رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولا بطّل سفر

فرق كبير بين الرحلة والسفر.. فرق كبير بين الغربة والسفارى.. ذلك الفارق لم يكن يشغلنى طوال السنوات الماضية ولا أظن أن أحدًا منا فكر فيه.. لكننا الآن جبرًا نفكر. 

لقد أجبرتنا أحوال الاقتصاد على أن نعرف أشياء كنا نعيشها دون أن نلتفت وصار العادى حلمًا.. أشياء بسيطة كنا نظنها تحدث صدفة لكنها لم تكن كذلك أبدًا. 

الآن.. يتحدث الخبراء فى الاقتصاد عن المصريين فى الخارج.. أعدادهم.. تحويلاتهم.. دولاراتهم.. لكن أحدًا لا يسأل عن أحوالهم.. أحزانهم.. متاعبهم.. أشواقهم.. أحلامهم. 

حوّلناهم إلى أرقام.. ورحنا نلعب بتلك الأرقام وكأننا نتسلى فى البلاى ستيشن.. لا أحد فكر فى أنهم غرباء وليسوا مسافرين.. أغلبهم طحنته سنوات الغربة.. سافر مجبرًا.. لم يذهب إلى هناك من أجل التسوق.

سنوات طويلة وهؤلاء الذين رحلوا عن ديارهم حتى صارت حيطان بيوتهم تنكرهم لا يتذكرهم أحد.. ربما الشعراء فقط كانوا يكتبونهم فى الأغانى.. وهم كانوا سعداء بذلك.. يرددون مع وردة والبليغ حمدى.. لا القلب يوم ارتاح.. ولا بطل سفر.. ويبكون.. ثم تنتهى الأغنية وينتهى نشيجهم فينامون على أسرّة الحنين مجهدين.. لكنهم راضون بما كتبت لهم أقدارهم.. راضون حتى يحدث ما جاءوا من أجله إلى تلك البلاد البعيدة دون أهل أو أحبة. 

سنوات طويلة وهم يبحثون وراء حلم.. مجرد حلم.. ربما جاء أحدهم لبلاد النفط.. أو بلاد الصقيع بحثًا عن تحويشة ليبنى بيتًا.. أو يشترى ذهبًا لعروس واعدها.. أو لينجو من بطالة فرضتها سنوات السادات ومبارك.. وقتها كان مجرد ذكر سيرتهم فى إحدى نشرات الأخبار يسعدهم.. ويوم أن أصبح لهم ممثلون فى البرلمان ظنوا أخيرًا أنهم وجدوا تلك الأوطان التى غادروها مرغمين. 

بعضهم سافر بحثًا عن العلم.. لأن العلم فى بلادنا لم يكن مطلوبًا.. وبعضهم سافر بحثًا عن بطولة بعد أن شوهنا معنى البطولة.. ونجحوا.. زويل على سبيل المثال وهناك ألف زويل يعمل فى الخارج وجميعهم ناجحون.. لكنهم جميعًا يعرفون أنها ليست بلادهم وأنهم سيعودون يومًا.. لنخلاتهم وجيرانهم وبيوتهم الفقيرة.. وكلما غنت شادية.. أصله ما عداش على مصر.. يبكون وتتشعلق دموعهم فى أقدام لاعب كرة يسجل هدفًا فى فريق منافس. 

أخيرًا تذكرناهم.. احتجنا لدولاراتهم.. أنجزنا مبادرة تتيح لهم العودة بسيارة بشروط ميسرة.. مجرد سيارة.. وفى نفس الوقت يساهمون فى حل أزمة مؤقتة فى أوطانهم.. الجميع رحب فى البداية.. لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن هناك من يعاملهم على أنهم فى رحلة.. حسنًا فعلت الحكومة عندما قررت إعادة النظر فى بعض مواد المبادرة.. حسنًا أن استجابت لملاحظات الخبراء والطيبين من أهلنا هنا وهناك.. هؤلاء الذين يريدون أن تنجح المبادرة.. لكننى كنت أتمنى أن نجد صيغة لمعاملة هؤلاء المغتربين باعتبارهم شركاء وطن لا مجرد جامعى أموال. 

المصريون فى الخارج.. مسافرون يتمنون العودة.. ومنهم من قرر أن يستثمر فى مشروع بيت الوطن.. كان عندهم حلم بأن يبنى كل منهم بيتًا.. بعد أن يعود ليعوض ما فات فى البلاد البعيدة.. بعض هؤلاء، وعددهم كبير جدًا، اشترى هذه الأرض بأقساط دولارية وقت أن كان الدولار بسبعة جنيهات.. الآن صار ملزمًا أن يدفع بسعره الجديد.. وهو ما يعنى أن سعر البيت الذى كان يحلم به صار رقمًا خرافيًا.. بعضهم لا يستطيع أن يكمل دفع الأقساط.. صار الحلم كابوسًا.. بعضهم راح يفتش عن زبون يشترى منه.. حتى يقلل الخسارة.. ومع الارتفاع الرهيب فى أسعار مواد البناء يصبح البناء والعمران ضربًا من الخيال.. عدد كبير من هؤلاء أرسل لنا يناشد الحكومة أن تتدخل ولو بجدولة الأقساط المتبقية. 

حكاوى المصريين فى الخارج ليست كلها همًا.. وحزنًا.. لكنها حكايات ممزوجة بالشجن.. حكايات غربة وليست حكايات سفر على الإطلاق. 

لا أعرف لماذا لا تقوم سفاراتنا بالخارج بعقد لقاءات دورية لهؤلاء؟.. لماذا لا نسمعهم ونسمع أفكارهم؟.. ماذا يفعل الملحقون الثقافيون فى تلك السفارات؟.. وماذا تفعل تلك الوزارة التى أسميناها وزارة الهجرة.. هم لم يهاجروا.. هم فى غربة مؤقتة.. لن تدوم.. هم معنا.. ويحلمون بأن يظلوا معنا فلماذا لا تساعدهم هذه الوزارة؟ 

السفر لعنة.. حتى وإن كان داخل البلاد.. السفر ليس رحلة على الإطلاق.. وأقسى ما يمكن أن نشعر به هو أن نعيش وكأننا فى سفر مستمر.