رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أيَّام سمير حُمُّص» سردية قصصية فى عوالم المهمشين

غلاف «أيَّام سمير
غلاف «أيَّام سمير حُمُّص»

«العلة» هى الخط العريض للحكايات.. والرمزية ناضجة وغير زاعقة ولا فجة.. والقالب محكم ومتماسك كوحدة مكتملة فى ذاتها

منذ عامين على الأرجح إذا أسعفتنى الذاكرة كنت قد قابلت مسئولًا عن النشر فى دار من دور الصف الأول؛ فى إحدى ندوات الاحتفاء بكتاب جديد. كانت رواية ضخمة البنية تقترب من سبعمائة صفحة. للحق كان الرجل شديد التهذيب واللباقة وسعة الصدر، ما جعلنى أروح وأجىء نحوه أفتح بابًا جديدًا للحوار كلما انغلق الاسترسال لأسباب شتى ارتبطت بالضجة المحيطة. حديثى الأهم معه دار حول القصة القصيرة وحركة نشرها التى تقل مع الوقت، بل يزهدها الناشرون إلا فى حالات محددة، مثلًا أن يكون الكاتب ذا صيت يضع ما لديه من إجادة للحكى بين دفتى كتاب ثم يُكتب عليه «قصص»، فيلتهم القراء كتابه للثقة التى مُهدت بينهم عبر أعوام وأعمال، أغلبها مستحق وقليلها مجرد انتفاخات دعائية ناجحة. ثم بالطبع يكسب الناشر من ورائه، وذلك حقه الذى يجب أن يسعى إليه. قال الرجل لى: «القصص القصيرة غير مربحة، القارئ الآن لا يسعى إلى شرائها» ثم أشعل استفزازى دون أن يقصد أو يتعمد مرددًا ما ألفته الألسنة «إحنا فى زمن الرواية». 

تركنى تعصف فى رأسى أسئلة الزمن والفن، ولا أدعى أن الأسئلة قد استكانت ولا أحبها أن تستكين، لكن يقينى بانتصار الفن يزداد يومًا بعد يوم. وأعتقد أن الزمن ما يُقيد فى إطار واحد إلا لمصلحة، وذائقة الناس يُفترى عليها إذ تؤخذ ذريعة للتضييق، على عكس ما جُبلت عليه من براح. 

وإذا كنت تظن أن القصة القصيرة تجرى على رصيف المحطة أملًا فى اللحاق، فدعنى أقُل لك إن القصة القصيرة مستريحة تمامًا فى جلستها داخل العربة، ومن كانت تجرى ليست سوى أشباح جسدها الوهم! فإن عملًا أدبيًا واحدًا بديعًا متقنًا ملهمًا كفيل باستعادة الزمن الفائت- إذا صدقنا فى ذلك- وإنارة مشاعل الرواج وكسب أرضية جديدة للتعدد الحميد.

لذلك أهديك أيها القارئ العزيز ومن بعده المنشغلون بتقييد الفن والزمن؛ هذه التحفة الفنية الجديدة، المجموعة القصصية «أيَّام سمير حُمُّص» للكاتبة والقاصة هند جعفر، الصادرة حديثًا عن «دار الشروق»، وقد شاركت فى معرض القاهرة الدولى للكتاب المنصرم منذ أيام فى دورته الرابعة والخمسين. حيث تُبحر بنا هند جعفر كربان مخضرم ماهر عبر تسع عشرة قصة تعد نموذجًا لفن القصة القصيرة، الذى أعتبره وجه الكاميرا المكتوب، إذ يهتم فى ركنه الأساسى على التقاط لقطة محددة معنية، وإن احتاج فى تبيانها الذى يحفظ للفن تساؤلاته وغموضه؛ لقص بعض الأبعاد المختبئة خلف تلك اللقطة من تفاصيل عن شخصياتها وتاريخها. وذلك ما فعلته الكاتبة بتمكن وجمال مدهشين. 

تدور أحداث قصص «أيَّام سمير حُمُّص» فى مدينة الواقع لا غيرها بما تحويها من أوطان صغيرة خلف الجدران داخل الوطن الكبير المسقف بالسماء. وتستطيع الزعم بعدما تندمج وتشتبك مع القصص أن للكاتبة همًا ممتدًا متغلغلًا فى كل القصص وإن اختلفت المصائر والإطارات المعبرة عنه، فى ظل سردية سلسة بليغة دون تكرار أو فقدان درجات الدهشة. وبالقراءة المتفحصة للمجموعة تشعر بالعناء الذى عايشته الكاتبة من أجل المسك باللقطة المرادفة لذلك الهم، لدرجة أن خيالك قد يصورها لك مبتهجة تصرخ عند كل قصة «وجدتها وجدتها». 

«العلة» كانت هم الكاتبة حيث يجوز اعتبارها الخط العرضى السائر فى أغلب القصص إن لم يكن كلها، حيث إن وضعنا كاميرا علوية ترصد وتكشف القصص فى لقطة مجمعة ستجد مجتمعًا بأكمله يحتضن العلة بأشكالها المختلفة، وكأن هند جعفر أرادت أن تلفت النظر إلى المصائر المتقاربة للناس فى هذا الواقع مهما أخفت الجدران ما أخفت، أو شعر كل واحد بعين حاله أن فيه ما يكفيه بما لم يورد على أحد. 

وإن بدت العلل فى ظاهرها قدرى بحت أو كما يُقال فى الشعبية الفصيحة «المكتوب على الجبين»، لكنها علل خاصة منسدلة ومنحدرة من علل عامة كبرى ومتعددة طويلة الأمد تم التلويح بها ضمنيًا بذكاء وفير، وباللعب على هذا الوتر صنعت الكاتبة هامشًا شفافًا من جمل قصيرة عابرة فى كل قصة دست فيها سببيات العلل بحداقة باهرة، قد يظنها البعض تفصيلات فى سبيل الاندماج، ولكن أستطيع اعتبارها محاور رئيسية للعلل التى بالحتمية مدرجة تحت لواء القدر! 

قصص «سمير حمص» المغزولة بمهارة ليست تطوف حول المهمشين فحسب ولا تؤكد على اتساع حصيرة التهميش حتى ابتلعت الأغلبية، لكنها تلفت النظر إلى زيادة العلة فوق كواهل المهمشين إلى حد ملازمة الأنفاس ومسايرة العمر، بل إن أثرها المعنوى يتجاوز المادى. وتدلنا القصص بحرفية أن ذلك لم يحدث بنفخة واحدة أو لحظة تاريخية بعينها، بينما بالانصياع لانكسارات التاريخ وتغييرات الأحوال المتتالية فتركت ندبات عديدة تبدأ صغيرة ثم تتفاقم الجراح دون التئام بالتداوى؛ تمامًا كآثار الأقدام خطوة تلو الأخرى حتى يكتشف السائرون مع طول الطريق أن التيه قد حل!

يعيش شخوص القصص حالة جماعية غير متفق عليها من مسايرة العلل، وانتظار النجاة عن طريق خلاصهم أو خلاص العلل بمعجزة تأتى فى غفلة من قلة الحيلة التى تغمرهم وتتجاوزهم لتشمل الصور فوق الجدران كما حدث فى قصة «بيكاتشو»، وأيضًا تدفعهم إلى التمسح بالرضا، بل هم صادقون فى شعورهم بالرضا لأنه الخيار الوحيد. حتى إن وافقت معجزة النجاة أحدهم كما فى قصة «عليان» لن تحدث مع الآخرين، على اعتبار أنها حقًا معجزة وليست ذات أسباب منطقية تعذر الوصول لأسبابها وسط كل هذا التضخم من التخبط والكمد والتقاعس.

لا أرى الغرابة فى هذه القصص تنتمى إلى عالم الفانتازيا أو الخوارق، بل أراها تضفى على العمل صفة المنطقية، لأن طول مسايرة العلة والتأقلم عليها كأمر واقع من شأنه أن يصل بالأمور إلى الغرائبية التى تقف مشدوهًا أمامها، وقد يكون سببها معنويًا بحتًا عصيًا على الظهور المادى، وأستطيع الادعاء بأن الكاتبة أظهرت الأسباب المعنوية بشدة إخفائها لصالح الحدوث الظاهرى المفاجئ للغرابة. فتجد تجسيد ذلك واضحًا فى القصة التى تسمّت المجموعة بها «أيَّام سمير حُمُّص»، حيث الرجل الذى استيقظ ذات صباح متقلب الهرمون نابت الثدى دون أن يصل إلى سبب طبى يشفى قهره. القصة عاينت معاناته مع الغرابة ومسايرته لها بقية عمره، لكن أعتقد أنها اختزلت سببها فيما لم يُقص، ربما من السياق العام للمجموعة القصصية ككل، وربما فى الليلة التى سبقت ذلك الصباح المذكور فى السطر الأول، حيث نام على كمد فبطش به حزن الليل فصحا على أغرب حال. فيقولون فى الحس الشعبى لا تنام على الحزن فيقتلك الهم، وها قد قتل الهم سمير حمص!

الرمزية فى هذه القصص ناضجة للغاية، غير زاعقة ولا فجة، بل تعد نموذجًا لفنها، قالبها محكم ومتماسك كوحدة مكتملة فى ذاتها، حيث تجعل القراءة متعددة الطبقات بتعددية الأذهان والمشارب، فإن فاتك المقصد الباطن لن ينقص متعتك وعبرتك استيعابك للمقصد الظاهر فقط؛ مثلًا كما فى قصة «حكاية ناقصة» والأمثلة متعددة فى كامل المجموعة البديعة.

أيضًا رمزية التأريخ أخذت حيزها فى قصتين أو ثلاث على الأرجح، وإن كانت أكثر استغلاقًا بعض الشىء. أعتقد أنه ليس هباءً أن الكاتبة تصدر القصة بتاريخ الحدث، بل هى تقصده لمغزى ما، ربما تقصد استغلاقه لفتح باب التأويلات على مصراعيه. واندفاعًا من هذا الاعتقاد مارست التأويل ببراح شديد وربما شطط فى قصة «ثورة بُنية ذات رائحة»، حيث بنت الكاتبة بتمكن ثورة فوق الأرض بين طرفين يحشد كل طرف أشداءه، وقد حددت اليوم السابع والعشرين من سبتمبر لهذا التجمع، ثم جرى ما جرى من أحداث، لكن ما وقع فى قلبى من تأويل أن هذه الثورة ليست فى الشارع على الإطلاق، بل إن هذا التاريخ نفسه هو تاريخ إنشاء أكبر محرك للبحث الإلكترونى نلجأ له جميعًا كلجوء فقراء التكية لولى نصاب، وكأنه تاريخ اندلاع ثورة خلف الشاشات وفوق الصفحات تمتلئ بالتراشق والتنازع، وسيل لا نهائى من التغوط! هكذا قرأتها!

من سوء قراءة هذه المجموعة القيمة الظن بأنها جزر منفردة، لكنها متصلة تمامًا حتى أكاد أظن أن أبطال القصص قد فوضوا «سمير حمص» ليمثلهم، بينما هى أيامهم جميعًا وليست أيامه وحده، أيامهم التى يسايرونها على حالها الشائع فيها العلة والمستبد بها الغرابة!