رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

برامج المرأة.. والجدية المفقودة

الانطباع العام عن برامج المرأة فى كثير من القنوات أنها تفتقد الجدية المطلوبة.. الفكرة الأساسية من تقديم برامج المرأة فى الإعلام هى مساعدتها فى تنمية نفسها والاهتمام بأسرتها.. كانت برامج المرأة فى الماضى ذات مضمون مختلف يمكن وصفه بأنه جاد ومحترم وذو طابع إنسانى وهى صفة بات يفتقدها معظم برامج المرأة فى القنوات الخاصة.. جزء من المشكلة «مهنى» له علاقة بالشكل.. وجزء منها «أخلاقى» له علاقة بالمضمون.. من الناحية المهنية فإن المذيع «حتى لو كان مثقفًا» لا يفترض به أن يكون مصدرًا للرأى أو للمعلومة إلا نقلًا عن مصادر موثوقة.. دور المذيع الأساسى هو إدارة الحوار مع ضيوف مؤهلين مهنيًا وفكريًا لصنع الخطاب العام فى المجتمع والتأثير فى الناس.. وهذه مهمة كبيرة تتطلب اعتبارات العلم الغزير والسمعة الحسنة وأن يكون صاحبها فوق مستوى الشبهات.. التجاوز الذى يحدث على مستوى المهنة منذ سنوات أن المذيع أصبح يسطو على دور الضيف ويمسك بالميكروفون ليبث آراءه وتصوراته فى الاجتماع والسياسة والدين والفن.. هذا خطأ كبير.. ولكن الخطأ يتحول إلى مهزلة حين يكون المتحدث مذيعة تفتقر أدنى درجات الثقافة والعلم واللباقة وتبث على الناس آراءها فى الحياة على طريقة «خالتى بمبة».. وهى شخصية من شخصيات المسلسل الإذاعى «عيلة مرزوق» كانت تؤديها الفنانة ملك الجمل وتعبر فيها عن شخصية المرأة الجاهلة ذات الصفات السلبية.. هذه الشخصية تم إحياؤها مرة أخرى بحثًا عن «الترند».. وهذه هى الخطيئة المهنية الثانية بعد خطيئة تحول بعض المذيعين الجهلة إلى ضيوف.. يحاورون أنفسهم ويسألونها ويجيبون عليها بآراء تافهة تنبع من عقول جاهلة لم تقرأ فى حياتها كتابًا واحدًا.. هذه الخطيئة تولدت عنها خطيئة أكبر حين لاحظ بعض مديرى القنوات أن هذه الآراء الجاهلة تستفز الناس على شبكات التواصل للتعليق والهجوم والأخذ والرد.. وهنا تقرر أن يتم استفزاز الناس بمزيد من الآراء الجاهلة والمبالغة فى التطرف فى قضايا لا تحتمل التطرف بطبيعتها وأصبح هناك نوع من التعمد لإفشاء الجهل والابتذال والوضاعة فى صورة نصائح للنساء.. هنا يتحول المذيع أو المذيعة من مذيع جاهل إلى أراجوز أو «كاركتر».. وفقًا لحكمة كوميدية يطبقها بعض الممثلين والعاملين فى الإعلام تقول «خليك كاركتر تشتغل أكتر»!! بمعنى أن المذيع كلما نحا إلى الغرابة والشذوذ وتقمص دور محمود شكوكو.. عَلُق ما يفعله فى أذهان الناس وأقبلوا على مشاهدته دفعًا للملل وطلبًا للتسلية وليس للفائدة.. ومع تصاعد الأرباح ومشاهدات السوشيال ميديا التى غدت معيارًا وحيدًا لكل شىء وأى شىء بغض النظر عن القيم والأخلاق والاحترام.. يصاب المذيع أو المذيعة فى حالتنا هذه بحالة من «السعار» فتتحول المذيعة إلى «كلبة ترند» والتعبير البليغ الأخير ليس لى ولكن لمشاهد كان يصف مذيعة أثارت الجدل مرة بعد مرة طلبًا للشهرة.. وقدمت آراء تمزج فيها بين نصائح الجوارى اللاتى كن يتبادلنها فى القصور لإرضاء السيد مالك القصر وبين تهاويم مازوخية تخاطب الرغبة فى الخضوع لدى بعض النساء أو تنافق الثقافة الذكورية الكامنة فى نفوس الرجال.. أيًا كان الدافع فإن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده وأصبح شيئًا مقززًا ومثيرًا للشفقة والامتعاض والاستياء أيضًا بعد أن تم إضفاء تلميحات جنسية مفتوحة وحمالة أوجه كى تكتمل المشهيات فى الوجبة المقدمة وتثور غرائز الرجال والنساء أيضًا نحو مزيد من البحث عن هذه التصريحات المستفزة والفاقدة لأى قيمة فى هذا البرنامج أو ذاك.. كان هذا الفساد كله نابعًا من فساد الشكل ومن اختلاط الأدوار بين المذيع والضيف ومن سعار الترند.. أما على مستوى المضمون فنحن إزاء محاولة لنشر ثقافة رجعية مضادة لقيم التعاون والتكافل والمساواة بين الرجل والمرأة دون إفراط هنا أو هناك.. ودون ميل فى هذا الاتجاه أو ذاك.. وهذا هو أساس العلاقة بين الرجل والمرأة فى مصر، حيث تشارك الفلاحة زوجها فى العمل فى الحقل وإدارة المنزل معًا.. ولم تكن المرأة المصرية جارية قط.. إلا بتأثير الغزو التركى وتقاليده وهى فترة قصيرة إذا ما قورنت بعمر مصر الذى يمتد آلاف السنوات.. ليس لدىّ يقين بدافع بعض القنوات لنشر هذه الثقافة الرجعية وإقناع المرأة بها.. ولا أعرف هل هى تعبير عن توجه عام أم اجتهاد شخصى من بعض الراغبين فى النجاح السريع والرخيص أيضًا.. لكن ما أعرفه أن هذه المحاولات محاولات مزعجة.. وأنها تنحرف بالإعلام عن دوره فى تنمية المجتمع.. ونشر القيم الإيجابية والإنسانية بين أفراده.. إن لدينا فى مصر حرفيًا ملايين النساء ممن يجترحن البطولات كل يوم ويتحدين الواقع ويكتبن قصص نجاح مشرفة فى تربية الأبناء والصمود فى وجه صعوبات الحياة.. لكن برامج المرأة كلها تقريبًا تختصر المرأة المصرية فى بعض فنانات الصف الثانى وبعض قضايا العلاقة الزوجية التى عادة ما تتم معالجتها برخص وابتذال ودون الجدية الواجبة.. أعتقد أن المجلس الأعلى للإعلام عليه واجب مهم فى لفت نظر مقدمات هذه النوعية من البرامج للأكواد الإعلامية الواجب اتباعها وللقواعد المهنية الراسخة التى تقول إن المذيع ليس مصدر رأى ولا معلومة ولكنه مدير حوار.. ودوره أن يساعد الضيف فى طرح آرائه.. لا أن يتحول هو نفسه إلى ضيف.. وليته يتحول إلى ضيف عادى.. ولكنه يرتدى مسوح الإثارة والخلل العقلى والتهريج الإعلامى ليلقى على المشاهدين كل يوم بقنبلة ترند جديدة.. يجب أن نأخذ أمورنا بجدية أكثر من هذا.. المرأة المصرية قيمة كبيرة جدًا جدًا جدًا وأكبر بكثير من تهريج المهرجين.