رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن مجنون ليلى الفرنسى الذى رحل

عن ٩٣ عامًا رحل المستشرق الفرنسى أندريه ميكيل فى السادس والعشرين من الشهر الماضى، وهو شخصية أكاديمية مرموقة، كان يرى أنه «مستعرب» لأن الاستشراق لفظ مرتبط بالمرحلة الاستعمارية، سنة ٢٠١٥ صدر له عن المركز القومى للترجمة بالقاهرة كتاب «وجبة المساء.. يوميات دبلوماسى فرنسى فى سجن مصرى» ترجمة رشا صالح، حكى فيه أحداث احتجازه فى السجون المصرية لمائة وخمسة وثلاثين يومًا بين عامى ١٩٦١ و١٩٦٢، كان أيامها ملحقًا ثقافيًا لفرنسا فى الجمهورية العربية المتحدة، وتم القبض عليه مع مجموعة من الدبلوماسيين الفرنسيين بتهمة التجسس، كتبه على شكل يوميات لا تختلف كثيرًا عن أدب السجون، تبدأ بوصوله القاهرة التى استعار لوصفها عبارة هنرى الرابع عن باريس «ليست مدينة وإنما مدائن».

أما سيرته الذاتية فقد أسماها «شرق حياتى»، وتحدث فيها عن أثر الثقافة العربية الإسلامية فى تغيير مسار حياته، ولد ميكيل لأبوين مدرسين من البرجوازية الصغيرة فى الجنوب الفرنسى. درس فى مونبيلييه، وقاده اهتمامه باللغات القديمة إلى العربية منذ خمسينيات القرن الماضى، فكان لقاؤه الفعلى مع الثقافة العربية فى دمشق، حيث حصل على منحة المعهد الفرنسى للدراسات العربية فيها، وتخصص فى اللغة العربية فى أكاديمياتها بين العامين ١٩٥٣ و١٩٥٤، ولهذا بقيت الروح الشامية مسيطرة عليه شعرًا ونثرًا، حصل على دكتوراه الدولة فى الآداب عام ١٩٦٧ عن أطروحته فى الجغرافية البشرية عند العرب، وكان مدخله إليها ترجمته لمؤلف شمس الدين المقدسى «أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم»، وقد شغل بين الأعوام ١٩٨٤ و١٩٨٧ منصب المدير العام للمكتبة الوطنية بباريس، وهو المنصب ذاته الذى شغله أنطوان غالان فى القرن الثامن عشر، الذى نقل «ألف ليلة وليلة» إلى الفرنسية، ليأتى ميكيل بعد قرنين من الزمان ليعيد إحياء الليالى بمراجعاته النقدية الخاصة. انتُخب أستاذًا فى كوليج دو فرنس وصار مديرًا عامًا لهذا المعهد النخبوى، كان أحد قادة ثورة الطلاب ١٩٦٨، كان وقتها أستاذًا فى المعهد التطبيقى للدراسات العليا بباريس، حيث كانت تعقد لقاءات ثقافية بين الطلبة والأساتذة الكبار لرسم مستقبل الجامعة الفرنسية وتطوير مفهومها وأدواتها، وفى ذلك الوقت بدأ يكتب موسوعته الشهيرة «جغرافية دار الإسلام البشرية حتى منتصف القرن الحادى عشر» التى جعلها فى أربعة أجزاء، وعمل عليها بين ١٩٦٧ و١٩٨٨، وظهر فيها ممثلًا للمدرسة الفرنسية الجديدة فى الاستشراق، كان يرى أنه يجب أن يعامل الشرق بوصفه نسقًا ثقافيًا اجتماعيًا قائمًا بذاته، من غير تطبيق قواعد الغرب عليه لغة، أو اجتماعًا، ومن غير إسقاط أى تصورات أو معايير. كان مثل محمد أركون يرى أن كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» ليس عملًا أكاديميًا، «لأن التاريخ يتغير وأدوات الاستشراق تتغير كذلك، وإن مستشرقى الغد حين سيقرأون كتاب سعيد سيعلقون أنه جيد وسيضيفون: أووف، إن هذا كله قد انتهى! ثم إن الخطاب الاستشراقى لم يعد وقفًا على المختصين وانحسرت فيه كثيرًا النظرة العجائبية». كان ميكيل شاعرًا أيضًا، كتب أندريه ميكيل قصائده باللغة العربية ثم ترجمها إلى الفرنسية، وقد ضمها كتابه «أشعار متجاوبة»، كما كتب أعمالًا روائية وقصصية أشهرها «الابن الراحل قبل أوانه»، وذلك بعد تجربته فى فقد ولده فى ريعان الصبا. يشير الشاعر كاظم جهاد فى كتابه «أندريه ميكيل» إلى أن أهم أعمال المستعرب الراحل الإبداعية المتأثرة بالثقافة العربية هى «وجبة المساء» و«ليلى يا عقلى» الذى يستند إلى حكايات المجنون قيس بن الملوح، وسيرة روائية بعنوان «أسامة: أمير سورى فى مواجهة الصليبيين» نتجت عن ترجمته كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ، معرفته بالشعر العربى القديم فى كل عصوره دفعته لكتابة كتابين، هما «الأدب العربى» و«الإسلام وحضارته»، ومع ذلك لم يقص من دراساته الاهتمام بالأدب المعاصر، وهو مثله مثل جاك بيرك ومكسيم رودنسو يرون فى الإسلام نسقًا ثقافيًا قابلًا للحياة، ويمكنهم تحليله بموضوعية أدت بهم إلى الإعجاب منحين عن أفق رؤيتهم الأفكار المسبقة، ولم تضرهم فى هذه العلاقة أحداث العنف والتطرف. بلغت أعمال ميكيل نحو مائتين وخمسين كتابًا، توزعت بين دراسات علمية، وروايات، ومذكرات، وخواطر أدبية، ونضيف إليها شعرًا على طريقة الشعر الحرّ وقصيدة النثر، وهو الذى ترجم مختارات من شعر الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى إلى الفرنسية، محبته لليلى حبيبة قيس ابن الملوح جعلت تلاميذه يطلقون عليه مجنون ليلى الفرنسى، هذا المستعرب العظيم أحب العرب وانحاز لقضاياهم ورحب بكل الباحثين العرب الذين تعلموا على يديه، هو أكاديمى يبحث عن المعرفة والتواصل، ويرى أن ما يقوم به يرمم، أو يحاول ترميم ما يفسده السياسيون ضيقو الأفق.