رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الشعر» ينجو بالثقافة المصرية من «غزو البلهاء»

لا يمر يوم إلا وتثبت مصر أنها بوصلة الثقافة العربية، دائمًا وأبدًا. هى محددة اتجاهاتها التى ترشدها إلى الطريق الأصح لمن يريد القراءة والتعلم والاستمتاع، وهى قاطرة العمل الثقافى الجاد والإبداع والسير فى طريق النهضة والتنوير.

حدث ذلك فى بدايات القرن الماضى، وما شهدته القاهرة من نهضة مسرحية وسينمائية وغنائية، بل وشعرية وفكرية، قادها أحمد شوقى، أمير الشعراء، وحافظ إبراهيم، وعمدة الروائيين والكتاب محمد حسين هيكل، وغيرهم من كبار الكتاب والفنانين والمفكرين كعبدالله النديم ومحمد عبده وبيرم التونسى وبديع خيرى، تكرر الأمر مع جيل السحار ونجيب محفوظ، وعبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور، ثم تكرر مرة ثالثة مع شعراء السبعينيات، بأصوات حلمى سالم ورفعت سلام وحسن طلب وأمجد ريان وعبدالمنعم رمضان، ورفاقهم من الروائيين والمسرحيين، وفى مختلف مجالات الإبداع.

على أن النقلة الأكبر التى قادتها مصر، كانت تلك التى حدثت عندما أطلق الراحل جابر عصفور مقولته المدوية حول «زمن الرواية»، فانطلقت من بعدها نهضة روائية عربية شملت جميع الأقطار، فتعددت الأصوات والإصدارات، وتلاحقت الموجات مختلفة الذائقة والاتجاه، صبت فى مجملها فى صالح الكتابة الأدبية والفكرية العربية، فكادت أن تلحق بالكتابات العالمية، بل وتنافسها على كل الأصعدة، فى الجودة والجدة والتفرد والطليعية والقدرة على التعبير عن مخزونات الثقافة العربية وتفردها، فكان أن فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وسطعت نجوم الطيب صالح فى الرواية، ويوسف إدريس فى القصة القصيرة، وسعدالله ونوس وعبدالرحمن الشرقاوى فى الكتابة المسرحية، وغيرهم كثيرون وكثيرون..

استمر ذلك إلى فترة غير بعيدة، حيث ظهرت للمرة الأولى فى الأدب العربى نوعيات من الكتابة الروائية المتأثرة بالثقافة الغربية، والمأخوذة عنها، خصوصًا تلك التى تضع عينيها على «السينما»، مثل روايات الرعب والخيال العلمى.. بالفعل كانت هناك محاولات قبلها، لكنها كانت أكثر نضجًا، ووعيًا بالحاضر، وما يلزم الإنسانية فى رحلتها نحو المجهول، من تغيرات ومحددات تعينها على النجاة فى المستقبل البعيد والقريب على حدٍ سواء، بينما اتسمت غالبية المحاولات التالية بالوقوع فى فخ «الطبخة الأمريكية» دون غيرها، ودون أن يدرك كتابها ومتلقوها أنها «طبخة ترفيهية» بحتة، لا تخص أحدًا غير جمهور «هوليوود» من الصبية والمراهقين وربات البيوت.

بعدها جاءت الجوائز الخليجية السخية، وإن كانت مصر قد سبقتها جميعًا بجائزة الرواية العربية، وجائزة نجيب محفوظ، لكن الملفت أن تلك الجوائز الجديدة أضرت بفن الرواية بعد ازدهار قصير لم يستمر أكثر من سنوات معدودة، فلعبت دورًا شديد الوضوح فى انهيار الرواية، وتحولها إلى ساحة للتكسب السريع، والشهرة الزائفة، بفعل عوامل كثيرة تضافرت مع بعضها البعض لتحولها إلى مسوخ غريبة، لا أدوات تفرز الغث منها من السمين، حتى وصلت إلى «المستنقع» الذى نعيشه الآن.

على أن أبرز تلك العناصر، فى ظنى، هى «سبوبة» ورش تعليم كتابة الرواية التى تكاثرت فى السنوات الأخيرة بصورة غير طبيعية، والتى تديرها دور نشر صغيرة، ويقوم بها كتاب صغار لم تتشكل ملامحهم بعد، ومعظمهم من محدودى الخبرة ومتوسطى الموهبة، والغالبية منهم من قراء وتلاميذ «أديب الشباب» ومن لف لفه من جمهور النقل عن «سينما هوليوود» فارغة المحتوى، ومُلخصى الروايات العالمية لتناسب المراهقين وربات البيوت، والباحثين عن وسيلة سريعة ومغرية للشهرة والتكسب دون جهد حقيقى، أو قيمة حقيقية لما يكتبون.. ترافق مع تلك الظاهرة وافد آخر منقول أيضًا عن الغرب اسمه «المحرر الأدبى»، ذلك الذى يتولى الكتابة عن المؤلف، ويقوم بتغيير مشاهد «القصة»، فلا يتردد فى الإضافة أو الحذف أو إعادة الترتيب، وتغيير الفصول والعناوين، وغيرها من عناصر «التحرير» التى توكله بها دور النشر وفقًا لحسابات التوزيع، أو الجوائز، أو ما يريده جمهورها، وقراؤها، لا وفقًا لما يريد الكاتب توصيله، أو قوله، أو ما لديه من أفكار وتصورات، أو قناعات، ورغم ذلك فإن ما يحدث أن غالبية ما تخرجه مطابعنا من «حكايات» تؤكد أن مهنة «المحرر الأدبى» فى دور النشر العربية لا يجيدها أحد، بل وربما لا يعرفون عنها شيئًا، ولا يخرج العاملون بها عن كونهم مجرد موظفين، يجيدون التصحيح اللغوى، ولا شىء آخر.

باختصار، فإن ما حدث خلال السنوات القليلة الماضية يجعلنا نذهب إلى القول إن الرواية العربية تعرضت إلى ما يمكن أن نسميه بـ«غزو البلهاء»، المصطلح الذى أطلقه المفكر الإيطالى أمبرتو إيكو حول ما يتم نشره على صفحات مواقع التواصل الاجتماعى، ولا أجد أفضل منه للتعبير عن الحالة التى أصابت فن الرواية فى العالم العربى، فجعلته أسيرًا لسيدات وفتيات يعانين الفراغ، فيقتلنه بروايات منحوتة من أفلام السينما التجارية ومسلسلات التليفزيون، وغيرها من المصادر السهلة لحكى القصص، وشباب تربوا على كتابات أشخاص نالوا شهرة كبيرة من تلخيص الروايات ومسلسلات الخيال العلمى، وادعوا لأنفسهم ألقابًا لا أصل لها، ولا ظل من الحقيقة.

ولهذا فإنه وسط هذا الركام من الكتب التى تنشر تحت مسمى الرواية، ليس غريبًا على مصر أن يعود الشعر والقصة القصيرة إلى الظهور بقوةٍ وجمالٍ وتفرد، بل ويتصدران المشهد الثقافى المصرى.. وتكفيك جولة سريعة فى أجنحة دور النشر المصرية الجادة بمعرض القاهرة الدولى للكتاب لتصافح عينيك عشرات الدواوين الشعرية المتفردة، والمجموعات القصصية بارزة الموهبة والحضور والتألق، ما يؤكد قدرة مصر وحدها على ضبط المشهد الثقافى العربى، وتحريره من سطوة المال وتجار الكتب والمقولات الفارغة.

فهنا.. فى مصر وحدها، ترى إقبال القراء على كتب الشعر والقصة القصيرة، ويعلو صوتهما، فتنتصر الإنسانية، والأفكار الحرة التى تطمح إلى تحرير البشرية، وتثويرها، وتنويرها، وكشف مكنوناتها والتحليق بها فى فضاء الإبداع والفن.

هنا.. يعلو صوت الشعر، ويتميز، وتنهمر الأصوات المبهجة بالكتابات البديعة والممتعة والمدهشة، ما يجعل المشهد الثقافى المصرى يغرد وحده بعيدًا عن مزادات الدولارات، و«غزوات البلهاء» من مدّعى الكتابة والنشر، ومتصيدى الصغار من هواة القراءة الذين لا بد سوف يكبرون يومًا، ويهجرون بضاعتهم إلى فضاء الأدب والإبداع الحقيقى، وإن طال الزمن.

محبة كبيرة لشعراء مصر وكتابها وقرائها.. أولئك الذين يؤكدون دائمًا يقظة الضمير المصرى، وقدرته الفذة على الفرز والتمييز.. ربما ينجرف البعض قليلًا مع التيار، فيقع أسيرًا لدعايات «السوشيال ميديا»، والشهرة الزائفة، لكنهم سرعان ما يعودون إلى الطريق الصحيح، والانتصار للفن والإبداع الحقيقى، لقيم الحق والخير والجمال، والإبداع بغير حدود.