رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة سينما فلسطين 2

المحبة لا تحتاج لمناسبة ولا تحتاج لشروط لذلك سأتحدث اليوم عن فلسطين من خلال عدسة وعين المخرج الفلسطيني، ميشيل خليفي، وسأتحدث أولًا عن فيلمه الأيقونة "عرس الجليل"، والذي شاهدته منذ سنوات في مهرجان الإسكندرية لسينما البحر المتوسط بحضور المخرج، وأدارت اللقاء آنذاك الشاعرة الفلسطينة، ليانة بدر، وكذلك فيلمه "حكايات الجواهر الثلاث" والذي عرض أيضًا منذ سنوات في إطار فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
فميشيل خليفي، يرسم خريطة جغرافية لفلسطين في أفلامه، في محاولة لكسر تلك الحدود التي فرضت على شعبه، ويستخدم في أفلامه أبطالًا مُهمّشين جغرافيًا لا يُميزهم سوى الحدث وتفاعلهم مع قوات الاحتلال والذي يصنع الدراما.
ففي "عُرس الجليل" يناقش خليفي فكرة الاحتجاز في المكان من خلال فكرة الزواج والعرس، إذ يضطر والد الزوج للسماح للإسرائيليين بالحضور، كشرط لإقامة الزفاف، وهُنا يظهر تأثير ذلك القرار على جيلين، الجيل الصغير المُتحمس لهويته المسروقة، والجيل الكبير الذي رأى كل شيء واضطر لأن يتعايش مع الوضع تحت الضغط.
وتُظهِر الكاميرا مدى هيمنة قوى الاحتلال على الحدود بالسيارات والأسلاك الشائكة وأبراج المُراقبة، لكنها تُظهر أيضًا تحرُك الفلسطينيين في تلك المناطق بشكل عشوائي ولكنه تحرك قائم على كل حال ويثبت الوجود ويقول ها نحن هنا بل وسنظل هنا.
وتنبعث الذكريات القديمة من الماضي في أفلام خليفي عبر استعادة القصص والحكايات التي يمثلها على أرض الواقع سواء بشكل رمزي أو واقعي، ومنها مراسم العُرس نفسه، فقد صوَّر العرس الفلسطيني كما كان يحدث في الماضي بالضبط، وظهر انبهار وتعلق المجندة الإسرائيلية بالأزياء الفلسطينية وملابس العرس وطقوس طهي الطعام والاستعدادات والأغاني وكل مظاهر العرس، والتي هي جزء أصيل من الهوية الفلسطينية التي حاولت المجندة تمثلها وكأنها جزء منها بل وكأنها جزء منهم، رغم أن العكس هو الصحيح، فوجودها ينفي ويعرقل وجودهم وينغص عليهم ليس فقط عرسهم بل حياتهم كلها بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، ليظهر الفيلم أهمية دور الثقافة والتراث في تشكيل الهوية، لذلك تحاول إسرائيل السطو على تلك الثقافة وسرقة هذا التراث لتشكل لنفسها هوية وتضيف عراقة ما لتاريخها الحديث المذموم والملطخة صفحاته بالدماء والمجازر والذبح، لذلك أثلج قرار اليونسكو بإدراج فن التطريز الفلسطيني على لائحة التراث العالمي صدور من ما زالت في ضمائرهم قطعة ضوء.
أما الاضطراب فيما يتعلق بالهوية فقد جسدته في "عُرس الجليل" شخصية "سُمية"، أخت العريس، الذي دفع تمردها على البيئة والحياة الاجتماعية البعض ليقولون إنها من الممكن أن تتزوج مجندًا من الجيش الإسرائيلي حتى تخرُج من هذا المكان، وهي مبالغة ليست في محلها لكنها تظهر ذلك الارتباك في التشبث بالهوية كأداة مقاومة.
فما أصاب فكرة الهويّة الفلسطينية هو وليد للحصار المفروض عليهم والإجبار على البقاء في ظل الظروف الكائنة، وفقدان المقدرة على الاستقلال على المستوى الفردي والإنساني وليس فقط على مستوى الوطن ككل، وعلى الجانب الآخر نجد أن الابن/ العريس والذي يُعاني من اضطراب داخلي يضعه بين خيارين لا ثالث لهما وكلاهما مر، وهو أن يرضى بحُكم أبيه ويتزوج تحت أعين ومباركة الإسرائيليين، وبالتالي يخسر كبرياءه أمام نفسه وكرامته أمام أهل القرية، وإما يرفض الزفاف لتذهب أحلامه الوردية ومعها تعب ومساعي أبيه سُدى، وهُنا تبدأ شخصيته بالتحور من شخص متلهف على الزواج إلى شخص يفقد قدرته الجنسية خوفًا من العار والثقل الذي أحدثه صدى القضية الفلسطينية في نفسه، وتجول في خاطره أسئلة لا يستطيع حسمها فهل هو خائن؟ أم أن أباه هو الخائن؟
وفي حقيقة الأمر كلاهما مجبر ومضطر لا بطل ولا خائن ولا معتدٍ كما يروج الصهاينة، فمن يريد الزواج وإقامة عرس حتمًا يحب الحياة وينتصر لها، ويتطلع للغد والمستقبل رغم حصار الحاضر والماضي.
أما فيلم "حكاية الجواهر الثلاث" فيطوّع فيه خليفي الكاميرا لتوثيق المعابر ومناطق التفتيش والحدود بشكل مكثّف، وعلى الرغم من أن كاميراته تُعطي مساحة هائلة لعين المُشاهد أن تتفرج وتتغذى، إلا أنه ولوهلة مثل السراب أو الحُلم، يُكمل السير بكاميراته للأمام، في لقطات طويلة وبطيئة، كأن لا حدود للعالم ولا نهاية.
ويستغل خليفي المونتاج في جعل عالمه مُوحدًا بتراتبية واضحة تتوالى اللقطات من الانغلاق إلى الانفتاح في تدفق ناعم، لتخلق رابطًا بين الطبيعة والإنسان، رابطًا يؤكد رفض الإنسان لبقائه محجورًا ورغبته في استكشاف العالم من حوله.
في "حكاية الجواهر الثلاث" تتشكل في خيال الفتى الصغير أن "أرض الأحلام" هي حتمًا خارج البلاد، فيحلم بالسفر، لكن الحدود تمنعه وتسجنه داخل أحلامه، ومن ثم تتشكل هويته في مُجتمع ينبذه كطفل فلسطيني فقير، ولا يُتيح له الخروج أيضًا.
وهُنا نرى تركيز خليفي على رحلة الطفل في الفيلم وتطوّر شخصيته هو والفتاة (عايدة)، والتي يميل وينجذب إليها وتبدو هي أكثر قوة وعنفوان وثقة منه بل وثباتًا، ويمنح السيناريو قيمة عظيمة لأشياء بسيطة، ويفتح المجال للأحلام والأقاصيص القديمة والخرافية لتأخذ مكانها داخل ذلك الحكي، مُستعرضًا فضاءات واسعة تسمح للفتى والفتاة بالجري واللهو حتى وإن كانا محتجزان في مساحة ومكان لا يمكنهما الخروج منه أو الحفاظ عليه وكُل هذه العناصر تُشكل هويّة ومعرفة جغرافية تُساعد بعد ذلك في فهم الأيديولوجية الفلسطينية، وتمنحنا فكرة عما يحدث في الداخل الفلسطيني.