رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أجانب أحبوا مصر [1]

في أعقاب الحرب العالمية الأولى وبداية ظهور الدولة المصرية، بدأت الهجرة إليها من مختلف الدول المحيطة بها، التي شملت بريطانيين من بقايا الإنجليز والفرنسيين واليهود واليونانيين والإيطاليين والأرمن. وأصبحت مصر في ذلك الوقت بموقعها الاستراتيجي ملاذًا آمنًا لكثير من الجنسيات التي تعرضت لويلات الحرب. 
الغالبية من الأجانب عاشت بأمان، وقدمت لمصر بعض الخدمات. وبعضهم تآمر على مصر ونهب من خيراتها. 
بعد غزو بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وفيما يعرف بأزمة السويس في أكتوبر 1956، حيث أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قرارًا بطرد الأجانب من مصر. 
لم يكن طردًا مباشرًا، ولكنها مجموعة من اللوائح الشاملة لإلغاء الحريات المدنية والسماح للدولة بتنظيم اعتقالات جماعية دون تهمة وإسقاط الجنسية المصرية من أي مجموعة، ولم يُسمح لبعض المحامين والمهندسين والأطباء والمدرسين بالعمل في مهنهم. كجزء من السياسة الجديدة، ربما كان المقصود هو اليهود.
تقتضي الأصول أن نعترف للأجانب بفضلهم على وطننا مصر، إنها عدة أفضال وليست فضلًا واحدًا.
كان قرار إخراجهم من مصر غير مدروس. وكانت له عواقب وخيمة على الثقافة المصرية. 
كان من نتيجة ذلك أن توقفت حركة ترجمة كتب الأجانب الذين عاشوا في مصر، وكتب الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر وكتبوا عن مشاهداتهم. ومن أمثلة تلك الكتب موسوعة وصف مصر التي حررها علماء الحملة الفرنسية، وبعض كتابات الشاعر والروائي لورانس داريل. لم يتم الالتفات إلى ترجمة تلك الكتب إلا مؤخرًا.
ربما كان الفضل للأجانب في حماية آثارنا من الاندثار. صحيح أن بعضهم سرقوا منها، ولكن أكثرهم وضعوا الأسس لعلوم المصريات، وأسسوا لعلم الآثار المصرية، وعلمونا كيف نكتشف الآثار وكيف نحافظ عليها، وكيف نعرضها في المتاحف، وكيف نستفيد منها سياحيًا، حتى صارت السياحة جزءًا من دخلنا القومي له تأثيره الهائل على ميزانيتنا.
يرجع لهم الفضل في إنقاذ البشرية من أقذر تجارة عرفها البشر وهي تجارة العبيد. وكان للإنجليز الفضل في منعها نهائيًا في مصر.
وربما نجاهر بأنهم خلصوا مصر من أسوأ طقس ديني في تاريخنا، وهو ما كان يعرف بالدوسة وطقوس عاشوراء التي مازال يمارسها الكثير من أهل إيران والعراق، وتقيمها الجاليات الشيعية في معظم الدول العربية. كان الأجانب هم أول من نبه إلى فظاعة الجرم الذي يرتكب في هذا الطقس الذي لا مثيل له. وهو أن ينام المؤمنون بالشيخ والطريقة على الأرض متلاصقين، ويكون شيخ الطريقة قد امتطى حصانه وأمسك اللجام ووجه الحصان لينطلق فوق أجساد البشر المتلاصقين، ويدوسهم بحافره الصلب المثبت به حدوة من الحديد، ويتحمل المخلصون للطريقة الذين استسلموا للموت تحت حوافر البهيم، سحق عظام ظهورهم واتلاف أجسامهم. ومن ينجو من حوافر الحصان تصيبه لوثة عصبية، ويظل طوال عمره مشردًا. 
والغريب أن هذا الطقس الفظيع كان يتم في مناسبة دينية جليلة، هي المولد النبوي الشريف، وفي حضرة ووجود الحكام. كلهم شهدوه وأقروه وخافوا أن يعلنوا معارضتهم لطقس ديني يتسبب في أذى المؤمنين.
كان الفريد بتلر الإنجليزي، الذي أحضره الخديو توفيق من بريطانيا في 1880 ليعلم أنجاله اللغة الإنجليزية هو أول من نبه الخديو إلى خطورة ما يحدث في كتابه الرائد "الحياة في البلاط الملكي المصري" فقد كتب يقول:
"عند اكتمال وصول المجموعات ووقوفهم على الأبسطة والحصر، كل في مكانه، صدرت إليهم إشارة فانبطحوا جميعًا على بطونهم بشكل عنيف. أخذ كبراؤهم في رصهم، والتأكد من أن أجسامهم ملتحمة ولا يوجد بينهم ثغرات. وكان البائسون يرتعشون ويزبدون ويتمتمون بأفواههم "يا الله يا الله". 
ويقول في موضع آخر«شاهدت تلوي هؤلاء المعذبين وسحقهم الرهيب تحت وطأة وزن الجواد وحوافره، التي راحت تسحق الأفخاذ والأكتاف والضلوع وعظام الظهر».  
عندما فاتح بتلر الخديو توفيق في أمر منع تلك العادة المميتة. أوضح له الخديو أن القلة المتعلمة فقط هي التي ستفرح بهذا القرار. ولكن الجموع الغفيرة من الجهلة سيستطيشون غضبًا وتستحوذ عليهم العصبية فتأخذهم لمنحى خطير. ووعده بأنه ربما تمكن من فعل ذلك خلال العامين القادمين.
وذات يوم يعرض بتلر على الخديو توفيق ما رآه في صحبة أصدقائه الشيعة، في ليلة عاشوراء، يسميهم بتلر بالفرس، ويسمي الليلة التي قضاها في احتفال الشيعة بالسهرة الفارسية. فبعد أن قص بتلر ما شاهده من الدماء التي أريقت في احتفال السهرة الفارسية، وأخبره أنه أشد وطأة من طقس الدوسة، أصغى إليه الخديو جيدًا ثم أخبره بأنه كلف أربعة عشر مخبرًا سريًا ليتحروا عن المصابين، لا يعرف الأطباء العرب والأجانب عنهم شيئًا، ولكن الدراويش قاموا بتهريبهم، وقد بدا جليًا أن الخديو أصبح مهتمًا بالأمر، وقرب نهاية الكتاب يعلن بتلر أن الدوسة قد ألغيت ويقول: "نزل الخبر على قلبي بردًا وسلامًا وأنا أؤكد لجلالته أنه سينال من الإطراء والتبجيل جراء هذا الصنيع ما يستحقه خاصة في إنجلترا" . ويقول بتلر إن الخديو لم يتمكن في السابق من إلغاء الدوسة قبل أن يتوفى شيخ الطريقة الشيخ البكري المعروف بالتحجر التعصب. 
ألفريد جوشو بتلر: مُؤرِّخ بريطاني، وباحثٌ في التاريخ المصري، وصاحبُ فكرةِ أول مشروع جمعية لحفظ الآثار القبطية. وُلد عام ١٨٥٠م بإحدى المدن الإنجليزية، تَلقى تعليمه الجامعي في جامعة أكسفورد، ووَاصَل دراستَه العليا بكلية براسنوز عام ١٨٧٧م، وحصل على درجة الدكتوراه عام ١٩٠٢م.  حضر إلى مصر عام ١٨٨٠م؛ حيث استدعاه الخديوي توفيق لتَولِّي مهمة التدريس لأبنائه الذكور، ومكَث فيها حتى فبراير ١٨٨١م، وأثناء إقامته بمصر انكبَّ على دراسة التاريخ والآثار القبطية والإسلامية، ففُتِن بالتاريخ المصري الإسلامي والقبطي، وقد دفعه هذا الافتتان إلى العودة إليها مرةً أخرى عام ١٨٨٤م، وراح يَطَّلع على الكثير من الكتب الخاصة بالتاريخ المصري، وانهمك في البحث والتأليف. 
وفي عام ١٩٠٣م دعا بتلر إلى تأسيسِ جمعيةٍ باسم جمعية تاريخ الآثار القبطية في مصر، وتَولَّى رئاستها، وقد انضمَّ إليها كلٌّ من عالِم الآثار الفرنسي جان كليدا مُكتشِف بقايا آثار دير الأنبا «أبولو» بباويط قُرب أسيوط، وعالِم العمارة القبطية «سومرز كلارك». غير أن المشروع لم يكتمل بسبب وفاته. 
له العديد من المُؤلَّفات المهمة حول التاريخ المصري، أهمها: 
الكنائس القبطية القديمة في مصر وهو مَرجع مهم للغاية في تاريخ الكنائس، وكتاب فتح العرب لمصر، وكتاب الحياة في البلاط الملكي المصري الذي يَحوي الكثيرَ من تفاصيل إقامته في مصر، وكتاب مدينة نابليون المصرية، وكتاب صناعة الخزف الإسلامية، وكتابه بحث في حقيقة المقوقس عظيم القبط. تُوفِّي ألفريد بتلر في ١٥ أكتوبر ١٩٣٦م عن عُمر يناهز ٨٦ عامًا.