رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ومن التنمر ما قتل !

فتاة في الصف الأول الثانوي تودع طفولتها، وتستقبل عمرًا مديدًا بطلّة شبابية وبملامح أنثوية، فإذا بها تموت ضيقًا وحسرة !!
سأروي الحكاية الصادمة التي أعتذر- لذوي القلوب الرقيقة- عن سردها، لكنها درس ينبغي أن نتوقف عنده بالتأمل لننظر ماذا حدث لنا؟، مكررًا سؤال الراحل د. جلال أمين: ماذا حدث للمصريين؟ الحكاية باختصار، كما وردتني تفاصيلها، أن فتاة في الصف الأول الثانوي بإحدى مدارس الجيزة تعرضت لتنمر بعض زميلاتها فماتت من فورها على إثر أزمة قلبية حادة.
وسبب تنمر البعض بالفتاة ليس بسبب عيب في مظهرها مثلًا، ولا إعوجاج في سلوكها- حاشا لله- ولا حتى بسبب تخلُفها الدراسي ولا غيره من تلك الأسباب التي قد تكون مبررًا- غير مقبول بالطبع- لإقدام عدد من المراهقين في مصر وخارجها على الانتحار. 
سبب تنمر البعض على تلك الضحية- كما حكته لي إحداهن- هو عدم معرفتها بأمور الإنترنت والسوشيال ميديا، ما جعل الأمر مدعاة لسخرية بعض المتنمرات الصغيرات من زميلاتها، فماتت الفتاة كمدًا.
قد يرى البعض أن تلك واقعة تافهة لا ترتقي لأن تكون سببًا في وفاة إنسان، وهنا أعتذر عن القول: إن من تبادر إلى ذهنه هذا الرأي هو إنسان قاسٍ قلبه. فالمرض النفسي فيما يرى كبار الخبراء قد يكون مدعاة لموت محقق، وما أثبتته هذه الواقعة هو دقة تلك الدراسات. 
هنا أسأل: ألم تكن في تلك المدرسة، التي شهدت هذه الواقعة، إخصائية اجتماعية تعالج مثل هذه الأمور قبل أن تتفاقم وتصل لهذا الحد؟ ألا يجد المدرسون في هذه المدرسة أو تلك مساحة لإقامة علاقات ود إنساني مع طلابهم لحمايتهم من الزلل و إرشادهم للصواب ودفع عنهم أذى شرار الناس عنهم وإنقاذهم من الهلاك؟ هل كانت أم الفتاة مشغولة عنها لحد أنها لا تجد قلبها مفتوحًا لتشكو لها ما ينغص عليها حياتها وينتهي بها إلى الموت؟
ثم، هل أصبح تعاطي الإنترنت وصفحاته ومواقعه بديلًا عن تلقي العلم، فصار أمرًا ضروريًا كالماء والهواء  نتنمر على من لا يعبأ به ولا يهتم بشأنه؟ وما هذه القسوة التي تملأ قلوبًا غضة- كما يُفترض فيها- فيصل تنمر الفتيات بصديقتهن لدرجة نحرها معنويًا بدم بارد وبسخرية مؤلمة وباستظراف قاتل؟ 
رودينا، وهذا هو اسمها، فتاة أجمع مدرسوها والأنقياء من زميلاتها أنها فتاة هادئة، جميلة، مهذّبة ومتفوقة فهي من الأوائل بين أقرانها، حتى أن صورتها معلقة على الجدار الخارجي لمدرستها بسب تفوقها في الصف الثالث الإعدادي. ذكرت إحداهن أن رودينا ظلت تعاني من تنمر بعض زميلاتها منذ بداية السنة الدراسية والسبب- كما بلغني- هو أنها "مش بتفهم في السوشيال". وما حدث أن بعضهن بدأ يتنمر عليها في "جروبات" المدرسة، لدرجة أن الفتاة كانت تحاول الفكاك من هذه الأفاعي الصغيرة بمحاولة الهروب من جروب فإذا بهن يدخلنها في جروب آخر لتتواصل حملة التنمر.
انتهى الأمر بإصابة الفتاة بأزمة قلبية حادة في الساعة العاشرة مساءً. أسرع بها أهلها إلى أقرب مستشفى وعلى الفور أُدخلت الفتاة إلى غرفة العناية المركزة، لكن قلبها الصغير لم يحتمل حتى لفظت أنفاسها الأخيرة في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي. وعند سماع خبر وفاتها في المدرسة تساقطت المُدرسات وبعض زميلات الفتاة فاقدات للوعي، ولكن هيهات فهنا لا ينفع الندم. 
الأمر- وبدون تهويل- فوق ما نتصور من الخطورة، فلو صدقت تلك الوقائع التي ترويها صديقات ومدرسات الفتاة المتوفاة فإن إعادة النظر في منظومة التعليم وقيمه وأهدافه لا بد أن تُراجع على كل المستويات النفسية والتربوية والاجتماعية. وهنا يصبح العلاج الفوري لمثل هذه الأمراض الاجتماعية ضرورة مُلُحة وعاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جيل نأمل فيه وننتظر منه الخير. رحم الله رودينا وألهم والديها الصبر والسلوان ، وهدى الله من فعلن بها هذا.