رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبد المنعم رياض.. الجنرال الذهبى

عبد المنعم رياض
عبد المنعم رياض

إن ذكرى الرجال العظام تبقى خالدة فى ذاكرة الأمة، محفورة فى التاريخ، كي تذكرنا بما جرى وما كان ومن ضحى بأغلى ما يملك فى سبيل هذا البلد وأهله. 
في مارس ١٩٦٩ أعلن عبد الناصر بدء حرب الاستنزاف رسميًا، في تلك الأثناء طار عبد المنعم رياض إلى بغداد لحضور اجتماعات رؤساء أركان حرب جيوش الجبهة الشرقية، كان رياض مؤمنًا بقوة وفاعلية الجبهة الشرقية وأهميتها، فمن هناك يمكن إصابة العدو فى مقتل. 
عاد إلى القاهرة وتابع سير معارك السبت ٨ مارس من مكتبة في القيادة العامة، كان القتال عنيفًا وضاريًا على الجبهة وفي صباح الأحد ٩ مارس استقل طائرة هليكوبتر إلى أحد المطارات الأمامية للجبهة، ومنها ركب سيارة عسكرية منطلقًا يتفقد المواقع ويتحدث إلى الضباط والجنود محاولًا رفع روحهم المعنوية، يستمع إليهم ويسجل ما يرى من حوله بذاكرته الحادة، اقترب منه أحد الضباط قائلا: "سيادة الفريق.. هل تجيء لترى بقية جنودي في حفر مواقعنا؟". 


إجابة رياض بثقة القائد القريب من رجاله وبإنجليزية كانت تخلتط بكلماته نظرًا لإتقانه إياها إلى جوار لغات أخرى: 
أي نعم، وبكل وسيلة……yes, Be all means
توجه معه إلى  أكثر المواقع اقترابا من العدو "الموقع ٦ بالإسماعيلية"، فى تلك اللحظة انطلقت قنابل العدو تمطر الجبهة، نزل رياض إلى واحدة من حفر الجنود التي ذهب ليتفقدها، انفجرت القنبلة و كان هو الأقرب منها، تفريغ الهواء الناتج عن القنبلة أصاب رياض بما يشبة الانفجارفى الجهاز التنفسي، كان جسدة كما هو دون خدش أو جرح يرقد فى الحفرة بسترتة العسكرية التي لا تحمل أي شارات أو رتب كما اعتاد دائما حين يكون وسط جنوده، استشهد بين رجاله وفى أكثر المواقع تقدما من العدو، كان مؤمنا بأننا لو أدرنا الحرب على طريقة جنرالات المكاتب فى القاهرة فإن الهزيمة محققة. 


طار الخبر إلى القاهرة ونزل كالصاعقة على رأس عبد الناصر، كان استشهاد رياض أكبر الجراح التي تلقاها ناصر بعد يونيو ٦٧، كان يعتقد بكفاءة رياض وبقدارته على إدارة المعركة، ولكن أمر الله نفذ واختاره المولى إلى جواره كأعظم شهداء جيله.
خرجت الآلاف في جنازته تودعه وداعًا حارًا يتقدمهم عبد الناصر الذي ذاب وسط الجموع فى ميدان التحرير ولم تجده حراسته!! 
لم يفكر عبد الناصر وقتها فى أمنه الشخصي، وكأنه كان يفعل ما فعله رياض ويحذو حذوه، ربما تذكر ما جرى بينهما قبل عامين من استشهاده حين استدعاه بعد النكسة ليتولى مهامه كرئيس لأركان حرب القوات المسلحة، يومها طلب رياض من عبد الناصر وعدًا بألا يقبل عودة سيناء بحل دبلوماسي، لابد أن تتاح لنا فرصة القتال، لو عادت سيناء دون قتال ستنهار البلد أخلاقيا.

بقرية سبرباي إحدى القرى المحيطة بطنطا بمحافظة الغربية ولد عبد المنعم رياض فى ٢٢ أكتوبر ١٩١٩ وكأن القدر أتى بالشهيد فى العام الذي عرف الكثير من الشهداء والنضال من أجل مصر.
تخرج في الكلية الحربية عام ١٩٣٨ وشارك فى كل الحروب التي خاضها الجيش المصري حتى استشهاده، من حرب فلسطين إلى الاستنزاف قضي سنوات من العمل والعلم والانضباط الصارم الذي لا يهتز. 
كان مؤمنا بالعلم أشد ما يكون الإيمان، درس رياض فى مصر وإنجلترا وفى الاتحاد السوفيتي وهناك أطلقوا عليه الجنرال الذهبي، أتقن العديد من اللغات بينها الإنجليزية والفرنسية والروسية التي كان يتحدثها بطلاقة. 


كظابط متحرف ومنضبط لم يكن راضيًا عن كثير من الأوضاع فى القيادة العسكرية قبل النكسة ولم تكن تلك القيادة تبادله الكثير من الود. حاولوا إبعاده ولكنه أبى أن يترك موقعة كمقاتل ويقبل بتعيينه سفيرًا وكان يردد دائمًا "أنا ظابط ابن ظابط" كما أن كفاءته لم تكن تترك فرصة للدسائس والأحقاد، تم تعيينه كرئيس أركان حرب القيادة العربية الموحدة كحل لإبعاده. اقترب رياض أكثر وأكثر من فهم الواقع العربي ومقدرة جيوشه، فى تلك السنوات من الستينيات كان رياض قد جمع الكثير من العلم والمعرفة وأصبحت لدية رؤية عميقة لأوضاع الشرق الأوسط. قبل النكسة طلب إعفاءه من الانتداب وعودته إلى جيشه لأن المعركة باتت وشيكة.
كان يفهم جيدًا أين تكمن قوة العدو، تفوق سلاح الجو هو ما يمكنه من الحرب الخاطفة، فلابد من كسر ذلك التفوق، الجبهة الشرقية شديدة الأهمية ولابد من تقويتها، كان من القلائل الذين التفتوا لذلك، لا يجب أن تؤثر المعركة على التمنية فالشعب يحتاج إلى أمواله ليبني المصانع، المعركة ليست فقط هامة لعودة الأرض، بل والشرف أيضا. كان يدرك جيدًا أن النصر الذي حققه العدو فى ٦٧ كان نصرًا خاطفًا ولكنه أصابهم بالغرور الشديد وأن هذا الغرور هو مفتاح النصر لنا إذا تمكنا من استغلاله.
بعد النكسة كان شديد التفاؤل بأننا سننتصر طالما أن إرادتنا لم تهزم، بالعلم والعمل والتخطيط سنعبر الهزيمة، إعداد المعركه يحتاج إلى وقت وصبر وبالإرادة سنحقق كل شيء.


بين سنوات الدراسة والعمل فى المعسكرات لم يتزوج رياض ولم تتغير حياته، لم يعرف الجاه والسلطة والأبهة، ظل يعيش فى شقته فى مصر الجديدة مع أخته التي كانت أستاذة بكلية العلوم جامعة عين شمس، كان شديد الحنان والحب لها وكانت هي تعتبر العناية بأخيها واجب لا تقصير فيه.
يروي الأستاذ محمد حسنين هيكل أنه قبل شهر واحد من استشهاد رياض قابلة ودار بينهم حوار طويل من السياسة والحرب تطرق الحديث للحياة الشخصية حيث قال له رياض: 


بعد المعركة، من يعرف كيف تسير الأمور.. ربما عاودت التفكير مرة أخرى فى مشروع الزواج.. أنت تغريني بأحاديثك عن البيت السعيد والأولاد، ولكن الوقت متأخر بالنسبة لى فى مسألة الأولاد. 
عندما يجيء السلام سوف أبحث عن قطعة أرض صغيرة أبني عليها بيتًا صغيرًا تحيطه الزهور.. سوف أقرأ كثيرًا وربما فكرت أن أكتب، وقد تكون هناك زوجة ترضي بالعيش مع عجوز مثلي.

أصبح يوم استشهاد عبد المنعم رياض رسميًا هو يوم الشهيد فى مصر وتحتفل مصر فى ٩ مارس من كل عام بشهدائها الأبرار. 
إلى أرواحهم جميعًا السلام ......