رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سهرة مع آل باتشينو

لم أره مرة دون أن تحتوى ملابسه قطعة سوداء، ولو كانت مجرد حذاء أو نظارة شمسية أو رابطة عنق، فى تلك السهرة، التى مضت عليها سنوات غير قليلة مثلًا، كان يجلس على الكنبة الكبيرة فى صالة شقتى الصغيرة فى شارع التحرير، يرتدى ملابس سوداء بالكامل، حذاءً رياضيًا أسود، بنطلونًا منزليًا من القطن المصبوغ باللون الأسود، قميصًا من الكتان الأسود، سترة تبدو وكأنها مصنوعة من حرير مظلة سوداء.. حتى الكنبة التى جلس عليها، كانت تكسوها أقمشة سوداء، تناسبه تمامًا.. لون الظلام يتطابق مع لون عينيه الداكنتين والهالات السوداء حولهما، هاتان العينان اللتان دائمًا ما كانتا تقومان بمهمة سرية خاصة بهما فى أفضل أدواره، ومنذ اللحظة الأولى لظهوره، وربما لا أكون مغاليًا إذا قلت إنهما كانتا المفتاح السحرى لفرض سطوة الحضور الحاسم له فى شخصية «مايكل كوروليونى» فى الجزءين الأول والثانى من ثلاثية «الأب الروحى» التى يترجمها البعض باسم «العرّاب»، عينان واسعتان سوداوان، مظلمتان، تحدقان فى عدوهما بصرامة مطلقة، فتبثان فى نفسه الرعب، أو على الأقل القلق مما قد يكون خلفهما، وتركزان فى عينى تابعهما بحسم واطمئنان يشيان بالثقة الكاملة، بينما تنصتان إلى نصائح الأب بحنان واهتمام بالغين، فتهدأ مخاوفه.

الأسود، سيد الألوان، مرادف الكمال، وسميه، رفيق الداهية اللصيق، وحليف القائد المخلص، ورسول المحب الأمين، وربما كان ذلك سر اختياره لأداء شخصية «جون ميلتون» فى فيلم «محامى الشيطان»، حيث القدرة على كتم الغضب، وإثارة النساء، وتحريك الجموع، وبث الفرح والفزع بنظرة عين واحدة، لا تخطئ صيدها.

كنت قد انتهيت للتو من المشاهدة الثانية لفيلمه الأقرب إلى قلبى «عطر امرأة»، وانتهيت أيضًا من آخر قطرة فى زجاجة «عمر الخيام» الثانية، وبدأت التفكير فيما ينبغى علىَّ فعله فى تلك الحالة الموزعة الرغبات، المشتتة، العصية على الثبات.. وحده «عطر امرأة» يملك مفاتيح تغيير حالتى المزاجية، وتنقيتها من عوامل الغضب أو التردد، التوتر، العصبية، الاستعجال، وكثيرًا ما لجأت إليه لهذا الغرض عندما أدركت ذلك.

اعتذرت له عن سوء حالة الشقة، وعشوائية ترتيبها، والأتربة، ودرجات السلم، والنبيذ الرخيص، والكتب رديئة الطباعة، بأغلفتها المقلدة، والأثاث المتهالك، وصحبتى غير الممتعة، فأشاح بيده بإشارة فهمت منها ما معناه «حل عن سمايا»، أو «ماتشغلش بالك»، أو هى مزيج من العبارتين معًا، على ما بينهما من فروقات تمنع الالتباس أو الخلط بينهما، لكننى ارتحت إلى ذلك التقريب، ولم أشأ منه أن يوضح ما أراد بصورة أفضل، ويمكنك أن تقول إننى لم أهتم أصلًا أيهما كان يقصد بإشارته تلك.. نحن نفهم ما يصلنا من إشارات حسب ما نريد، لا حسب ما يريد الآخر أن يقول، إن لم يكشف بعبارات واضحة وحاسمة، أو قاطعة عما يدور فى رأسه.. هى مشكلته هو إذن.. «مع نفسك بقى».. لم أقل له ذلك بالطبع، فهو من هو، آل باتشينو، بلحمه وشحمه، وصوته المشبع بالكحول، وملابسه كاملة السواد.

من حقك بالطبع أن تسألنى: «كيف تدعى أنك التقيت آل باتشينو، وسهرت معه، بينما حقيقة الأمر أن قدميه لم تهبطا مطار القاهرة أو برج العرب أو حتى مطار أسيوط، وأنك لم تغادر مصر إلا لمرات معدودة ومحدودة جدًا، وكلها إلى عدد محدود جدًا من المدن العربية؟!».

هنا سوف أنجعص قليلًا، وأقول لك إن معلوماتك خاطئةٌ تمامًا، ومتسرعة أيضًا، إذ ربما تتقاطع الطرق بصورة لا يعلم كيفية تدبيرها إلا الله، فقد «يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا»، هكذا غنت فيروز كلمات قيس بن الملوح، العاشق العربى الممسوس بنيران الهجر والبعد والتفريق بينه وبين حبيبته، وهكذا هى مفاجآت الحياة وتدابيرها التى لا تستعصى على الحدوث، «فرُبَّ صدفةٍ خيرٌ من ألف ميعاد»، حسبما يقول العرب، وربما كنت تعرف مثلى كيف أن «الحيلة تخجل أمام تدابير الله»، كما يعتقد المتصوفة، فقد تقضى معظم عمرك تبحث عن شىء لا يفارق عينيك، لكنك لا تراه إلا فى اللحظة التى لا يكون لديك سواه، اللحظة التى تختارها لك الأقدار، لا تحددها أنت، وترتب مواعيدها تدابير الله، أو مصادفات الحياة، أو سمها ما شئت، لكن لا تدعى أنك تعرف كيفية التصرف فى كل شىء، ولا تراهن على قدراتك أيًا كانت، ولا موهبتك مهما عظمت، ولا حيلتك أو ما تفعله يداك.

ما أسهل أن يلتقى مصرى فقير ومفتون مثلى، بفاتنٍ أمريكى ومشهور مثل آل باتشينو، ولكن ليس بحسابات البشر، ولا بحسابات المسافة، والوضع الاجتماعى أو المهنى أو المادى، بل بحسابات الرغبة، والإصرار، والحلم، والإيمان بقدرة الحياة على تسيير أمورها، وحفر مساراتها مهما كانت المعوقات.

هذه واحدة، أما الثانية فما لا تعرفه أننى لم أسافر إلى عدد محدود من المدن العربية فقط كما تظن، سبق أن سافرت إلى مدن إفريقية استمتعت فيها برحلات سفارى وسط الغابات الطبيعية البكر، حيث يستطيع الإنسان أن يخرج للصيد، ثم يعود إلى كوخه الصغير فيجد زوجته وأطفاله فى انتظاره، فيأكلون ويلعبون ويمرحون وينامون هادئين مطمئنين، دون حاجة إلى حضارة أو تقدم، ودون مدافع أو قنابل نووية، أو مضاربات فى البورصات العالمية، كما زرتُ أخرى فى أوروبا، وقدت سيارتى وسط زحامها، بل وكتبتُ عن محنة قيادة السيارة خلال ساعات الذروة فى إسطنبول، دخلت مسارحها وباراتها، واقتربت من نسائها، وشممت عطورها، وعشت مغامرات وحماقات تليق بما كنته من شبابٍ وقتها، وصنعت مصادفات تناسب رعونتى وطيشى ورغبتى العارمة فى مطارحة الحياة الغرام بكافة السبل المتاحة، مشروعة أو غير مشروعة، ممكنة أم مستحيلة، سهلة أم صعبة، طيبة أم شريرة أم بين بين.. على أن الأهم بالنسبة لى فى هذه الرحلات المحدودة، إفريقيًا وعربيًا وأوروبيًا، هو ما حدث فى إحدى رحلات السفارى وسط الغابات الكينية الشاسعة، الساحرة والمرعبة فى وقت واحد، حيث وقفت على بعد أمتار أقل من أصابع اليد الواحدة من ملك الغابة، أسد حقيقى تمامًا، أسد كامل الهيبةِ والأنيابِ، لا تفصلنى عنه سوى خطوات يستطيع أن يقطعها بقفزة واحدة، فإن فعلها أصبحتُ ومن معى نسيًا منسيا، بلا حتى بقايا من عظام.

نعم أسد.. أسد حقيقى من لحمٍ ولحم، فمن هو آل باتشينو لكى يستعصى علىَّ لقائه، أو حتى الجلوس والسهر معه؟!

عمومًا.. للحديث بقية.