رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لم يكن بنا ولا حسناً.. حينما أنكر الإخوان أي صلة لهم بمقتل مرشدهم (تفاعلي)

البنا
البنا

في الثامنة من مساء يوم 12 فبراير 1949م، والليل قد خيم على سماء القاهرة، كانت يمكن أن تصبح كأي ليلة هادئة، إلا أن الهدوء لم يكن سمة شارع الملكة نازلي بالقاهرة (رمسيس حاليًا) أمام جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، ففجأة الرصاص يتطاير، السيارات المشتبه بها تتسارع مبتعدة، مخلفة ورائها إصابة حسن البنا بسبع طلقات نجحت في أن تودي بحياة واحد من مؤسسي جذور الإرهاب المسلح، والذي تسبب في تجرع العالم ويلات أفكارهم المسمومة وبطشهم الدموي، وهو الذي كان سببًا في اقتناع آلاف الناس باتباع جماعة في ظاهرها دينية وفي باطنها شيطان متأصل في أعماقها.

حديثنا في السطور التالية عن حسن البنا مؤسس الجماعة الإرهابية، فرغم أنه كان طفل صغير لا يزال يتعلم قراءة وحفظ القرآن الكريم في إحدى كتاتيب المحمودية بمحافظة البحيرة، متأثرًا من نشأته في أسرة الريفية متدينة، لكن العوامل المحيطة به جعلته شخصية دموية ساهمت في إطلاق العنان لجماعة دينية تحولت فيما بعد إلى جماعة إرهابية منبوذة من العالم، بسبب تحول اتجاهاتها من الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى السياسة ومحاولة السيطرة على العالم باسم الدين.

مولده ونشأته

ولد حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا الساعاتي في 14 أكتوبر 1906 في المحمودية بمحافظة البحيرة، ونبدأ قصتنا معه من سن ثماني سنوات، حيث التحاقه بمدرسة الرشاد الدينية التي أسسها الشيخ محمد زهران، وهي تشبه الكُتّاب، وقال عنها "البنا" في كتابه مذكرات الدعوة والداعية: "تشتمل مواد الدراسة فيها -زيادة عل المواد المعروفة في أمثالها حينذاك - على الأحاديث النبوية حفظًا وفهمًا، فكان على التلاميذ أن يدرسوا كل أسبوع في نهاية حصص يوم الخميس حديثًا جديدًا يشرحه لهم حتى يفقهوه، ويكررونه حتى يحفظوه ثم يستعرضون معه ما سبق أن درسوه فلا ينتهي العام إلا وقد حصلوا ثروة لا بأس بها من حدیث رسول الله، حتى علق بالذهن منذ ذلك الحين، كما كانت تشتمل كذلك على الإنشاء والقواعد والتطبيق، وطرف من الأدب في المطالعة أو الإملاء ومحفوظات ممتازة من جيد النظم أو النثر". 

لم يتم "البنا" حفظ القرآن الكريم، فقد تمرد على الكتاتيب وذهب للمدرسة الإعدادية، فهو لما يتجاوز بعد سورة الإسراء ابتداءً من البقرة، ثم قرر الالتحاق بالمدرسة الإعدادية، ووسط الرفض التام من والده نجح "البنا" في إقناعه برأيه، فاتفق معه على إتمام حفظ القرآن من منزله إلى جانب الدراسة في المدرسة، وهو ما جعل والده يرضخ لرغبته، فالتزم "البنا" بالدراسة نهارًا في المدرسة ثم تعلم صناعة الساعات -وهي مهنة والده- حتى صلاة العشاء، ثم مذاكرة دروسه وحفظها، وكان الوقت الذي خصصه لحفظ القرآن بعد صلاة الصبح حتى يذهب إلى المدرسة.

تحولات جذرية

في تلك المدرسة، انتقل "البنا" إلى مرحلة أخرى من حياته مهدت الطريق أمام عقله لتأسيس الجماعة، فكانت نواة صغيرة زرعها مُدرس له، ليسير على خطواتها فيما بعد، ففي السنة الثالثة له أنشأ محمد أفندي عبدالخالق المُدرس بالمدرسة الإعدادية، جمعية أطلق عليها اسم "جمعية الأخلاق الأدبية"، والتي أُختير "البنا" فيما بعد رئيسًا لها.

نصت لائحتها الداخلية -كما ذكر "البنا" في مذكراته- على: "من شتم أخاه غرم مليمًا واحدًا، ومن شتم الوالد غرم مليمين، ومن شتم الأم غرم قرشًا، ومن سَبّ الدين غرم قرشين ومن تشاجر مع آخر غرم مثل ذلك،.وتُضاعف هذه العقوبة لأعضاء مجلس الإدارة ورئيسه، ومن توقف عن التنفيذ قاطعه زملاؤه حتى ينفذ، وما يتجمع من هذه الغرامات يُنفق في وجوه من البر والخير، وعلى هؤلاء الأعضاء جميعًا أن يتواصوا فيما بينهم بالتمسك بالدين وأداء الصلاة في أوقاتها والحرص على طاعة الله والوالدين ومن هم أكبر سنًا أو مقامًا".

ا

 انتهت المرحلة الإعدادية ليدخل في منعطف آخر، وكان قد استكمل ما حفظه من القرآن وأضاف إليه ربعًا آخر إلى سورة "يس"، ووقتها ارتاد مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور ليكون معلمًا بعد 3 سنوات، لم يكن "البنا" - وقتها- لديه أي ميول دينية أو سياسية، لكن خلال حضوره إحدى دروس الشيخ "زهران" بالمسجد التقى بمجموعة من مرتادي "الطريقة الحصافية" - من الطرق الصوفية واشتهرت بمقاومة الإنجليز- وارتبط بمجموعة منها: الشيخ شلبي الرجال، الشيخ محمد أبو شوشة، الشيخ سيد عثمان، ومن الشباب: محمد أفندي الدمياطي، صاوي أفندي الصاوي، عبدالمتعال أفندي سنكل، وفي تلك الحلقات كانت بداية اللقاء بين "البنا" و"أحمد السكري" -أحد الأربعة المؤسسين لجماعة الإخوان- وخلال تلك الفترة وقع في يده كتاب "المنهل الصافي في مناقب حسنين الحصافي"، وهو شيخ الطريقة الأول، الذي اتبع المذهب الشافعي، وأُعجب فيه بمواقف الشيخ المدافعة عن فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتهاده في العبادات والمواظبة عليها.

وطلب بعدها أن يعرفوه بالسيد عبدالوهاب نجل الشيخ "الحصافي"، وقد تم له الأمر، وتنبأ له الأخير بـ: "إنني أتوسم أن الله سيجمع عليكم القلوب ويضم إليكم كثيرًا من الناس"، وهنا قرر "البنا" إنشاء جمعية "الحصافية الخيرية" ليكون "السكري" رئيسًا لها و"البنا" سكرتيرًا لها، مهمتها نشر الأخلاق الفاضلة والنهي عن المنكرات كالخمر والقمار، ومقاومة الإرسالية التبشيرية الإنجيلية التي تبشر بالمسيحية، وكانت تلك الجمعية نواة تأسيس جماعة الإخوان المسلمين.

ويقول أن هناك عاملان كان لهم تأثير كبير في تشكيل فكره، هما مكتبة والده التي تجمع أنواع مختلفة من الكتب، مثل: "الأنوار المحمدية للنبهاني" و"مختصر المواهب اللدنية للقسطلاني" و"نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للشيخ الخضري"، كما كان يستأجر كتبًا بالأسبوع مقابل حفنة من المليمات، والعامل الثاني هو تشجيع مجموعة من أساتذة مدرسة "المعلمين" على البحث والدرس، ساهم ذلك في حفظه لعدد من المناهج العلمية خارج الدراسة من المتون في العلوم المختلفة فحفظ ملحة الإعراب للحريري ثم الألفية لابن مالك والياقوتية في المصطلح والجوهرة في التوحيد والرجبية في الميراث وبعض متن السُّلم في المنطق وكثيرًا من متن القدوري في فقه إبي حنيفة ومن متن الغاية والتقريب لأبي شجاع في فقه الشافعية، وبعض منظومة ابن عامر في مذهب المالكية.

 

من القهاوي انطلق "الإخوان"

ارتاد "البنا" كلية "دار العلوم"، وعلى أثرها نزل إلى القاهرة للدراسة، لكنه وجد فيها -من وجهة نظره- مظاهر البعد عن الأخلاق الإسلامية في كثير من الأماكن، ورأى أن المساجد وحدها لا تكفي في إيصال التعاليم الإسلامية إلى الناس، رغم تطوع عدد من العلماء بالوعظ في المساجد، ومنها جاءته فكرة تكوين مجموعة من طلاب الأزهر ودار العلوم للتدرب على الوعظ في المساجد ثم القهاوي ثم المجتمعات العامة ثم تكوين جماعة تنتتشر في القرى والريف والمدن المهمة لنشر تعاليم الإسلام، وعاونه في تلك الفكرة محمد مدكور خريج الأزهر والشيخ حامد عسكرية وأحمد عبد الحميد -عضو الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين فيما بعد- وغيرهم، وكان مقرهم في مساكن الطلاب بـ"شيخون" بمنطقة فيصل، ودقوا العمل في القهاوي ونجح "البنا" في جذب جمهور القهاوي إليه بحديثه الشيق الذي لم يتعدَ 10 دقائق في المكان الواحد.

 

في الإسماعيلية.. "البنا": لست مفتيًا

وانتقل أسلوبه الشيق في الوعظ إلى قهاوي الإسماعيلية أيضًا، حينما انتقل إليها بعد تعينه مدرسًا فيها، وأدى ذلك إلى تأثر عدد كبير من الناس بما يقوله حتى ألحوا عليه بضرورة وجود مقر للاجتماع بعد أو قبل حلقة الوعظ لدراسة تلك الأحكام باستفاضة، فاستقر الرأي إلى زاوية نائية عكف أهل المهن على ترميمها لتصبح مؤهلة للاجتماع بها، ورويدًا رويدًا تم افتتاح زاوية أخرى تمارس نفس الأنشطة، وذاع صيت هذا الدرس، وكثرت أعداد حاضريها، وفيها اعترف "البنا" أنه فقط مدرس يحفظ آيات القرآن وعدد من الأحاديث يرغب في نقلها للناس وتعليمهم الدين الصحيح وليس بشيخ له الصلاحية بالإفتاء.

 

مدرسة التهذيب للإخوان المسلمين

ظل "البنا" على هذا المنوال طوال النصف الأول من الفصل الدراسي، حتى جاء أحد الأيام وقرأ عن الاجتماع الأول لتكوين جمعية الشبان المسلمين برئاسة عبدالحميد بك سعيد، فأرسل إليها ليشترك معهم وواظب على دفع اشتراكها، وكان من مؤسسيها: الدكتور يحيى الدرديرى، ومحمود علي فضل، ومحمد الغمراوي والسيد محب الدين الخطيب وغيرهم، وفي مارس 1928م زاره حافظ عبد الحميد أحمد الحصري، فؤاد إبراهيم، عبد الرحمن حسب الله، إسماعيل عز، زكي المغربي، وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كان يلقيها، وطلبوا منه ضرورة تشكيل جماعة يرأسها "البنا" لنصرة الإسلام، ليكون هدفها أن تعاهد الله مخلصة على أن تُحيي دينه، وتموت في سبيله، لا تبتغي بذلك إلا وجهه، فوافقهم "البنا" وقرر أن يسميها "الإخوان المسلمين".

وعن الجماعة، كتب "البنا": "اتفقنا على أن نستأجر حجرة متواضعة في شارع فاروق في مكتب الشيخ علي الشريف بمبلغ 60 قرشًا في الشهر. نضع فيها أدواتنا الخاصة ونجتمع فيها اجتماعاتنا الخاصة، على أن يكون لنا حق الانتفاع بأدوات المكتب بعد انصراف التلاميذ ابتداء من العصر إلى الليل ويسمى هذا المكان مدرسة التهذيب للإخوان المسلمين".

 

البداية السياسية

تمكنت الجماعة بعد ذلك من تثبيت أقدامها في ربوع مصر، إلا أنها لم تستمر في كونها جماعة دعوية فقط، فقد وجد "البنا" أن رفعة الإسلام لا تتوقف فقط على نشر التعاليم الإسلامية بين الناس، إنما يجب أن يكون الحكم أيضًا متحالفًا مع الإسلام لتصبح دولة قوية، فالتغيير بدأ منذ العام 1936م، في "التايم لاين" التالي نوضح لك مراحل توغل الإخوان في السياسة

 

أنشأ حسن البنا جناحًا مسلحًا للإخوان المسلمين، عُرف باسم التنظيم الخاص، قدم تدريبات عسكرية لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين وشاركت في العديد من العمليات المسلحة، وانطلقت نواتها الأولى من جمعية "منع المحرمات"، كان اسمه في البداية "فريق الجوالة" وهدفه تكوين فرقًا عسكرية تحقق فكرة الجهاد في الإسلام، حسب شهادة مؤرخ التنظيم محمود عبد الحليم، ومن خلال الفيديوجراف التالي نوضح لك كيفية تعاليم الجناح العسكري لجماعة الإخوان الإرهابية

 

"الجماعة" في عيون الدراما

وخلال تلك المدة، أُنتجت عدد من المسلسلات والأفلام التي تحدثت عن الجماعة الإرهابية، ومنها ما تحدث عن حياة البنا منذ مولده وحتى مقتله، ونوضحها لك باستخدام أداة "فلوريش"

 

مقتل "البنا"

وإلى هنا تنتهي أسطورة "حسن البنا" الذي اعتبره أعوانه نبي الله على الأرض بمقتله عام 1949م، لكن لا يزال لغز "من قتل البنا" مستمرًا، وذلك بسبب كثرة أعدائه، والقصة المعلنة أنه في الثامنة من مساء السبت 12 فبراير 1949 كان حسن البنا يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين ويرافقه رئيس الجمعية لوداعه ودق جرس الهاتف داخل الجمعية فعاد رئيسها ليجيب الهاتف فسمع إطلاق الرصاص، فخرج ووجد "البنا" مصابًا بسبع طلقات، محاولًا اللحاق بسيارة القاتل التي تحمل رقم "9979"، ولفقده الكثير من الدم، لفظ أنفاسه الأخيرة في منتصف الليل، وظل قاتله مجهولًا حتى اليوم، وفيما يلي نورد لك عدد من الروايات التي حاولت التوصل إلى قاتله.

الرواية الأولى تذهب إلى اشتراك الملك فاروق وتابعيه في عملية قتل "البنا"، لكن هذه الرواية نفاها محمد نجيب، القيادي السابق في النظام العسكري للإخوان، قائلاً: "الحقيقة المؤكدة أن الملك فاروق بريء من هذا الاتهام، وبريء من دم البنا، ولم يشارك ولم يسعَ في قتله"، وذلك في تصريح له عام 2008م.

والرواية الثانية تذهب إلى قتل "البنا" على يد "عبدالرحمن السندي"، قائد التنظيم المسلح للإخوان، وذلك بسبب خلافات نشبت بينهما وتمرد "السندي" على "البنا" في كثير من القرارات، حيث أصدر أوامر بعدد من الاغتيالات أثناء سفر "البنا" إلى الحج عام 1948م، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي إزاحة "السندي" عن قيادة التنظيم المسلح وتعيين سيد فايز بدلًا منه، أيضًا ما زاد ثورته هو بيان "البنا" الذي تبرأ فيه من المسئولين عن حادث تفجير محكمة استئناف القاهرة فى يناير ١٩٤٩م، بعنوان "ليسوا إخوانًا.. وليسوا مسلمين"، فأدى ذلك لاغتيال "السندي" لـ"البنا" و"فايز" فيما بعد.

وما أكد تلك الرواية هو تحليل القيادي الإخواني صلاح شادي، مسئول قسم الوحدات في النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين، في مذكراته: " عبدالرحمن السندى قائد قوات النظام الخاص كان يشعر بالاستقلال عن المرشد والجماعة، وكان يتعامل مع المرشد على أنه المتحدث الرسمى باسم السندى والنظام الخاص، والذي يجب عليه أن يغطي ويبرر كل الجرائم التي يرتكبها السندي وتنظيمه العسكري السري من وراء ظهر المرشد".

ورواية ثالثة تقول إنه قُتل على يد أفراد من الداخلية، حيث أُتيحت فرصة التحقيق في الأمر بعد ثورة 1952م، والتي تولاها ضباط الثورة الذين تحالفوا مع الإخوان في بداية حكمهم، حيث تم القبض على  المقدّم محمّد الجزار، والعميد محمود عبد المجيد، والمخبرين الأربعة المتهمين بقتل "البنا"، وتم التحقيق معهم في السجن الحربي، وتم الحكم عليهم بأحكام مختلفة في أغسطس 1954م، وهو ما أكده سامي شرف، سكرتير الرئيس جمال عبد الناصر للمعلومات ووزير شؤون الرئاسة، في مذكراته "سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر".

أما الروايات الأخرى، فاستندنا فيها إلى موسوعة "القتلة.. جذور العنف عند مرشدي الإخوان" للدكتور محمد الباز، فكتب 

كلف إبراهيم عبدالهادى رئيس الوزراء عبدالرحمن عمار المشرف على البوليس السياسى والأمن العام والرقابة بمراقبة البنا، وبالفعل فرض الرقابة عليه ليلا ونهارا، ومن يحاول أن يقابله يلقى القبض عليه، كل ذلك دون أن يتم القبض على البنا نفسه، قد عمل مع "عمار" قبل ذلك عندما كان مديرًا لمديرية جرجا، قائمقام حكمدارا لبوليس جرجا اسمه محمود عبد المجيد خليل، والذي عُرف عنه أنه ضابط دموي، واستدعاه "عمار" وعينه مديرًا لإدارة المباحث الجنائية بوزارة الداخلية، وطلب منه بشكل مباشر تصفية البنا، على الفور أرسل محمود عبدالمجيد فى طلب الصاغ أمين حلمي والصاغ حسين كامل والملازم أول عبده أرمانيوس، وكانوا يعملون معه فى جرجا، كما أرسل إشارة تليفونية إلى جرجا طلب فيها ندب المخبر أحمد حسين جاد، والمخبر محمد سعيد إسماعيل، والمخبر حسين محمدين رضوان، لتسليم أنفسهم في وزارة الداخلية، وكانوا من رجال "عبد المجيد"، وعُرفوا بالقسوة الشديدة والجرأة والطاعة العمياء، وعندما فاتحهم فى أمر مقتل حسن البنا وافقوا على الفور ودون تردد..

ونجح الصاغ عبدالمجيد العشري، من ضباط البوليس السياسي، في تجنيد اثنين من كوادر الإخوان للعمل معه كمرشدين له لنقل ما يدور فى كواليس الجماعة، وهم عبد الفتاح عشماوي ومحمد أحمد سليمان، المدرس بمدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة، إلا أنهما أخبرا "البنا" بأنهم جُندوا للعمل مع البوليس السياسى فوافقهم على ذلك لمعرفة نوايا البوليس السياسي تجاه الجماعة، وتم تكليف المخبر عبدالمنعم على إبراهيم بمراقبة منزل البنا في 15 شارع سنجر الخازن قسم الخليفة وإبلاغ تحركاته أولا بأول للقلم السياسى، ووضع محمود عبد المجيد، الضابط الدموي، أكثر من خطة لاغتيال "البنا"، لكن كلها باءت بالفشل.

وفى صباح يوم 12 فبراير 1949م، استدعى إبراهيم عبدالهادى قريبه محمد الناغي وطلب منه استدعاء "البنا" إلى جمعية الشبان المسلمين ليبحث معه أمر معتقلي الإخوان، ويقول له أن رئيس الوزراء سمح له بمقابلتهم يوم 14 فبراير، وبالفعل ذهب "الناغي" إلى الجمعية وسأل: هل جاء البنا؟، ولما قالوا له أنه لم يحضر، طلب من محمد الليثي، ئيس قسم الشباب بجمعية الإخوان المسلمين، أن يحضره لمقابلته الليلة لأمر ضرورى، وبالفعل ذهب إليه "الليثيط وجاء به إلى الجمعية، وطلب "البنا" من زوج شقيقته عبد الكريم منصور المحامي، مرافقته، وفي الطريق لاحظ "البنا" أن هناك سيارة تتبعهم لكنه لم يلتفت لها، وعندما دخل الجمعية توجه إلى غرفة "الناغي" وانتظره صهره فى غرفة محمد الليثى.

وفي تلك الأثناء، كان أحد ضباط البوليس السياسي قد ذهب إلى كوبانية الكهرباء، بحيث تكون الرؤية خافتة، وجلس الجاويش محمد سعيد إسماعيل والأمباشي حسين محمدين رضوان على قهوة العسيرات بملابسهم الرسمية، حتى إذا تم القبض على الجناة يستلموهم من الأهالي، وكانت سيارة البكباشي محمد وصفى تقف قريبة من مكان الجمعية، حتى يركب فيها الجناة للهرب بها، واصطحب الملازم أول عبده أرمانيوس المخبر أحمد حسين إلى أحد البارات القريبة وسقاه عدة كئوس من الخمر، ثم اتجه إلى شارع الملكة نازلي، ووقف أحمد حسين أمام محطة الترام التى تقع أمام جمعية الشبان المسلمين عدة دقائق، ووصل مصطفى أبو غريب ووقف بجوار أحمد حسين، وعلى الناحية الأخرى كان يقف الصاغ حسين كامل مرتديا ملابس مدنية، وقريبا منه وقف عبده أرمانيوس، وأراد القائمقام محمود عبد المجيد أن يثبت أنه بعيد تماما عن موقع الحادث، فظل فى مكتبه بوزارة الداخلية حتى الظهر، ثم ذهب إلى المعرض الصناعي مع مدير الشرقية، ثم ذهب لعدة أماكن بعدها.

ونعود إلى مشهد "البنا" الذي مهمته فى الجمعية، وطلب عبد الكريم منصور من صالح عوض ساعى الجمعية أن يحضر لهم تاكسى، ونزل "الليثي" مع "البنا"، وأثناء خروجهم نادى أحد السعاة على "الليثى" وقال له: تليفون لك، فطلب منه "البنا" أن يعود، وتحرك التاكسى ببطء، وكان أحمد حسين ومصطفى أبو غريب يرتديان جلاليب، ولكن أبو غريب كان يلبس بالطوا أسود وأخفيا وجهيهما بالكوفية، اقترب أحمد حسين وأطلق الرصاص على زجاج الباب فهشمه، فتوقف التاكسى وارتمى السائق أسفل الأرضية، التفت مصطفى أبو غريب ناحية الباب الآخر كى يمنع عبد الكريم منصور من النزول، حاول أبو غريب منعه، وعندما تغلب عليه "منصور" أطلق أول رصاصة استقرت فى ساعده الأيمن، واستمر فى المقاومة رغم إصابته فى الفخذ الأيسر، كان أحمد حسين يفرغ رصاصه فى البنا، فأصيب بست رصاصات، رصاصة فى صدره من الجهة اليمنى، وخمس رصاصات بظهره، فى أثناء الضرب نزل زكى عبد التواب الموظف بالجمعية، فشاهد الشخص الذى يطلق الرصاص، وتعرف عليه لأنه كان يعمل كاتب المباحث الجنائية فى الوزارة، وتأكد أنه مخبر جرجا أحمد حسين، وتحرك عبده أرمانيوس وصاح: قنابل.. قنابل.. فتفرق المارة وأغلق أصحاب المحلات محلاتهم وحدث هرج ومرج بالشارع.

 وقتها هرب الصاغ حسين كامل، واختفى المخبرين الجالسين على المقهى، بعدأن تأكدوا أن أحدا لم يمسك بزملائهم، وقتها أيضا نادى محمود عبد المجيد على سائقه الجاويش محمد محفوظ، وقال له، تعرف نادى نقابة الصحفيين؟، قال له: أيوه يا فندم، فقال له: "اذهب هناك وانتظر واجعل مقدمة السيارة ناحية عبدالخالق ثروت، وهاييجى لك اتنين لابسين ملابس بلدية هاتهم على هنا فى اللوكاندة".

 نعود إلى البنا مرة أخرى.

 وفي هذه الأثناء، جاء أحد الشباب يجري من الناحية الأخرى، وقال صائحاً: أخذت رقم العربية التى هرب فيها القتلة ورقمها ٩٩٧٩ خصوصي مصر، وحينما كان "البنا" يخضع للعلاج، قال للطبيب : مفيش فايدة أنا هاموت، ثم نطق بالشهادتين.. وقال إن الله حق، وفى تحقيقات النيابة، ثبت أن السيارة مؤجرة لحساب وزارة الداخلية، وهى مخصصة لاستخدام القائمقام محمود عبد المجيد مدير المباحث الجنائية بالوزارة، وقد انتشر الخبر بأن السيارة الضالعة فى تهريب الجناة تخص محمود عبد المجيد، وكانت المفاجأة أن مجهولا أرسل خطابا إلى النيابة سرد فيه تفاصيل ما جرى، وتمت محاكمة الجناة أمام محكمة الشعب بعد الثورة، لكن بعد أن ساءت العلاقات بين "الثورة" و"الجماعة" أمر "عبدالناصر" بالإفراج عنهم .

وفي دراسة للكاتب سيتى شنودة، ذكر أن آراء قادة جماعة الإخوان التي سجلوها فى مذكراتهم تتناقض فيها رواياتهم حول تفاصيل حادث اغتيال حسن البنا، كما وجد وقائع أخرى تشير إلى شدة الاختلاف بين الشيخ البنا وعبد الرحمن السندى قائد النظام الخاص العسكرى للجماعة، ووصل الأمر إلى حد حدوث مشادة كلامية، وهو ما أورده عبد العزيز كامل فى مذكراته " فى نهر الحياة"، وبدأت دراسة "شنودة" بما ذكره صلاح شادى القيادى السابق في التنظيم العسكرى لجماعة الإخوان المسلمين فى مذكراته " حصاد العمر" عن شعور السندى بالاستقلال عن المرشد والجماعة، الأمر الذى جعله يتعامل مع المرشد على أنه المتحدث الرسمى باسم التنظيم السرى والذى يجب عليه – فى نظر السندى – أن يغطى ويبرر كل الجرائم التى يرتكبها السندى وتنظيمه العسكرى السرى من وراء ظهر المرشد، لذا اتخذ "البنا" قراره بإزاحة "السندي" عن قيادة التنظيم السرى بعد حادث اغتيال النقراشى باشا فى ديسمبر 1948، وبعد أن حول السندى التنظيم إلى فصيل مسلح متمرد على المرشد والجماعة، فقد أراد أن يجنب الجماعة صراعا فى داخلها لا تحمد عواقبه. 

ويقول شادى: بعد شهر واحد من إقالة السندي وفى يوم 12 فبراير 1949  تلقى الإمام البنا استدعاء من مجهول إلى المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين وبينما كان يهم بركوب السيارة الأجرة التى كان يستقلها مع صهره عبد الكريم منصور، أًطفئت أنوار شارع الملكة نازلى الذى يقع فيه بناء الجمعية وأطلق عليه المخبر أحمد حسين جاد الرصاص، وصعد المرشد على سلالم دار الشبان بالرغم من إصابته، وطلب عربة الإسعاف بنفسه تليفونيا وحملته العربه إلى قصر العينى حيث لاقى ربه بسبب النزيف الذى لحقه من إصابته، لكن الغريب أن صلاح شادى وحده من بين الإخوان الذين كتبوا عن اغتيال حسن البنا هو الذى أشار إلى الاستدعاء الخفى لحسن البنا، وقد يكون لذلك سبب واحد، وهو أن الإخوان يعرفون صاحب هذا الاستدعاء جيدا، ولابد أنه قريبا جدا من "البنا" للدرجة التى يطلب منه فيها أن ينزل من بيته وهو محاصر ويحسب كل خطوة يخطوها خوفا من الملاحقات الأمنية فينزل.

وفي دراسة أخرى للكتور حلمي النمنم، وزير الثقافة السابق، أشار إلى ما نشرته جريدة الأهرام في 12 فبراير 1949، حيث أقرت بأن الإخوان المسلمين هم الذين قتلوا حسن البنا لأنه كان ينوى إبلاغ الحكومة عن مكان الأسلحة ومحطة الإذاعة السرية، وأن وزارة الداخلية تلقت من الشيخ حسن البنا خطابا بعنوان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين"، وجه فيه اللوم إلى الذين ارتكبوا الحوادث الماضية وأشار إلى حادثة محاولة نسف مكتب النائب العام، حيث أرسل منذ أيام خطابًا إلى وزارة الداخلية يعلن فيه اعتزامه تسليم المحطة السرية والأسلحة وغير ذلك مما تحت يد الإخوان إلى السلطات المختصة، وأنه على أثر تلقى خطاب تهديد بالقتل إذا أذاع أى سر من أسرار الجماعة، ويرى "النمنم" في دراسته: كان البنا يعرف أن نهايته اقتربت وكان عاجزا عن التصرف، لو كشف كل أسرار الإخوان لقتلوه، ولو لم يكشفهم سيبقى قرار الحل وممنوعا عليه العمل.

وكتب: لو أن إبراهيم عبد الهادى كان كلف بالجريمة لكشف أمره، خاصة أنه أحيل إلى محكمة الثورة وصدر عليه حكم بالإعدام تم تخفيفه وأفرج عنه صحيا بعد شهور، وفى محاكمته لم يرد ما يثبت تورطه فى اغتيال البنا، تبقى المسألة بين انتقام السعديين لشهيدهم وزعيمهم النقراشى وبين الإخوان، ومن اللافت أنه بعد قيام الثورة تم اغتيال أحد مسئولي جماعة الإخوان فى إحدى قرى الإسماعيلية لأنه كان مدرب عبد المجيد حسن قاتل النقراشي.

وختامًا نورد لك أهم الوثائق التاريخية التي ذُكرت عن "البنا" والجماعة الإرهابية: