رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إلى د. ياسمين فؤاد وزيرة البيئة.. عن صيد الطيور الجائر فى بحيرة ناصر!

(1)

بحيرة ناصر أقصى جنوب مصر هى التى تكونت بعد بناء السد العالى ويقع معظمها فى مصر بينما يقع حوالى 18% من مساحتها داخل السودان، وتبلغ مساحتها ما يقرب من خمسة آلاف كيلومتر مربع. بحيرة ناصر هى خزان المياه العذبة لكل مصر وهى أيضًا من أغنى المناطق فى مواردها الطينية والمعدنية المترسبة عبر السنوات الماضية، وهى أيضا أكبر مراكز تجمع الأسماك فى مصر، بالإضافة لأنها منطقة سياحية هامة تجمع عوامل جذب السياحة الثقافية متمثلة فى زيارة الآثار المصرية التى تم إنقاذها وإعادة تشييدها على ضفاف البحيرة، وعوامل سياحة السفارى لصيد الأسماك.

ففى بحيرة ناصر مجموعة متنوعة من الأسماك أشهرها البلطى بتنوعاته والساموس وأنواع القراميط وأنواع مستخدمة فى دائرة الأسماك المملحة المجففة المصرية الشهيرة منذ العصور القديمة.

ضفاف البحيرة أصبحت تضج بمظاهر الحياة البرية بكل تنوعاتها من نبابات صحراوية نادرة، وعشرات الفصائل والعائلات من الحيوانات والزواحف والحشرات. من تلك الحيوانات ما تم القضاء عليه بالصيد الجائر مثل "الغزال المصرى" الذى كان لفترات قريبة موجودا فى مناطق مثل "وادى العلاقى"، لكن للأسف تقريبا تم القضاء عليه. ومن تلك الحيوانات أنواع تاريخية مثل الثعلب المصرى. ولقد أعلنت مناطقٌ من البحيرة كمحميات طبيعية تخضع للقانون المصرى مثل منطقة وادى العلاقى الممتد لكيلومترات من شرق البحيرة حتى سلاسل جبال البحر الأحمر لاحتوء المنطقة على حياة برية تشمل طيور ونباتات، بالإضافة إلى تشكيلات صخرية مميزة!

(2)

بالإضافة إلى كل ذلك فقد غدت البحيرة واحدة من أهم مناطق تجمع الطيور على مستوى العالم وغدت قبلة لكل محبى سياحة مشاهدة الطيور من كل العالم. من هذه الطيور ما هو مصرى خالص، ومنها ما أصبح متوطنًا بشكل دائم، ومنها الطيور المهاجرة شمالا أو جنوبا حسب التوقيت الزمنى. ومن المعتاد أن نرى ملايين الطيور فى أسراب تبلغ أحيانا كيلومترات وهى تغرد فوق البحيرة. حصر العلماء جميع أنواع الطيور فى مؤلفات علمية عديدة منشورة بكل اللغات. وهناك مناطق مميزة بتواجد أنواع نادرة من تلك الطيور ومحظور صيدها رسميا! بينما يتم السماح لصيد بعض الأنواع مثل البط والحمام البرى وطبقًا لهذه التصاريح فالصيد يجب أن يخضع لاشتراطات معينة أولها وأهمها أنواع الطيور، وثانيها كمية ما يتم صيده! هذا هو الموقف الرسمى النظرى! لكن ما يتم فعليا فهو جريمة تامة!

الجنسية الأشهر التى تواظب على الحصول على تصاريح الصيد هى الجنسية المالطية، وعبارة "المالطيين" شائعة تماما فى المنطقة. يحصلون على تصاريح ورقية خاضعة للاشتراطات من حيث نوع الطيور وأعدادها ويأتون ببنادقهم طبقا لهذه التصاريح. لكن الذى يحدث هو أنه بمجرد الشروع فى ممارسة الصيد والبعد عدة كيلومترات داخل البحيرة، تصبح هذه الورقة بلا قيمة فعلية، لأنه لا توجد آلية لمتابعة تنفيذها، وتنحصر أهميتها فقط فى المرور بأسلحة الصيد حتى الوصول لمناطق الصيد فى مساحة مترامية الأطرف من المياه. يساعد على ذلك أن من يقومون بالإبحار معهم على مراكب السفارى غير مؤهلين للقيام بدور المراقب، بخلاف أن السخاء فى الدفع يجعل الكثيرين يغضون الطرف!

فى مالطة لا يُسمح لهؤلاء بممارسة صيدهم الجائر الذى تجرمه قوانين معظم البلاد بما فيه بلادهم، فيأتون إلى بحيرة ناصر لهذه الممارسة. أما عن سبب شغفهم بهذه الممارسة فهو سبب تجارى بحت. حيث يقومون بعد قتل أعداد كبيرة من كل الطيور بانتقاء أنواعٍ بعينها يتم تغليفها والمرور بها طبقا لتلك التصاريح ثم يقومون بتحنيطها وبيعها بمبالغ طائلة عبر الإنترنت لنوعية خاصة من الهواة الأثرياء عبر العالم! عبر المنافذ المصرية فى طريق العودة يصعب كثيرا أن يتعرف الموظفون على أنواع الطيور لكنهم فقط يطلعون على التصاريح الممنوحة ويتم السماح لهم بالخروج!

(3)

هى جريمة قتل كاملة، يقومون خلالها بإطلاق النار على كل ما يطير فتفترش مساحات كبيرة من بعض الأخوار بالطيور المقتولة وبعضها يسقط فى مياه البحيرة، ثم يقومون بالانتقاء من بينها حسب ما يقدرونه من مبالغ سوف يحصلون عليها. يغادرون بينما تبقى الطيور المقتولة شاهدة على الجريمة. فى الشهر الماضى وجد بعض العاملين بمهنة الصيد فى البحيرة بعض الطيور النادرة مصابة، بعضها ميت، وبعضها على قيد الحياة، مثل الحدأة السوداء التى شاهدتُها مقتولة وحدأة أخرى حاولوا إنقاذها عبثا!

ومنذ سنوات نُشرت صور لطائر فلامنجو محنط يعرضه أحد المالطيين بمبلغ حوالى ألفين وستمائة جنيه استرلينى! وهو من الطيور التى أصبحت متوطنة فى بحيرة ناصر ونراها فى مناطق بعينها لكنها محدودة العدد. سماع دوى طلقات الخرطوش فى فترات هجرة الطيور تحديدًا أصبحت خطرًا حقيقيًا يهدد بانحسارها عن مناطق من بحيرة ناصر. هناك جماعات معنية بالحفاظ على البيئة وحماية الطيور النادرة أصبحت حاضرة بقوة فى مشهد مذابح الطيور فى بحيرة ناصر وأعتقد أن الإدارة المصرية المعنية بالملف ينبغى عليها فتح هذا الملف.

(4)

أعلم تماما أن د. ياسمين فؤاد وزيرة البيئة من الشخصيات النشطة جدا، وأنها- حين تتوافر لها المعلومات عن إحدى ملوثات البيئة أو مهدداتها بأى شكل – فلن تتوانى عن التصدى بقوة لهذه الملوثات أو المخاطر. وأنا هنا أكتب هذا المقال متمنيا أن تسترشد به بشكل أولى عن وجود خطر حقيقى يهدد إحدى مقدرات مصر الواعدة. ويمكن لمعالى الوزيرة أن تسترشد بشهود عيان كُثر يتواجدون بصفة دائمة فى بحيرة ناصر سواء لصيد الأسماك المشروع أو الزراعة ومنهم من يمكنه أن يمدها بمادة وثائقية مصورة كاشفة أبعاد الموقف على الأرض.

يمكن أن نتخذ قرارًا بوقف مؤقت لمنح تلك التصاريح لمدة موسم مثلًا لحين إعادة تنظيم المنظومة ليتوافق الموقف النظرى مع ما يحدث على الأرض. هناك آليات كثيرة يمكن تطبيقها ويمكن أن تضاف رسومها على ما يتم منحه من تصاريح. من تلك الآليات أن يُشترط مصاحبة متخصص من وزارة البيئة طوال تواجد أى مجموعة فى منطقة بحيرة ناصر، على أن يكون ملمًا بشكل حقيقى بأنواع الطيور وما هو المسموح به، وأن يقوم بتوثيق رحلة الصيد بالتصوير، على أن تتأكد الوزارة بما تراه من ضوابط أن يقوم هذا المرافق بعمله بشكل حقيقى، وليس على طريقة الفنان عادل إمام فى فيلم مرجان.. طريقة الشاى بالياسمين!

ربما يكون غير متاح أن يتم تطبيق هذه الآلية فورًا وأن ذلك يلزمه وقت لإعداد وتدريب وتأهيل مجموعة من موظفى الوزارة أو المتطوعين من الشباب لأداء المهمة. لذلك فربما يكون الاقتراح بعمل "وقف مؤقت" لمنح التصاريح لحين دراسة الموقف وإعادة ضبط هذا النوع من السياحة بشكلٍ يضمن الحفاظ على مقدرات مصر وحماية الحياة البيئية البرية ببحيرة ناصر. ويمكن تعويض أى خسارة مادية جراء هذا الوقف المؤقت بتشجيع نوعٍ آخر من السياحة وتنشيطه، وهو سياحة مشاهدة الطيور.. فبدلًا من تقديم تسهيلات لسياحة صيد الطيور الجائر أو قتلها، نقوم بمنح تسهيلات لمن يدركون قيمة الحياة البرية ويحمون مقدرات مصر!

وإذا كان لدى مصر- هيئة تنمية بحيرة ناصر- وحدة علمية خاصة بالتماسيح وهى المنوط بها تقديم الحقائق العلمية للجهة الإدارية التى تتخذ القرار بالسماح أو بمنع صيد التماسيح، فالطيور لا تقل أهمية عن التماسيح، ويمكننا لو أولينا اهتماما خاصا بهذا الملف أن ندشن لمورد اقتصادى جديد هو سياحة السفارى الآمنة التى ستدر ربما دخلا أكبر من سياحة القتل!