رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كتاب «تكوين مصر».. اشتباك تاريخى مع مسلمات التاريخ المصرى

المورخ محمد شفيق
المورخ محمد شفيق غربال

- المؤرخ شفيق غربال يرصد طبقات التاريخ المصرى منذ فجر التاريخ وحتى ثورة يوليو

لا شىء يمكن أن يُعين المصريين على الانطلاق للنهضة سوى معرفتهم بهوية مصر الحقيقية عبر التاريخ.. من هنا تأتى أهمية سلسلة كتب «الهوية» التى تُصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، ومن بينها كتاب «تكوين مصر» للمؤرخ العمدة، محمد شفيق غربال، مؤسس علم التاريخ فى جامعات مصر وتلميذ المؤرخ العالمى «أرنولد توينبى».. فى هذا الكتاب يسافر شفيق غربال فى سياحة عبر العصور التاريخية لمصر ويطرح آراء بعضها مثير للجدل وينتقد بعض جوانب الحضارة الفرعونية والفترة التى تلت فتح مصر.

صدر الكتاب عام ١٩٥٧ بعد قيام ثورة يوليو بخمس سنوات، ليرصد مراحل تكوين مصر عبر العصور، والمواقف، والأحداث التى مرت بها فأثرت فى تكوينها حتى أوصلتها للجمهورية الجديدة وقتها.

يبدأ الكاتب كتابه بنقطة فى غاية الأهمية وهى إعلانه أن مصر هبة المصريين وهى عبارة بليغة ومغايرة لعبارة أبوالتاريخ هيرودوت الذى وصف مصر بأنها «هبة النيل،» وأن النيل هو ما أعطى مصر مكانتها بين الأمم، ولكن الكاتب هنا يشير إلى أن المصريين هم من بنوا حضارتهم بسواعدهم، فهم الذين أسسوا الحضارة وتركوا حياة الرعى بعد انتهاء العصر الجليدى، ويشدد الكاتب على أنه من الصعب أن يكون النيل هو السبب الوحيد فى حضارة وعظمة مصر.. ويقول: فكم من بلاد وأقوام سكنوا جانب النهر ولم يحققوا شيئًا مما حققه المصريون. 

وفى فصل آخر يكمل الكاتب حديثه قائلًا إن تكوين مصر من أسبابه الرئيسية والمحورية هو الاستمرار والتغيير، وإن التفاعل بين هذا وذاك كان له بالغ الأثر فى التكوين المصرى. ويعرج الكاتب فى الحديث بعد ذلك إلى العلاقة الأزلية بين الحكومة والمجتمع فى تاريخ مصر والتركيز الأكبر هو على عصر المصريين القدماء، وما تلاه من عصور فالحكومة الألوهية فى عصر الدولة المصرية، والدولة البطلمية، والأباطرة الرومان، ثم الحكومة المستمدة من شريعة سماوية «المسيحية، والإسلام» ثم الحكومة الأخيرة القائمة على العقل. العامل الذى يركز عليه الكاتب فى علاقة الإنسان والمجتمع فى مصر هو أنه كانت هناك حضارة وتقدم بالفعل، ولكن كانت عن طريق حكم الحكومة الصارمة وأن الفرد كان يعمل ويكد، ولكن كانت هناك فئة تحصد الثروات وفئة تعمل فقط، وكأن حضارة مصر قائمة على العمل بدون تفكير حقيقى فتركت آثارًا عظيمة، ولكن دون أن تظهر فلسفات وإسهامات عقلية كبيرة مثل حضارة الإغريق وحضارات الشرق القديم «ما يقوله شفيق غربال محل جدل كبير حتى الآن».

الحلقة التالية فى رحلة تكوين مصر كانت عبر علاقة المدينة والريف بتاريخ مصر، فيوضح الكاتب أن الحضارة المصرية أو الشعب المصرى كان أساسه الريف أكثر من المدن، وإن كانت هناك استثناءات كمدينة طيبة التى كانت عاصمة للملوك المحاربين، ومدينة أخيتاتون لصاحب الثورة الدينية الأولى والأكبر أخناتون، وكان هذا متضادًا تمامًا مع الفكرة الإغريقية التى سيأتى بها الإسكندر الأكبر فيما بعد هو وخلفاؤه من البطالمة ثم الرومان بأن تكون المدينة هى سيدة المشهد، وقد ظهر هذا جليًا فى مدينة الإسكندرية فى العصرين البطلمى والرومانى رغم أنهم حرموا مصر من مدن أخرى مشابهة. يتطرق الكاتب إلى تأثير علاقة اليهود بمصر وأثر ذلك على تكوين مصر وكيف أثروا فى سياسة مصر واقتصادها، بل نظامها الاجتماعى على فتراتهم المتعاقبة عندما استوطنوا مصر فى عهد النبى يوسف، وبعد خروجهم وتكوينهم مملكة مستقلة فى عهد الملك سليمان ثم تأثيرهم مرة أخرى على مصر بعد عودتهم للاستيطان فيها فى العصور الإغريقية. يعرج بنا الكاتب لواحد من أهم مقومات تكوين مصر وشخصيتها وهى الفترة المسيحية وكيف تمت صناعة الحضارة المسيحية التى أخذت شكلًا فريدًا فى مصر وشعبها الذى وجد فيها خلاصًا من الهلينية التى كانت لا تناسب طبيعة شعب تربى على الدين والعالم الآخر منذ فجر التاريخ.. فوجدوا فى التشريع السماوى الجديد منفذًا لعودة الحياة الدينية للمقدمة من جديد، ثم يتحدث عن تأثير الخلاف المذهبى فى انقلاب المزاج العام للمصريين على البيزنطيين وقبولهم المد العربى الذى دخل بلادهم. الجزء التالى من الكتاب هو جزء مصر الإسلامية وتأثير ذلك على تكوين مصر، وكيف أثر ذلك بعد سنين على لغة المصريين ودينهم الذى تحول للإسلام شيئًا فشيئًا، واللغة تحولت للعربية سواء للمسلمين أو المسيحيين من المصريين، وكيف أثر استيطان العرب من البلاد الأخرى على دخول ثقافة العرب والإسلام مصر شيئًا فشيئًا وأصبحت عنصرًا أساسيًا من عناصر تكوين مصر، ولكن الكاتب يرى إيجابيات فى الثقافة الإسلامية فى مصر وسلبيات، فيرى من الإيجابيات استمرار الثقافة العربية فى مصر لفترات كبيرة على عكس دول الإسلام الأخرى مثل إيران أو تركيا أو الهند التى لم تتحول للعربية رغم إسلامها، ولكن من سلبياتها أنه يرى أن مصر لم يكن بها من العلوم سواء الدينية أو الدنيوية ما له الأثر البالغ، وحتى العمارة الإسلامية لم تكن كبقية البلاد الإسلامية جمالًا.. «رغم أننا يمكننا أن نختلف مع هذا الرأى كثيرًا».. الفصل الأخير من الكتاب هو عن مصر والغرب وكيف آثرت الحركة السريعة للغرب فى السنوات المئة والخمسين الأخيرة فى تكوين مصر، فالكاتب يقول إنه منذ الحملة الفرنسية على مصر نظر الناس إلى الغرب ليقلده تقليدًا أعمى، وهو يرى أن ذلك من الخطأ، يعرج سريعًا بنا للاحتلال الإنجليزى وتأثيره وأنهم أرادوا فصل المصريين عن مصر بطريقة أو بأخرى، ثم يتحدث أخيرًا عن ثورة ١٩١٩ التى لم تجن مصر ثمارها جيدًا فى رأيه فأضحى كل شىء جزئيًا، وأضحى الثوار مثل آبائهم فى الثورة العرابية، ولكنه يشدد على أن مصر بعد إخفاق الثورة العرابية احتُلت، ولكنها بعد إخفاق جنى ثمار ثورة ١٩١٩ كاملة حصلت على استقلال وصف بأنه منقوص، ثم أبرمت معاهدة ٣٦، ثم حصلت على الجلاء وأعلنت الجمهورية.