رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نذيع واللّا مانذيعش؟

لعلكم تتذكرون تلك البرامج الخفيفة التي ازدهرت في تسعينيات القرن الماضي من نوعية برامج الكاميرا الخفية، والتي دأب صنّاعها على الإيقاع بضحاياهم من المواطنين العاديين، لينتهي الموقف بابتسامة صافية يُطلقها الضحية دليلًا على رضاه يُتبعها صانع المحتوى البرامجي بسؤال في منتهى التحضر والإنسانية: إيه رأيك، تحب نذيع واللّا مانذيعش؟
ساعتها يجيب المواطن ببراءة وتحت تأثير الصدمة وفي غمرة سعادته بالموقف غير المصطنع قائلًا: "ذيع عادي مفيش مشكلة".
كانت تلك واحدة من الأعراف المهنية المعمول بها والتي تعكس أخلاق ذلك الزمان، تطور هذا اللون البرامجي وصار على الشكل الذي نتابعه كل رمضان، إذ يستضيف أحدهم نجوم المجتمع من الفنانين والرياضيين، ليجعل منهم أُضحوكة العالم العربي كله وينتهي الموقف بسخرية مفتعلة وسخيفة بين المذيع وضيفه، ليحصل الضيف على المكافأة المتفق عليها مسبقًا ويضيف "المذيع - الممثل" إلى رصيده ملايين جديدة بعد أن يكون قد هدم ثوابت وأضر بالصورة الذهنية لهذا النجم عند جمهوره من المحيط إلى الخليج.
وحديثنا اليوم ليس عن هذه النوعية من البرامج فكلا الجلاد والضحية فيها قد رضيا بأداء الدور مسبقًا وفق اتفاق شفوي وأحيانًا بصيغة تعاقدية ملزمة للطرفين، لكننا هنا نتحدث عن لون آخر من البرامج والتي جرى تصنيفها على أنها برامج اجتماعية، إذ يتم في تلك البرامج تشريح المجتمع كله ونشر سوءاته على الهواء مباشرة، ونتحول نحن كوطن ومواطنين إزاء هذا اللون البرامجي إلى ضحايا لتنمر غيرنا من المجتمعات التي تلوك سيرتنا وتتلذذ بالسخرية منّا.
إذ يلاحظ المصري المغترب بعد كل حلقة من حلقات تلك البرامج تغير نظرة المجتمع الذي يعمل فيه، ويحاول جاهدًا إثبات أننا غير ذلك، لكن هيهات أن يغير الصورة الذهنية التي خرجت عنا بأدواتنا وبإعلامنا ونحن في هذا- كمجتمع- ضحايا لشخصيات فهمت الإعلام ورسالته بصورة مغلوطة، وسعت لتحقيق شهرة واسعة مدفوعة بهوس شخصي ورغبة جامحة في تصدر الترندات على حساب ثوابتنا الأخلاقية ومضحية بقيمنا المجتمعية.
وحين يتعرض أحد الغيورين لهم بنقد أسلوبهم، تراهم يدافعون عن مواقفهم مُدّعين أن ما يطرحونه من قضايا ليست قاصرة على وطننا، وإنما باتت ظواهر مجتمعية عالمية تراها متكررة في مجتمعات أخرى كثيرة، وهنا يكون ردنا المنطقي عليهم: نعم نتفق معكم بأن خللًا مجتمعيًا أصاب مجتمعنا العربي- وربما الإنساني- كله وهذا أدعى لأن نحاسبكم حسابًا عسيرًا إذ لم تُصدّر لنا تلك المجتمعات مشكلاتها عبر وسائل إعلامهم الخاصة أو العامة، فهم يُروجون- رغم كل أمراضهم المجتمعية- أنهم الأكثر استقرارًا والأعلى في معدلات النمو والأشد انضباطًا والأرقى أخلاقًا.
وحين يقتحم تلك المجتمعات إعلامي غريب عنهم أو تنظيم حقوقي محايد فيسرب أسرارهم ويكشف عن خطايا تفضحهم تجدهم قد هبوا هبّة رجل واحد للدفاع عن مجتمعهم- منتهجين خططًا مدروسة ومكلفة وموسعة- بإنكار ما يصمهم، وتتبع مخترقهم وملاحقة الكاشف عن سوءاتهم ثم ترميم صورتهم الذهنية.
قد يرى البعض أن ما أدعو إليه هو نوع من التغييب الذي كان يليق بإعلام الستينيات وليس إعلام اليوم، وببساطة أجيبهم: إن تلك الحرية في تناول القضايا مُرحبٌ بها في كل وقت، إن ضمنتم لنا أن يظل تناول قضايانا تلك كشأن داخلي يمكن علاجه على المستوى المحلي، أما وقد أصبحنا صوتًا وصورة على الهواء يمكن تتبعنا لحظيًا في كل أرجاء العالم، فإن طرقًا أخرى للتناول ينبغي أن نطلب من المختصين بالشأن الإعلامي أن يدرسوها ويقترحوها علينا بما يداوي الجراح ولا يزيدها أو ينكأ جراحًا أخرى تعري المجتمع وتشهر بمواطنيه.
قد يخرج عليّ أحدهم أو إحداهن متهمًا موقفي بأنه دعوةٌ لتكميم الأفواه، وهذا ما لم ولن أقول به مطلقًا، موقفي يتمثل في ضرورة مراجعة المحتوى الذي تصدّره عن مجتمعك وشئون مواطنيه وأن تدرك- وأنت تروّج قضايا المجتمع- وجود نسبة كبيرة من الأُميين أو أنصاف المتعلمين والمراهقين الذين يميلون إلى التقليد.
كما أن المتابع لأخبار الحوادث والجرائم يمكنه ملاحظة بشاعة الجرائم ودقة تنفيذها نتيجة براعة كتّاب السيناريو في رسم مشاهد القتل أو التجريس أو التشهير بالناس أو التمثيل بالجثث، فيا هواة صناعة الإعلام- من غير محترفيه- راقبوا ضمائركم وارحموا مجتمعكم وحافظوا على وطنكم وعودوا إلى رشدكم يرحمنا ويرحكم الله.