رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولماذا نكتب إذن؟

تسرح الغزلان فى الغابات وتعاشر بعضها بعضًا من غير أن تطرح أى سؤال عن تلك العلاقة، أما الإنسان المُبتلى بالوعى، رجلًا كان أم امرأة، فإنه إذا أقام علاقة تساءل: هل هو الحب حقًا أم أنها معاشرة؟ فإذا تيقن من أنه العشق سأل: وهل الحب ضرورة؟ فإذا قلت له إنه ضرورة، نظر إليك بتشكك، وقال: وهل ينطبق ذلك على حالتنا؟! ولا يكف عن الأسئلة. 

يغرد الطير فوق الشجر ولا يستفسر: لماذا أغرد؟ أما الإنسان المبتلى بالوعى فإنه يبدع كاتبًا ثم يتريث متسائلًا: ولماذا أكتب؟ فإذا قدمت له إجابة تساءل: وهل لذلك جدوى؟ فإذا وجدت له جوابًا غمغم: «هذا من وجهك نظرك.. لكن..» ولا يكف عن الأسئلة. 

ولا شك أن للتطور التاريخى والاجتماعى أسبابًا كثيرة، لكن لعل الأسئلة والحيرة المقترنة بها أحد أهم أسباب ذلك التطور. وفى اعتقادى أن الكاتب يكتب أولًا وثانيًا وثالثًا ليس التزامًا بفكرة أو مبدأ، فهذا يأتى لاحقًا، لكن لأن هذه هى طبيعته، لذلك يكتب حينما تُسد أمامه أبواب النشر، ويكتب حينما يضعونه فى زنزانة، ويكتب وهو نائم مثلما كان يفعل نجيب محفوظ فى سنواته الأخيرة. 

الكتابة طبيعة ذاتية، شخصية، مثل التغريد فى الطيور، والسباحة فى الأسماك، ولذلك فإن آلاف الأسئلة لم تمنع أديبًا من الاستمرار فى عمله، كما لا يمنع الطقس السيئ إنسانًا من التنفس، ثم تأتى بعد ذلك قضية ارتباط هذه الطبيعة الشخصية بما حولها من هموم الآخرين، وقضاياهم، والرغبة فى تغيير العالم إلى الأفضل، لكن لا بد بدايةً من أن تكون الكتابة طبيعة شخصية دامغة مثل التغريد فى الطائر. 

تطرح الأديبة الأمريكية جويس كارول أوتس إجابة عن السؤال بقولها: «الأدب كله والفن كله ينبع من أمل التواصل مع الآخرين». نعم، فى كل كتابة ثمة رسالة إلى آخرين، وأمل بالتواصل، لكن ذلك جزء من التفسير. ويقدم الأديب العملاق جوزيف كونراد جانبًا آخر من القضية حين يقول: «أكتب لكى أكتب لكى أحارب فكرة الموت الذى نولد ونحن نعرف أنه ينتظرنا فى نهاية الطريق». وهذا جانب آخر، لأن كل فن عظيم يستعصى على الموت باستمراره فى الوجود، فيعزى الإنسان وينصره على الموت. ويضيف «كونراد»: «غير أن ذلك ليس وحده ما يكفى للكتابة، ففى عملية الكتابة تصبح لذة إبداع نص مسألة حياة أو موت، سعادة أو مأساة». 

هكذا يعود الكاتب إلى قضية طبيعة التغريد الذاتية الكامنة وراء الإبداع. ويطرح الكاتب المعروف جورج أمادو زاوية أخرى لتفسير دوافع الكتابة حين يقول: «أكتب لكى أستطيع التأثير فى الناس، هكذا أساهم فى تغيير واقع بلادى عبر خلق رؤية لحياة أفضل». هكذا أصبحت لدينا رغبة التواصل مع الآخرين، وأيضًا هزيمة الموت بالانتصار على الزمن، وأخيرًا الرغبة فى تغيير الواقع. أما الكاتبة المعروفة إيزابيل الليندى فإنها تضيف سببًا آخر حين تقول: «تمنح الكتابة دائمًا شكلًا من النظام لفوضى الحياة»، وهنا نفهم أن الكتابة نوع من إعادة الوعى بالعالم، وجعله أكثر منطقية، ونظامًا، ومفهومًا، ومبررًا. فى بعض الحالات تجتمع كل هذه الأسباب لتشكل دافعًا للكتابة، لكن إذا لم يكن الكاتب مغردًا بطبيعته فلا جدوى من كل ذلك، لهذا كتب الشاعر النمساوى العالمى «راينر ماريا ريلكه»: «يكفى أن يشعر المرء أن بإمكانه الحياة من دون كتابة ليكون الأجدر به ألا يكتب تمامًا»، أى إذا لم تكن الكتابة طبيعة شخصية ذاتية عميقة فلا تكتب. وفى كل الأحوال فإنك مهما طرحت من إجابات عن السؤال المؤرق لن يكف الإنسان عن التساؤل.