رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حسين مؤنس يكتب: «على مبارك.. المصلح الذى راح ضحية المزايدة السياسية»

جريدة الدستور

يلقى المقال القادم الضوء على «على باشا مبارك»، وهو واحد من نوابغ الفلاحين المصريين الذين تتلألأ مواهبهم إذا وجدوا الفرصة المناسبة.. وهو ما حدث مع على مبارك الذى انتقل من العمل فى مهنة كاتب حسابات فى قريته إلى مدرسة «المهندسخانة» فى عهد محمد على باشا.. ومنها إلى البعثة التعليمية فى باريس لدراسة الهندسة.. ليعود مهندسًا فى الجيش المصرى.. ويساهم فى إدارة القناطر الخيرية وعدد من المهام الكبيرة فى عهد الخديو عباس وبعض عهد الخديو سعيد.. ثم ينطلق انطلاقته الكبرى فى عهد الخديو إسماعيل الذى كان زميلًا له فى دراسة الهندسة فى باريس، فيتولى تخطيط العاصمة ويساهم فى إنشاء القاهرة الخديوية.. ثم يكتب كتاب الخطط التوفيقية بعد ذلك ويتولى فى عهد إسماعيل نظارة المعارف فيؤسس أول مدرسة لتعليم البنات ويشرف على نهضة التعليم.. ولا شك أن على مبارك واحد من بناة النهضة المصرية الحديثة.. لكنه راح مثل غيره ضحية للسياسة.. حيث ناصبته الثورة العرابية العداء واعتبرته واحدًا من رجال الخديو.. رغم أن الحقيقة أنه واحد من بناة الدولة الحديثة فى مصر.. وأنه آن الأوان لرد الاعتبار له باعتباره من ضحايا السياسة التى هى بطبيعتها غير موضوعية وغير منصفة.

كل مواطن مصرى محترم

لا بد أن يكون رجلًا حضاريًا

قلت دائمًا فى كل زمان إن مصر أصبحت اليوم دولة مستقلة استقلالًا حقيقيًا، وإنها اليوم صاحبة مركز قيادى فى الشرق الأوسط، وهو مركزها الذى تعتز به، وإنها لا بد قد بذلت جهدًا عظيمًا لكى تصل إلى هذا المركز الممتاز، وأنت كمواطن مصرى ومهما كانت الوظيفة التى تحتلها فإنك لا بد قد ساهمت فى بناء هذا الوطن العزيز، وأريد أن أقول لك فى هذا المقال ما ينبغى عليك أن تفعله لكى تستمر مساهمتك فى بناء هذا الوطن العزيز الجليل، فلا شىء مثل هذا يمكن أن يأتى عفوًا، ولا يمكن أن يستمر عفوًا، فإن كل بلد من بلاد الدنيا مهما كان مركزه هو من بناء مواطنيه.

ونحن نحب مصر.. كل المصريين يحبون مصر، لأنها بلد جدير بالحب فعلًا فهى صغيرة المساحة فعلً،ا ولكن المساحة هنا لا تهم المهم هم المواطنون المصريون، ومعظمهم فلاحون أى أبناء فلاحين، والفلاح المصرى رجل متحضر وبانی حضارات، هكذا عرفناه من أقدم العصور، ونحن اليوم نتحدث كثيرًا عن على باشا مبارك، وهو من رجال عصر محمد على باشا ومن بناة مصر الحديثة، ولد على باشا مبارك فى قرية برمبال الجديدة بمركز دكرنس بمديرية الدقهلية سنة ١٢٣٩هـ/ ١٨٢٤م فى أسرة متوسطة الحال معروفة بالتدين والصلاح مثل كل قرى مصر، وكان جده الأكبر إمام القرية وخطيبها وقاضيها، وكان الشيخ على مبارك قد تعلم الدين واللغة العربية فى قريته برمبال، ودرس فى دكرنس والمنصورة، وأظهر نباهة ومهارة فى دراسته الأزهرية وأصبح شيخًا ماهرًا، وعاش فى عرب السماعنه بالشرقية، وأصبح إمامًا فى هؤلاء العرب وحفظ القرآن فى سنتين، وكان مجتهدًا واسع الذكاء ولكن شيخه المعجب به كان قاسيًا فى معاملته فترك العمل معه، واشتغل مدرسًا خاصًا، وكان يكسب قليلًا جدًا ثم شاء القدر أن يتعرف على أحد مأمورى الأزهر، وكان رجلًا شفيقًا حسن المعاملة، وقد عمل عنده على مبارك مدرسًا لأولاد الناس الطيبيين، وهناك عطف عليه أحد مأمورى الزراعة ورغب فى تعيينه فى وظيفة صغيرة بمرتب بسيط، ولكن على مبارك لم يشأ أن يقبل الوظيفة التى عرضت عليه خوفًا من الظروف، وفضل أن يكون حرًا يكسب ما يستطيع كسبه، وقال عن نفسه فيما بعد إنه رغب فى أن يكون بحالة لا ذل فيها ولا تخشى غوائلها، وهذا يدلنا على أن على مبارك كان على نصيب كبير من عزة النفس وإباء الظلم.

وعلى مبارك، الذى بدأ حياته مدرسًا وفضل أن يترك الوظائف وخرج إلى الطريق واشتغل بنفسه وعانى الفقر لكى يعيش حرًا (بحالة لا ذل فيها ولا تخشى غوائلها)، اشتهر اسمه كمدرس حر، وأرسله محمد على باشا إلى أوروبا مدرسًا لأعضاء البعثات فدرس معهم وأظهر ذكاء وإخلاصًا فى الدراسة، وعندما عاد إلى مصر أدخله محمد على فى الموظفين ونجح فى الوظائف وارتقى حتى أصبح وزيرًا للمعارف، أى التعليم، وأظهر مهارة كبرى فى عمله الوزارى، والجميل فى حياة على مبارك هو حبه للعلم ونجاحه فى التعليم، ومن أدلة ذلك أنهم عينوه فى فجر شبابه تلميذًا فى مكتب أنشأه محمد على بميت العز فقضى سنة فى مكتب ميت العز وتبين ذكاؤه وحسن استعداده، فاختاروه لدخول مدرسة قصر العينى، وكانت المدرسة العليا الوحيدة فى مصر، وكانت مدرسة ميت العز تقع فى أبى زعبل فى شمال القاهرة، وقد دخل على مبارك مدرسة أبى زعبل، وأحس على مبارك بميل عظيم للدراسة فدرس الهندسة وتفوق فيها بفضل ناظرها الذى كان نابغة فى شرح الهندسة بطريقة تستسيغها عقول التلاميذ، وقـد دخـل على مبارك مدرسة قصر العينى سنة ١٨٣٦م، وفى سنة ١٨٣٩م كان على مبارك أحد أذكياء التلاميذ الذين درسوا فى هذه المدرسة، ونجح على مبارك فى دراسته للهندسة، ومن هناك اختاروه مدرسًا لبعثة الأنجال سنة ١٨٣٩م، وكان طلابها من أولاد العز والبيوت الكبار ومنهم الكثير من أفراد أسرة محمد على، ومنهم الخديو إسماعيل، ووصلت البعثة إلى باريس سنة ١٨٤٤م لتعلم الفنون الحربية، وبعد سنتين فى هذه المدرسة نقل على مبارك إلى مدرسة المدفعية والهندسة فى مدينة ميتز METZ فى فرنسا، ورقى إلى وظيفة ملازم ثان وأصبح من أبرع المهندسين المصريين فى دراسة الهندسة، وكان إبراهيم بن محمد على يحبه ويقدره، ولو عاش إبراهيم لتغيرت حياة على مبارك تغيرًا حاسمًا، فلما جاء الخديو عباس ألغـى البعثات وعاد على مبارك إلى مصر وعين على مبارك مدرسًا بمدرسة طرة الحربية، ونال درجة صاغ، واشترك على مبارك مع موجيل بك الفرنسى، كبير مهندسى القناطر الخيرية، فى وضع نظام لمرور السفن من القناطر الخيرية، وقد أعجب به الخديو عباس فرقاه إلى رتبة أميرالاى، وعينه ناظرًا لمدرسة المهندسخانة، وما يلحق بها من المدارس، وكلفه بوضع نظام للتعليم فى مدرسة المعزوزة واختيار مدرسيها وما يدرس فيها من الكتب، وقد نجح على مبارك نجاحًا عظيمًا وأثبت مقدرة عظيمة فى رفع مستوى المدارس التى عهد إليه إدارتها، وكان يقوم بتدريس الطبيعة والعمارة فى المدارس ويؤلف الكتب المدرسية، وبلغ به الاهتمام بإفادة المدارس بأن أنشأ مطبعة طبع فيها الكثير مما يلزم للمدارس الحربية وفرق الجيش، واهتم اهتمامًا كبيرًا بمأكل التلاميذ ومشربهم وملبسهم، وحث المعلمين على حسن معاملة التلاميذ حتى كاد الضرب والسجن وأمثالهما تختفى من المدارس، ولا غرابة فى ذلك فقد كان بطبيعته يكره الضرب والحبس فى التعليم من بداية حياته التعليمية، ولما جاء الخديو سعيد أمر على مبارك بالمساهمة فى حرب القرم سنة ١٨٥٤م وفى هذه المناسبة درس على مبارك اللغة التركية.

ولما عاد من حرب القرم قضى بضع سنوات بعيدًا عن الوظائف واشتغل بالتجارة وربح منها، وكان يبنى المدارس والبيوت ويكسب الكثير، وفى هذه الفترة وعندما تولى إسماعيل الحكم وكان صديقًا لعلى مبارك من أيام الدراسة فى باريس أكرمه وعينه إسماعيل ناظرًا على القناطر الخيرية، فأظهر مهارة عظيمة فى توزيع الماء بين فرعى رشيد ودمياط، وكان من سبقه من الموظفين يجتمعون على أن محاولة توزيع المياه تؤدى حتمًا إلى خلل فى بناء القناطر، ولكن على مبارك نجح فى ذلك، وأنشأ قناظر رياح المنوفية ومبانيها.

وإلى جانب عمله فى هذه المبانى عينه الخديو إسماعيل سنة ١٨٦٧م وكيلًا لوزارة المعارف والأشغال، وكانت الوظيفة تسمى ديوان المدارس. وتولاها ونجح فيها، وبعد سنة من عمله فى إدارة المدارس نقل إلى ديوان الأوقاف وأنعم عليه برتبة الباشوية، ونجح فى كل عمل تولاه واشتهر بالكفاءة والجلد وقوة الإرادة والنزاهة، وقد نقل إدارة المدارس من العباسية إلى درب الجماميز واحتلت إدارة التعليم قصر الأمير مصطفى فاضل شقيق الأمير طوسون بن محمد على تيسيرًا على التلاميذ وأهاليهم. وقد اشتهر هذا القصر فيما بعد عندما احتلته المدرسة الخديوية، وإلى جانب إدارة التعليم نقلت إلى هذا المبنى وزارتا المعارف والأشغال واشتهر على مبارك بالاجتهاد العظيم فى عمله، وهو صاحب الفضل فى لائحة ١٠ رجب من عام ١٢٤٨هـ التى نظمت المدارس، وأصدر الخديو هذه اللائحة فى سنة ١٨٦٨م، وهدفها توحيد نظم التعليم فى القطر كله وقسمت المدارس إلى ابتدائية وثانوية وعالية.

ولم تعرف مصر إلا القليلين جدًا من الممتازين من رجال التعليم، ولما كان على مبارك باشا ناظرًا للمعارف وديوان الأوقاف فى وقت واحد استطاع إصلاح عدد من الأماكن الموقوفة وجعلها مدارس بدلًا من بقائها خرائب معدومة الفائدة، وعمد كذلك إلى معاهد التعليم الموقوفة فحولها إلى مدارس نظامية وأحسن القيام إلى الأوقاف الخيرية، وأنفق جزءًا من إيرادها على التعليم، ومن كل ذلك نرى اهتمام هذا الرجل بالتعليم فى مصر.

وكان يلجأ فى عمله، والتماس كل فرصة، لاستنباط موارد جديدة لأنه كان رجلًا حديث الفكر وكان يرى بنظره البعيد أن الحكومة قد تضطرها ظروفها فى بعض الأحيان إلى أن تغل يدها على إمداد المدارس بكل ما يلزم من مال، وجهود على مبارك هى التى لفتت أنظار ذوى اليسار من الناس إلى دفع مصروفات قليلة لأبنائهم الذين كانوا يدرسون فى المدارس، أى دون أن يضطر أحد إلى ذلك، إلى دفع نفقات التعليم وبحسب قدرتهم المالية مع استمرار غير القادرين على التعليم بالمجان، وكان يختار لتدريس اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة نوابغ المتخرجين فى المدارس العالية الحديثة كالمهندسخانة والمحاسبة والإدارة والحقوق فيجعلهم معدين لدروس المعلمين فترة من الزمن حتى إذا تمرسوا فى التعليم وتمكنوا من مواردهم صاروا مدرسین مستقلين، وكان يحسن الانتفاع برجال التعليم الأجانب الذين كانوا يعملون فى مصر، ومثال ذلك استخدامه لدروبـك السويسرى مفتشًا عامًا للمدارس لإدخال الإصلاحات مدارس الحكومة لكى تصبح معادلة للمدارس الأجنبية التى كثرت فى مصر فى عصر محمد علی وخلفائه، وأصبح للمعارف ديوان خاص مستقل بشئون التعليم.

وعلى مبارك هو الذى يفكر فى مشروع مدرسة دار العلوم المشهورة، وكان مركزها الذى اختاره لها هو دار الأمير مصطفى فاضل، إدارة المدرسة الخديوية. وقد اتجه إلى تعليم البنات فأنشأ المدرسة السنية بحى السيدة زينب، وكانت أول الأمر بحى السيوفية، وقد ساعدته فى ذلك السيدة سنية زوجة الخديو الثالثة، وقد اشتهرت باسم المدرسة السنية، وكانت أول دار حديثة لتعليم البنات فى مصر والعالم العربى.

 

ولم يدع الرجل بابًا من أبواب التعليم والثقافة إلا وضع يده فيه وأنتج إنتاجًا طيبًا، وقد كان من جهده فى التعليم أن زاد عدد المتعلمين زيادة كبيرة ما بين مدرسین وطلاب، وازدادت حاجة الناس إلى الكتب، والكتب كانت موجودة فى مصر من قديم الزمان ولكنها لم تكن فى مكان واحد، وهنا نجد على مبارك يفكر فى إنشاء الكتب خانة أى دار الكتب، وكانت الحكومة قد أنشأت ثلاث صحف إحداها الصحيفة الرسمية وهى الوقائع المصرية والثانية صحيفة حربية تصدر عن الجيش، والثالثة صحيفة علمية عمل فيها أمهر الكتاب، وكان على مبارك قد عرف صحيفة الدولة الفرنسية، وهى دار الكتب الأهلية فأنشأ دار الكتب المصرية سنة ١٨٧١م، وبنى لها مبنى جميلًا فى باب الخلق، وكانت تشغل الميدان كله وتطل على شارع محمد على من ناحية وعلى محكمة الاستئناف من ناحية أخرى- وكان بيت على مبارك، أى مسكنه، يطل على دار الكتب من ناحية باب الخلق- وكان فى أول إنشائها فى قصر مصطفى فاضل باشا بدرب الجماميز وهذا هو مبنى المدرسة الخديوية بدرب الجماميز، وقد جمع فيها على مبارك كل ما استطاع جمعه من الكتب العربية، وأضاف إليها كتبًا كثيرة غير عربية وازدادت حاجة الناس إلى الكتب فأنشئت المطبعة الأميرية، وكانت الدار فى أول أمرها وقبل بناء دار الكتب فى بولاق، وأسس إسماعيل باشا دار الكتب فيها وأنشأ قريبًا منها مصنعًا للورق بقربها، وصاحب الفكرة فى إنشاء مصنع الورق مبنى دار الكتـب هـو إسماعيل باشا، ولكن التنفيذ كان على يد على باشا مبارك. ولم يكتف على مبارك بتنفيذ مشروعات التعليم بل وجد وقتًا لتأليف الكتب، وأشهر كتبه (الخطط التوفيقية) نسبة إلى الخديو توفيق، وتبلغ عدد د أجزائه عشرين مجلدًا.

وتوفى على مبارك سنة ١٣١١هـ/ ١٨٩٣م وقد تولى الوزارة وحصل على الباشوية أيام الخديو عباس بن طوسون بن محمد على، وهو من القلائل الذين رضى عنهم عباس وأشركه مع موصل بك فى بناء القناطر الخيرية، وقد أكرمه عباس فرقاه أولًا إلى رتبة صاغ ثم إلى رتبة أميرالاى وعينه ناظرًا لمدرسة المهندسخانة وما يلحق بها من المدارس، وهذا كله يعطيه الوزارة أو النظارة ومعها الباشوية، وقد أكلته الوزارة كما هو عهدها، ومع أنه استمر يعمل فى خدمة مصر إلا أن قدره أخذ يقل لأن لقب الوزير أو الناظر غطى عليه وكل عمل له قبل النظارة. 

وهذا هو ما أحب أن أقوله فى هذا الحديث، لأن على مبارك قبل الوزارة كان يشعر أنه يخدم بلدًا محترمًا على الرغم من أن مصر فى أيامه كانت خاضعة للدولة العثمانية ثم احتلها الإنجليز إلى جانب الدولة العثمانية، وكل عمل قام به بعد ذلك أصبح صغيرًا إلى جانب الوزارة والباشوية، وأخذ على مبارك باشا صورة الوزير الباشا، وبعد الثورة العرابية أصبح على مبارك مواطنًا متقوقعًا فى هيئة الوزير، ونفر منه رجال الثورة العرابية، ولم يأخذه البارودى معه فى الوزارة، وعندما قامت الثورة العرابية نظر إليه الثوار على أنه رجل من رجال الحكومة، وعندما هدد الإنجليز مصر اُعتبر من ر جال الحكومة، وعندما ذهب إلى الإسكندرية للتوسط بين المصريين والإنجليز نراه رجلًا جامدا، فالثائرون يرون أنه رجل من رجال الخديو إسماعيل، وكل أعماله أصبحت فى نظر الناس قليلة لأنه عندما أصبح ناظرًا أى وزيرًا أصبح الناس يطالبونه بالقيام بأعمال ضخمة بل مستحيلة، ثم لا يشكرونه بعد ذلك، لأن الخديو إسماعيل كان يرى كل وزرائه رجالًا صغارًا، وكان زميلًا لعثمان باشا رفقى وأمثاله، فالحكومة لا ترضى عنه والثوار لا يقدرونه، وقد ذهب إلى الإسكندرية للتوسط لدى الإنجليز، وأخذ هناك يجول لكى يصل إلى شىء، ولم يصل إلى شىء، ولكنه اشتهر عندنا بصورة الباشا المتحير الغارق فى الوزارة وملبسها غير الجميل، ونحن لم نكن نقدره إلى زمن قريب مع عظيم ما قام به من أعمال، وذلك لمجرد أنه كان ناظرًا أو وزيرًا وباشا، ولو أنه لم يكن باشا ولا وزيرًا لقدرناه أكثر، وهذا هو الذى أريد منك أن تذكره دائمًا ولا تنساه، والفرق جسيم بالطبع بين هذا الفلاح المحترم الذى شق طريقه بالعمل والجهد والإخلاص، ورجل مثل نوبار باشا الذى كان رجلًا محترمًا جدًا، ومحمد شريف باشا ومصطفى رياض باشا، ومن إليهم من باشوات العصر، فهؤلاء لم يكونوا يخدمون مصر مع شعورهم أنهم أهم منها، فى حين أن على مبارك كان يخدم مصر ويرى أنه خادمها، ولهذا فقد عمل كل ما رأيته من أعمال، فهو دون شك من بناة مصر الحديثة وخدمها الأوفياء، فقد كان- كما رأيت- يعمل باستمرار دون أن يزكى نفسه وصورته التى نراها اليوم فى الكتب صورة وزير ذلك العصر، وهى صورة لا تعجبنا لأنها فعلًا تقل عن حقيقة الرجل كثيرًا.

من كتاب «المصريون والحضارة»