رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجشع سيدمر العالم

أحد عيوبنا الكبيرة أننا لا نعرف إلا القليل من أخبار العالم حولنا.. يمكن القول إننا محليون أكثر مما يجب، لذلك نتخيل أن العالم يرفل فى السعادة وأننا الوحيدون الذين نعانى، أحد أسباب هذا أن مصر أمة كبيرة.. والأخبار لدينا كثيرة.. لدينا فنون وجرائم ورياضة وكرة قدم ومشاهير وفتاوى ومعارك.. لذلك لا نريد أن ننظر حولنا.. ولا نهتم بتصريح لمسئول غير مصرى.. ربما بسبب حساسية قديمة من المستعمر.. أو عدم إتقان اللغات الأجنبية يجعلنا لا نميز أسماء الأجانب من بعضها البعض... لكن الحقيقة أن الأزمة التى يمر بها العالم تستدعى منا اهتمامًا أكثر بأخبار الآخرين.. وبالذات الأوضاع الاقتصادية والسياسية.. فالأزمة عامة.. والوضع أشبه بالأوانى المستطرقة.. ومن وقت لآخر يظهر تصريح يلقى لنا الضوء على جوانب خفية للأزمة.. أو أسباب تؤدى إلى تفاقمها لا يدركها رجل الشارع العادى ولا يضعها فى اعتباره عند الحكم على الأمور.. فى مصر مثلًا كما فى غيرها يميل رجل الشارع لإلقاء اللوم على الحكومة دائمًا، ويحمّلها مسئولية الوضع الاقتصادى من الألف إلى الياء.. وهناك فكرة طفولية تسيطر على الأذهان بأن تغيير المستويات العليا للحكم يحل كل العقد ويلغى كل المشاكل ويحل كل الأزمات.. وهى فكرة لها جذور فى السير الشعبية التى تبشر بالبطل الفرد والمهدى المنتظر.. الذى سيظهر فجأة ليملأ الأرض عدلًا ومالًا وعلمًا.. بغض النظر عن أمور مثل التعليم والناتج القومى ونصيبنا من الثروات الطبيعية وعادات العمل لدينا.. إلخ.. الحكومة لدينا مسئولة عن كل الخطايا والمشاكل والأزمات.. وهذا ما كبرنا عليه ووجدنا عليه آباءنا.. لكن من حين لآخر تظهر تصريحات تلقى الضوء على جوانب أخرى.. منها تصريح الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو جوتيريش» التى أطلقها فى مؤتمر الدول الأقل نموًا فى الدوحة أمس الأول.. إن مصر ليست من هذه الدول.. بيننا وبينها فوارق كبيرة جدًا جدًا.. ومع ذلك فإن ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة يهمنا.. وربما يمسنا.. إن الرجل ببساطة يطالب بأن تمارس الدول الغنية قليلًا من العدالة مع الدول الأقل نموًا.. أن تتوقف عن «الجشع» وفق تعبيره.. أن تُخرج قليلًا من المليارات التى تكنزها.. لأنه كفيل بحل أزمة فقراء العالم.. لقد طالب الرجل الدول الأكثر ثروة بأن تدفع خمسمائة مليار دولار للدول الأكثر فقرًا.. إن هذا المبلغ يبدو كبيرًا بالنسبة للأفراد.. لكنه مبلغ تافه جدًا بالنسبة لمجموعة دول غنية.. لقد خاطب «جوتيريش» الدول الأقل حظًا قائلًا: «العديد منكم محروم من الوصول إلى أسواق رأس المال بفعل معدلات فائدة جشعة».. وما يقصده الرجل أن الفقراء محرومون من حقهم فى الحصول على قروض بفوائد منطقية.. لأن الدول الغنية تتقمص شخصية «شيلوك» التاجر الجشع فى مسرحية شكسبير الشهيرة «تاجر البندقية».. إنها تستغل الفقراء وآلامهم لتحقيق مزيد من الثروة عبر فوائد مرتفعة وكأنها «مرابون جشعون فى العصور الوسطى».. لا دول كبرى من مسئوليتها أن تساعد البشر الأقل حظًا- دعك من النهب الاستعمارى ومخازى الاستعمار القديم والحديث-... وبحسب تصريحات جوتيريش.. فليست معدلات الفائدة المرتفعة على القروض فقط هى التى تزيد من معاناة الفقراء.. ولكن أيضًا ارتفاع أسعار الطاقة المبالغ فيه.. فهو يرى- على مسئوليته- أن بعض الدول استغل الأزمة لمضاعفة أسعار الطاقة وهو ما انعكس على ارتفاع أسعار كل شىء فى العالم، ومزيد من المعاناة للفقراء... وهكذا يرى الأمين العام للأمم المتحدة أن حرمان الفقراء من قروض بفائدة عادلة لتمويل التنمية، والضغط المتواصل عليها برفع أسعار الطاقة.. يجعل هذه الدول «تدور فى دائرة مفرغة» وفق تعبيره، وكأن هذا مقصود فى حد ذاته.. أن يبقى الأغنياء أغنياء والفقراء متعثرين دون تنمية.. فهو يرى أن هذه الضغوط تعرقل جهود الدول الأقل نموًا لتعليم شعوبها أو لتقديم الرعاية الصحية لها وبالتالى تظل الشعوب فى دائرة الفقر وتظل حكومات الدول الأفقر تقترض بالفوائد العالية.. ويظل من يقدمون القروض ويتحكمون فى الطاقة مستمتعين بإرهاق الأكثر فقرًا أو استغلالهم أو التحكم فيهم.. أو سرقة ثرواتهم الوطنية.. إن هذا ليس كلامى.. إنه كلام الأمين العام للأمم المتحدة.. وهو بالتأكيد أدرى بما يقول!