رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عبقرية الصديق».. التحليل النفسى لأول الخلفاء الراشدين

جريدة الدستور

 

فى هذا الكتاب دراسة جديدة يقدمها العقاد عن شخصية أبى بكر الصديق. وتختلف الدراسة عن الرواية فى أنها لا تحكى حكاية أو تاريخ الشخصية بترتيب وقوعها، كما أنها لا تهتم إلا بدراسة تكوين الشخصية، وما أثر فيها من عوامل التنشئة والثقافة وغيرهما. وما يميّز العقاد هو عقليته الفذّة فى التحليل وربط الأشياء ببعضها، كالتحليل النفسى والاجتماعى، وهذا ما ينقص كتّابنا ودعاتنا المعاصرين. وفى هذا الكتاب تحدث عن صفات أبى بكر الصديق التى أهلته للتلقى عن النبى والوقوف بصحبته طوال هذه السنوات، وهذه الصفات هى التى جعلته أحب الناس إلى النبى.

فى كتاب «عبقرية الصديق»، للكاتب «عباس العقاد»، الصادر عن دار «نهضة مصر»، وفى حوالى مائة وثلاثين صفحة يتحدث العقاد عن اسم وصفة الصديق، وكيف كان أول من صدق النبى، وأول من تولى الخلافة بعده. عباس محمود العقاد أديب ومفكر وصحفى وشاعر مصرى، كتب السلسلة الشهيرة «العبقريات» التى بدأها بالنبى محمدـ صلى الله عليه وسلم ـ وأتبعها ببعض من الصحابة، لم يكن ينوى بها تأريخًا عاديًا؛ ولكنه أرد أن يجعلها نظرة تأملية فى كل شخصية من هذه الشخصيات بقصد إبراز عبقريتها من عدة نواح، ومن خلال قراءتى للأستاذ العقاد وجدت أنه أديب أمسك بتلابيب اللغة، وكأن جملة معانيها لديه عوان يختار منها ما شاء وقتما شاء، ويترك أيضًا ما شاء ولا يستطيع من يقرأ له أن يُعقبَ على اصطفائه، وتركه تلك المعانى لاستخدامها بهذا الشكل «الأدبى» فكلامه ينم عن شخصية متأنية متأملة، وإن كانت عبقرية الصديق أنصع من أن تحتاج لمن يذيل عنها الغبار، أو يكشف عنها الستار، إلا أنه استطاع أن يصل بعمق قلمه إلى أماكن من شخصية الصديق، تحتاج أيضًا إلى عبقرى ليصورها كما صورها العقاد، بل إنى أرى أن الصدق قد نضح فى مواضع كثيرة؛ ليدل على أن هذا الرجل قد أفرغ وسعه فى الدفاع عن عظمة الصديق، ولكن هل استطاع العقاد أن يصيب الهدف الذى يصبو إليه؟

فالعقاد فى مقدمة كتابه «عبقرية محمد» قال إنه يضع كتابه هذا لقراء العربية، وكذلك فى مقدمة «عبقرية الصديق» صرح بأنه يهدف إلى تعريف مجتمعنا بقيمة وحق هذا الرجل العظيم، ولكن مع قراءتك الكتاب ستجده يجنح فى الحديث ليخاطب العالم، فى محاولة منه لأن يقدم لهم شخصية الصديق كرجل عبقرى؛ فبدا الأمر غير مقنع لى أنا شخصيًا كرجل عربى مسلم! وذلك لعدة أسباب سيأتى ذكرها ضمن الموضوع، بعدما انتهيت من قراءته شعرت أننى بحاجة للكتابة عنه ورأيت أن فيه أمورًا تحتاج إلى التنبيه عليها. فى البداية لا بد أن نحدد أى معنى للعبقرية كان يقصد أن يتكلم عنه العقاد فى كتابه وسلسلته، وخلاصة ما يتضح أنه يريد العبقرية التى خلاصتها «كل ما كان عظيمًا فى نفسه فائق فى جنسه» وعلى هذا نسج العقاد كتابه، ولعل جملته فى المقدمة «إن العظمة فى حاجة إلى ما يسمى برد الاعتبار فى لغة القانون»؛ تبرر كثيرًا من الأمور التى طرحها وراح يرد عليها، وإن كانت بعيدة تمامًا عن موضوع العبقرية كــ«تصديقه ـ رضى الله عنه ـ لرحلة الإسراء والمعراج وكتبرئته وابنته عائشة ـ رضى الله عنهاـ من التآمر لأخذ الخلافة، وإسهابه فى أحقية الصديق بالخلافة».

وكما تعودت وأنا أقرأ لأى أديب يكتب عن قضايا الإسلام وشخوصه، وهو غير ذى باع فى العلم الشرعى أن أجده يجهل المصادر الصحيحة، أو يجهل التفرقة بين الصحيح وغيره؛ فيأتى بأطروحات تبعد أو تضاد كثيرًا من أمور الدين، ولم يسلم العقاد من هذا فى هذه الأطروحة فجاء بخلط يعف عنه صغار طلاب العلم، كأن يقول إن مفتاح شخصية سيدنا أبى بكر الصديق هو «الإعجاب»، وإنها هى الوسم الذى يوسم كل عمل من أعماله وكل نية من نياته!! وإن الإعجاب هذا هو السر الكامن فى كل رأى يرتئيه وكل قرار حاسم يستقر عليه!! وكأنه يجهل أن الإعجاب يبطل العمل مهما عظم، بل ويرد على من جاء به، أيًا كان حسبه ونسبه، ولعله لم يلحظ وهو يحضر للحديث عن شخصية الصديق أن كل أعماله من إقدام وإحجام، بل وتوقف لحين، كان دافعها الإيمان لا الإعجاب، والاقتداء لا حب أن يكون عظيمًا، بل إنه راح لما هو أبعد من ذلك فقال «لم يتم قط- ولن يتم فيما نرى- أمر عظيم واحد بغير البطولة وبغير الإعجاب بالأبطال»!! فتساءلت وهل لازم هذا القول أن نفهم أن قيام النبى محمد بشرائع الدين كان بالإعجاب بالأبطال؟ أم أن قيامه هذا لم يكن قيامًا بأمر عظيم؟!

ثم يقابلنا خلط غريب بين الاتباع والتقليد، وكأن معناهما عنده واحد ثم خلطه فى جعل الاتباع مقابل الاجتهاد، فيمضى فى إثبات الفرق بينهما ثم يرجح ميله للاتباع فى مواجهة الاجتهاد! وفى الحقيقة هى معركة فكرية لم تدر إلا فى عقل العقاد وحده، فالاجتهاد غايته الكبرى هى الاتباع لاسيما إن كان الحديث عن أبى بكر وعمرـ رضى الله عنهماـ والاتباع لا يكون إلا بدليل يقع من النفس موقعه على عكس التقليد، الذى يهم صاحبه بنقل الفعل من غير تمحيص ودراسة، فإن فحصه ومحصه فهذا الاجتهاد؛ فإن بان له وجه الحق فيه فهذا الاتباع وهذا ما نعرفه، ناهيك عن جعله أبا بكر متبعًا! وأنا لا أدرى إن لم يكن أبو بكر مجتهدًا وهو صاحب أول اجتهاد فى الإسلام بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم ـ بحروب الردة، فمن يكون المجتهد؟! وإن كان هناك فرق تضاد بين الاتباع والاجتهاد، فماذا نسمى فعل الفاروق حين قبّل الحجر الأسود وأى اجتهادٍ فى هذا؟! وإن كان قوله فيما بعد ذلك إن أبا بكرـ رضى الله عنه ـ كان أول المتبعين وإن الفاروق، رضى الله عنه، ثانى المجتهدين لا يتضح لى وجهة بعد هذا التأصيل.

ومن المدهش أن يقول: إن الدولة الإسلامية تأسست فى خلافة أبى بكر. هكذا يقول «تأسست» ولا أدرى كيف أصرف العقاد هجرة النبى إلى المدينة وبنائه المسجد ومؤاخاته بين المهاجرين والأنصار ثم معاهدة المدينة ثم الصراع العسكرى الذى قاده الرسول فى الغزوات وسيَّر له السرايا، فهنا لا يتكلم عنه كمكملٍ صار على الدرب ولكن كمؤسس. ولا يسعنا الحديث عن كل النقاط والمواضيع التى استوقفتنى فى هذا الكتاب. ولكن يعد هذا الكتاب مدخلًا جيدًا للقراءة عن شخصية أبى بكر الصديق، فقد تناول العقاد هذه الشخصية من جوانب مختلفة وقام بتحليلها بمهارته اللغوية بطريقة مغايرة لما جاء غيره من المفكرين والأدباء.