رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جليل البندارى.. يرصد الملامح الإنسانية فى حياة صانعات البهجة

راقصات مصر
راقصات مصر

الرقص الشرقى الذى أصبح بمرور الوقت- شئنا أم أبينا- جزءًا من الثقافة العربية والشرقية، ومن أشكال الفنون المعبرة عن الإنسان، يُعد مهنة مثيرة للجدل، وكل العاملات به يتم النظر إليهن بشىء من الريبة والحذر، ويستنكر الأغلبية أفعالهن، ويعتبرونها لا تتوافق مع معتقدات المجتمع.

لكن عند قراءتك للكتاب الذى نحن بصدد الحديث عنه، ستنبهر وتندهش حين تعرف أن بعض آباء مؤسسات الرقص الشرقى كانوا رجال دين بعمائم، وأن منهن من شاركن فى الثورات والمبادرات الوطنية لدرجة تعريض حياتهن للخطر.

لكن منذ ظهور هذا النوع من الفن فى مصر، فى ثوبه الجديد خلال العصر الحديث، أخرجت مصر العديد من هؤلاء اللاتى سنتعرف على قصصهن ومراحل صعودهن ونهايات بعضهن المأساوية أثناء قراءتنا لهذا الكتاب الهام.

الكتاب هو «راقصات مصر» للكاتب جليل البندارى، الصادر حديثًا عن دار «كلمة» للنشر والتوزيع. والكاتب جليل البندارى لمن لا يعرفه، هو الذى كتب بعض الأفلام التى لا تزال محفوظة فى ذاكرة كل عربى، ولا تزال «الإيفيهات» المذكورة فى هذه الأفلام تمثل جزءًا رئيسيًا فى الخطاب والحوار القائم بشكل يومى بين المصريين بعضهم البعض، وهذه الأفلام هى «الآنسة حنفى» ١٩٥٤، و«العتبة الخضراء» ١٩٥٩، فمن فينا يستطيع أن ينسى قصة الرجل الذى اشترى التورماى؟

وفى كتابه هذا يرصد «البندارى» الملامح الإنسانية فى حياة هؤلاء المتمردات على نظرة المجتمع لهن، يتتبع مراحل صعودهن ونهايات بعضهن المأساوية.

نعرف القصة الإنسانية لشفيقة القبطية، وهى أول راقصة فى العالم يشعل لها أحد المعجبين سيجارة بورقة مالية من فئة المائة جنيه، أيام كان الجنيه يساوى مائة قرش وكسورًا، والتى انتهت رحلت صعودها نهاية أليمة، بتلاشى ملامح الجمال فى وجهها، لدرجة جعلت من يلتقى بها لا يعرفها، ومنهم سيد درويش الذى لم يتعرف عليها حين جاءت إليه لتصافحه وهو يجلس على المقهى.

ونتعرف على حكاية بمبة كشر بنت أحمد مصطفى كشر، الذى «يقرأ القرآن الكريم، وينشد المدائح النبوية فى الأفراح وليالى القاهرة الملاح»، والتى وصلت لدرجة من الشهرة والثراء مكنتها من امتلاك عربة حنطور مطعمة بالذهب، يسير أمامها اثنان من العبيد يصيحان فى المارة: «وسّع يا جدع».

وقصة بديعة مصابنى، التى جاءت إلى مصر، وبها كانت شهرتها كراقصة، وأسست فرقة خاصة للرقص والتمثيل المسرحى باسم «فرقة بديعة مصابنى»، التى تخرج منها أشهر الفنانين... ويسرد الكتاب قصة العلاقة العاطفية التى ربطت بينها وبين واحد من أهم الفنانين فى التاريخ وهو نجيب الريحانى، تلك القصة التى انتهت بالزواج. 

ثم نلتقى بقصة حكمت فهمى، التى رقصت فى قصور ملوك أوروبا، ورقصت أمام «هتلر» و«موسولينى»، ليتم سجنها بسبب علاقتها مع جاسوسين ألمانيين.

لنصل بعد ذلك إلى كاميليا، التى «كانت تعيش بعواطف طفل تسعدها كلمة، وتشقيها كلمة، وكان جمالها سببًا فى حياة النعيم التى تحياها كذلك سبب فى شقائها»، والتى رفضت الرقص فى ليلة مقابل خمسمائة جنيه، وفى المقابل رقصت بالمجان لمصور لا يملك قرشًا.

وبعد ذلك نلتقى بتحية كاريوكا، إحدى أعظم الفنانات فى التاريخ المصرى، تلك التى «تكره الأفراح وتتجنبها، بنفس القدر الذى تحن به إلى المآتم والجنازات». وهى الراقصة الوحيدة المثقفة، التى تمتلك فى بيتها مكتبة كبيرة، وكانت تقرأ لأعلام الأدب والثقافة المصرية والعالمية، وعلى رأسهم طه حسين والمازنى وتوفيق الحكيم.

ربما هذا الحرص على التثقيف، هو ما جعل تحية كاريوكا أكثر حرصًا فى اختيار نوعية الأفلام التى تشترك فيها أواخر حياتها، فنراها تشترك فى أفلام شديدة الأهمية أخرجها العالمى يوسف شاهين، ونرى مواقفها الصارمة ووقوفها ضد الرقابة فى عام من الأعوام، لدرجة جعلتها تضرب عن الطعام، رغم تجاوزها الثمانين فى تلك الفترة، ليتواصل معها رئيس الجمهورية آنذاك حسنى مبارك.

يحكى الكتاب قصة اسمها، فنعرف أنها اكتسبت هذا الاسم بعدما رقصت رقصة «الكاريوكا» فى فيلم عالمى من بطولة فريداستر وجنجر روجرز.

«تحية كاريوكا التى تطوعت فى جمعية الهلال الأحمر عندما بدأت الحرب العالمية الثانية، وفى إحدى الغارات الشديدة على مدينة الإسماعيلية شهدت بعينيها القنبلة التى سقطت على بيت أبيها فأحالته أنقاضًا».

ونعرف بعد ذلك قصة السيدة زينب، الاسم الحقيقى لسامية جمال، وهى ابنة الشيخ المعمم خليل إبراهيم، وكيف تمردت على العائلة، واستطاعت- الأمية التى لم تدخل مدرسة- أن تتحدث وتجيد ٣ لغات، وتصبح الراقصة الأعلى أجرًا فى أفلام عبدالوهاب، لترقص بعد ذلك على أنغام أوركسترا يتكون من ١٦ عازفًا أجنبيًا، وتُنشر صورها فى صحف العالم.

وينتهى الكتاب بقصة دولت سليمان التى رقصت عارية أمام قصر باكنجهام.

فى كل تلك القصص المثيرة، التى يرويها الكاتب بلغة بسيطة ولكنها شديدة العمق، والتعبير عن حجم تغير الواقع والوطن والفرد معًا، يستطيع القارئ أن يقترب من نماذج إنسانية تستحق التأمل والتفكير كثيرًا جدًا.