وكل شخص قد أرسل خبزًا لذيذًا أحسن ما لديهم من زبد وخضروات ولحم ضأن، إنهم الآن أرقي من أي وقت، رغم أنى لم أعد ذات فائدة لهم".
الغريب أن لوسي مثلت بروفة للموت، وكما يقوم الممثلون بتجربة أدوارهم، فغابت عن الوعي ليلة كاملة، وأفاقت في الصباح.
وبعد أن اشتدت عليها وطأة المرض وشعرت بأنها النهاية كتبت إلى زوجها يوم 9 يوليو 1869 آخر رسائلها، وهي الرسالة رقم 131.. من حلوان، تطلب منه ألا يبتئس، وألا يفكر في الحضور تقول فيها:
- ... يتم تمريضي بأقصى ما يُستطاع، الريسان الخاصان بي (رمضان ويوسف) قويان وعطوفان، وعمر جدير بالإعجاب، كما هو دائمًا، تشملني متاعب في الجسد، فلا أحب أن يراني أحد آخر، السيئ هو أني ما زلت قوية في بعض الأحيان. لقد شاهدت موتي منذ يومين وعدت من جديد بعد أن أمضيت الليلة كلها في حساسية سديدة. أكرر أنه لن تتم العناية بي في أي مكان أفضل من طاقمي من البحارة الخيريين المحبِّين.
وفي منتصف الليل طلبت بطانيات تتدثر بها، وفي الثانية صباحًا طلبت القهوة باللبن، ودخل عمر والبحارة إلى مقصورتها، وقبلتهم واحتضنتهم، وماتت في مقصورتها في سفينتها في الفجر. وكانت سفينتها راسية في مياه نيل حلوان.