رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكاية فى إقامة مسعود شومان

من الأفضل لك ألا ترهق ذاكرتك فى عصف ليس يفيد؛ فثمة أشخاص متى تبحث عن بداية معرفتك بهم لا تصل إلى تاريخ محدد أو واقعة بعينها، أنت فقط.. تدرك أنهم حاضرون فى وجدانك قبل أن تقابلهم، وحين تلقاهم تلمس أن حدسك صائب وعلاقتهم بك موصولة، ومن هؤلاء مسعود شومان؛ فقد كان معى قبل الجلوس إليه، ربما قبل «ديوان الفتافيت»، وظلَّ حاضرًا فى أحاديث الأصدقاء فى الندوات والأمسيات المتنوعة عن الشعر والدراسات الشعبية، وفى معظم الأماكن التى أرتادها، فأمست علاقتى به أفقية؛ مثل كثيرين ارتبطوا به، فأينما ذهبت سوف تجده، يتواصل معك وتتحدث معه وكأنكما تستكملان حديثًا ممتدًا كانت لحظة عابرة قد قطعته، وتندهش عندما تراجع نفسك فتكتشف أن تلك اللحظة بحسابات الزمن فترة ربما تجاوزت الأسابيع إلى شهور.

وعندما أصف علاقتى به بالأفقية لا أعنى سطحية أو عابرة، بل الإحاطة؛ وهى الآلية التى كرس عبرها مسعود شومان علاقاته المتشعبة فى ربوع مصر المختلفة؛ فبات له ناس فى أسوان، ومثلهم فى الإسكندرية، والفيوم، والمنوفية، والإسماعيلية، وغيرها؛ ناس أولاهم الاهتمام والعناية فأحاطوه بكل رعاية. 

هو صاحب أداء مكوكى، وحاضر بوعى وإخلاص كمبدع وباحث فى كل مجمع يحج إليه، ولو أن الأمر بيدى لمنحته تفرُّغًا كاملًا، وإقامة كريمة فى كل بقعة يذهب إليها دارسًا لآدابها وفنونها، فهو باحث مضروب بالتنقيب فى الثقافة الشعبية، يرافقه نديم مبدع «ماشى مش دريان» يحثه على الشعر؛ و«لا كان فيه خُف جمل، ولا كانت ريح بتُصفر، وما كنا أوان برتقان، وكانت الضلة كاسية ضهرى، فجأة لقيت برتقانة فى إيدى، ومن يومها بقيت أقول الشعر». 

و«مسعود» فى كل خطواته «صديق أهلنا وناسنا»؛ مهموم بهم، يشاركهم الحال والمآل، وينهل من أفواههم حكاياتهم المتراكمة عن الكون والحياة والممات، ويعبر عنها شعرًا عماده المعرفة والجمال؛ و«الدنيا دى حية، والمعرفة تعبان، واتجوزوا فى السر؛ فخاف إذا كنت عارف أكتر...، الجهل متحصن وليله حويط»، فالجهل أمره بسيط؛ يكشفه العلم بما نجهل، وتجلوه المعرفة، لكن «الجاهلية» كارثية؛ لذا علينا أن نتبصر فى تراثنا ونتحصن بالوعى كى نصنع حاضرًا خاليًا من «حواطة الجهل»؛ و«قال يا جهل وما رديتش. وقال يا علم فاستكبر. يا حكمة الأجداد. يا شَعر يا أبيض. يا عُشاق الحقيقة. يا رُعاة الجنون. يا بِدل يا دقون. احترت ولسانكم طليق والليل جنين الليل وبيغطرش. أنا قلت ليه يا جهل وما ردّش. وقلت ليه يا علم مِتْـلبش. والزفة ماشية وأنا الوحيد الأطرش».

وقد بذل مسعود شومان سنوات طويلة فى السعى لتحرير «الجهل» من حصانته بالتفاعل مع واقعنا بشكل فنى؛ فغالبًا ما يكون الخيال مفتاحًا لتفكيك تعقيدات الواقع، وقد شغل ذلك جانبًا كبيرًا فى منجز مسعود شومان الشعرى؛ وفى تقديرى أن ديوانه «بس مين يفهم» نموذج فى ذلك. وفى سياق موازٍ لم يعش الشاعر فى برج عاجى، بل عمل كباحث فى العلوم الإنسانية على رصد وتحليل عناصر الثقافة الشعبية، خصوصًا ما يتعلق بالظواهر الاجتماعية؛ إذ يتعرض لها من زوايا متفردة، وتحضرنى هنا حكاية معه، ربما تعود إلى سنة ١٩٩٦، وكنت أعمل آنذاك فى مجلة «صباح الخير» على تحقيق صحفى حول تفشى الشتائم بشكل خطير فى الشارع المصرى، وتحدثت مع مسعود فى ذلك، ففاجأنى بأن فى حوزته نحو عشرة آلاف شتيمة متداولة، وهى نواة لمعجم يقوم على جمعه وتصنيفه، ويسعى أيضًا لدراسة خاصة عن «لغة الشارع المصرى» ومن بينها الشتائم، إذ يتناولها من مدخل سيموطيقى، يركز على الجانب الجمالى فيها؛ العلامات والألفاظ والتراكيب والرموز، رغبة فى الوقوف على العناصر التى تسهم فى انتشارها واستمرارها، ولاحقًا ظللت أتابع مسعود بالسؤال عن معجم «الشتائم والسباب واللعان»، واعتقدت أن دور النشر سوف تتسابق على نشره، لكن منْ تحمّسَ أعْرض، وظلَّ المعجم على حاله، بينما كان حظ دراسته «لغة الشارع المصرى من السرية إلى الروشنة» أفضل؛ فقد نشرَ منها فصلًا كاملًا عام ٢٠١٣ ضمن كتابه «مساحات الالتباس والوعى بالنص الشعبى». إن شغف مسعود شومان بجمع المأثورات الشعبية لا ينقطع؛ وكما يقول صديقه الباحث والفنان د. خالد شبانة: «فى حوزة مسعود كنوز جمعها ميدانيًا، وتحتاج إلى الإتاحة؛ آملًا فى أن تخرج للنور، ما لديه متنوع ومهم، ويحتاج إلى كتيبة تعمل معه على تفريغ وتصنيف وترتيب ما جمعه»؛ ففى طوافه بأقاليم مصر اهتم بكل ما يتعلق بالجماعة الشعبية؛ الأفراح والأحزان والأعراف، فى المأكل والمشرب والملبس، وطقوس الموسيقى واللكنات والغناء. 

وعلى ذكر الغناء يحضرنى هنا أن مسعود ورفيق دربه الشاعر مجدى الجابرى، رحمة الله عليه، كانا يعملان على ملف خاص عن «المأثور الشعبى المصرى؛ سلامٌ لخيال الجماعة»، وطلبا منى مقالة عن «النميم»، وهو من «فنون القول» فى محافظة أسوان، ولم يهتم بدراسته سوى الباحث جمال وهبى مدير قصر ثقافة كوم أمبو آنذاك؛ فى دراسة نُشرت لاحقًا فى كتاب سنة ١٩٩٧، وأدهشنى التفات مسعود مبكرًا لضرورة توثيق هذا الفن الذى اندثر الآن حتى فى مركزه الرئيسى بمنطقة «دراو».

إذن هو صديق الجماعة الشعبية؛ حاضنها وخادمها، وصاحبى الذى أعتز به، وصاحب أصحابى هنا وهناك؛ ألمس فى ذكرهم له المحبة والتقدير، فهو منهم باحث عصامى مجيد يمتلك طاقة عظيمة وقدرة على معايشة المجتمعات المصرية ودراستها على اختلافها بثقافاتها المتنوعة؛ فى حلايب وشلاتين، فى البوادى والدلتا والسواحل، فهو صاحب مقام، وطوَّافُ؛ يخْدِمُك برفقٍ وعناية، وحيث حل يحن إلى «ملح الأرض»؛ الحقيقيين الساقطين عن المدونة الرسمية، وهو القائل: «أطهر ولاد البلد هما حرافيشها.. وهما موج البراءة فى كل أنهارها.. بيكتبوا بالدم سر نهارها وبيزرعوا من تانى أشجارها ويعروا أوباشها».

ويبقى الشعر الجذوة التى تشعل خيال مسعود شومان وتجدد طاقاته؛ «الشعر شعر/ الموجة تحت الموجة/ وشوشوة الودع للبحر/ كعبلات الخيط وانت بترفى البنطلون/ الحنان لما يبل القش/ الحجارة لما تدعى ع اللى خانوها..... وكتير كتير؛ الميه لما اتكلمت فى البير/ السيف ف وش القهر/ الشعر شعر».. ومحبة وتعظيم سلام لمسعود شومان.